الأربعاء، 4 ديسمبر 2019

بقايا جيمس بوند


صحيح أن الحرب الباردة انتهت بشكلها القديم بين الشرق والغرب.. وصحيح أيضا أن انفتاح العالم ووجود الإنترنت قللا الحاجة لإرسال الجواسيس للدول المنافسة.. غير أن تقنيات التجسس ذاتها مازالت موجودة وجذابة وتحولت بعد أن كانت سرية وحكراً على الجواسيس الى سلع تجارية تباع على قارعة الطريق.

في عام1997 احتفلت المخابرات الأمريكية بمرور50 عاماً على إنشائها وكشفت بهذه المناسبة عن تقنيات تجسسية قديمة مثل: أحمر شفاه يطلق رصاصة قاتلة، وأحذية تبث غازات مخدرة، وكبسولات سامة تدفعها الجاسوسة بلسانها في فم عشيقها (تدعى القبلة القاتلة) وكاميرات تثبت على رؤوس الفئران والقطط لرؤية الأماكن المحظورة أو الضيقة.

وفي عام 2002 تأسس في واشنطن متحف خاص بالتجسس يضم أكثر من 1100 جهاز وتقنية تجسسية أصبحت في متناول الجميع.. فهناك مثلاً نظارات تصور مايراه صاحبها، وكاميرات تعلق في أقدام الحمام، وأقلام كهربائية صاعقة، وشوكولاتة قاتلة من السيانيد، وساعات تسجل المحادثات، وميكرفونات تنصت تبدو من الخارج كتفاحة متعفنة لا يرغب بأكلها أحد.

ومتحف التجسس هذا ليس الوحيد حول العالم ولا يخص فقط التقنيات الأمريكية فحوالي 85% من معروضاته تقنيات تجسس روسية ويابانية وصينية وتشيكية وألمانية شرقية اشتراها المتحف من المخابرات الأمريكية ولزيادة التشويق يُمنح الزوار فور دخولهم أسماء مستعارة وبطاقات هوية مزورة.

وحين انهار سور برلين تم إلغاء جهاز المخابرات الخاص بألمانيا الشرقية (الشتازي) وسمح للناس بالاطلاع (ليس فقط على ملفاتهم الخاصة في أرشيف المخابرات) بل على الأجهزة والتقنيات التي كانت تستعمل للتنصت على حياتهم الخاصة.. ومن هذه الأجهزة عنكبوت آلي يحمل كاميرا مصغرة تزحف داخل البيوت وتدخل من تحت الأبواب وتوجه بالريموت كنترول.. وهناك أيضاً طبق بحجم الكف يتنصت على كلام الناس حتى داخل بيوتهم (أصبح يوضع هذه الأيام حول ملاعب كرة القدم).. وهذا الجهاز بالذات يذكرني بجهاز مماثل قيل إنه قادر على تشويش أفكار الناس (عن بعد) بفضل تيارات مغناطيسية قوية!

أنا شخصياً دخلت في لندن متجراً لبيع أدوات التجسس التي يستعملها فقط جيمس بوند في أفلامه المعروفة، شاهدت فيه كاميرات بحجم الأزرار، وميكروفونات بشكل قلم، وتليفونات تغير الأصوات، وأجهزة تتبع تُلصق بالثياب، وأشياء كثيرة مماثلة (اشتريت منها ما رخص ثمنه وصغر حجمه وصعب على رجال الجمارك رؤيته)!

المؤكد أن تقنيات التجسس تحولت هذه الأيام إلى صناعة بحد ذاتها بسبب إقبال الناس عليها بنوايا مختلفة.. ورغم أن ما رأيته في متاحف ومحال البيع متخصصة يعد بمثابة أعاجيب حقيقية إلا أنها تعد قديمة ومتخلفة بمعايير التجسس الحديثة (وكأني الآن بضابط مخابرات يقرأ مقالي ويقول في نفسه: خبرك قديم يابو الشباب).. فجميع هذه الأدوات من بقايا الحرب الباردة وتعود تقنياتها إلى ستينات وسبعينات القرن العشرين. فدوائر المخابرات تحتكر دائماً أحدث التقنيات ولا تكشف عنها قبل ظهور أجهزة جديدة أفضل منها.. وحين تتنازل عن تقنياتها القديمة تتلقفها المؤسسات التجارية وتسوقها للعامة وهو ما يعني أن أجهزة المخابرات تستعمل حالياً تقنيات أكثر تقدماً قد لا نراها قبل عشرين أو ثلاثين عاماً من الآن!

ومرة أخرى.. قد يكون التجسس التقليدي انتهى بتحول أدواته إلى المتاحف وتسويقه على الناس؛ ولكن لا ننسى أن التجسس الإلكتروني هو البديل العصري الذي تطور بسرعة خارقة وأصبح ليس فقط

عابراً للقارات بل وأكثر خطورة وفعالية وإثارة للمشاكل بين الدول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...