الاثنين، 1 نوفمبر 2021

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه.. 

وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراجع وهضم حقوق المستفيد النهائي..

ولهذه الأسباب ــ التي يدركها كافة الناس بداهة ــ ظهرت في المجتمعات القديمة اتفاقيات غير مكتوبة لــتنظيم المقاييس وتحديد مواصفات السلع.. لم تخلو أسواق البشر طوال تاريخها من وجود وسائل قـياس (ووحدات قياسية) يتفق عليها البائع والمشتري منعا للظلم والغـبن وتجاوز الاتفاق العام.. صحيح أنها من ابتكار البشر، ولكنها تستمد سندها القانوني من اتفاق الناس عليها لدرجة توعد الله عز وجل من يخالفها أو يتجاوزها ــ بصرف النظر عن طبيعتها ــ في قوله تعالى  }ويـل للمطففين الذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ{..

    وحتى مائة وخمسين عام مضت كانت لكل منطقة مقاييسها ومواصفاتها ومكاييلها الخاصة ــ بل وحتى منطقتها الزمنية التي تختلف عن بقية المناطق حتى داخل الدولة ذاتها. غير أن انفتاح العالم وتمازج الثقافات وتنامي التجارية الدولية حـتـم توحيد المواصفات، والاتفاق على مقاييس ترتضيها كافة الشعوب. وهكذا عُقدت مؤتمرات، وظهرت منظمات، ووضعت اتفاقيات، الغرض منها توحيد المواصفات والمقاييس بين جميع الدول والقارات.. 

وكان المؤتمر الدولي للأوزان والمقاييس (CGPM) أول جهاز يتم إنشائه عام 1875 بشكل رسمي واتفاق عالمي (ومن خلاله ظهرت اتفاقية النظام المتري).. تبعـه ظهور المنظمة الدولية للتقييس ISO)) والمكتب الدولي للأوزان والمقاييس(  (BIPM والهيئة الدولية للمواصفات الكهروتقنية ((IEC والمنظمة الدولية للمقاييس القانونية (OIML) والمنظمة الدولية لاعتماد المختبرات (ILAC) وهيئة التقييس لدول مجلس التعاون الخليجي  (GSO)...الخ

... الجديد في الموضوع هو استضافة السعودية لاجتماعات معهد المواصفات والمقاييس التابع للدول الإسلامية (SMIIC)  في مركز الملك سلمان في المدينة المنورة.. وتقام الاجتماعات الحالية خلال الفترة بين 31 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 2021 برعاية معالي وزير التجارة الدكتور ماجد بن عبد الله القصبي.. وهذا المؤتمر بالذات يعد الأهم في تاريخ المعهد كونه يأتي بعد أكبر جائحة صحية مرت على العالم ظهرت خلالها منتجات وخدمات ومواصفات فرضت نفسها بقوة خـلال آخر عامين فقط. كما يعد الأكبر من نوعه كونه يضم (145) ممثلا لـ (45) دولة إسلامية و (14) منظمة إقليمية ودولية ــ ويتضمن الاجتماع الرابع لمجلس إدارة التقييس (SMC) والاجتماع الثاني والعشرين لمجلس الإدارة (BoD) والاجتماع السادس عشر للجمعية بمشاركة رؤساء أجهزة التقييس في كافة الدول الإسلامية.

     ومن المعروف أن هذا المعهد SMIIC يعمل تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي ويهدف إلى تفعيل التعاون في مجال التقييس واعتماد المواصفات وتطوير منظومة الجودة بين الدول الأعضاء ( ويمكن للمتخصصين الاطلاع على المواصفات والمقاييس المعتمده فيه من خلال البحث عن: دليل مواصفات الدول الإسلامية)..

   بقي أن أشير إلى أن السعودية من الدول المؤسسة للمعهد وترأست إدارته منذ عام ٢٠١٨ واستضافت اجتماعاته الدولية في مكة المكرمة عامي 2018 و2019. وفي نوفمبر2020 تم الاتفاق على تمديد فترة تولي محافظ الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس الدكتور سعد القصبي رئاسة المعهد حتى نهاية 2021م ــ الأمر الذي يؤكد الدور المحوري للمملكة في مجالات التعاون الإسلامي، ومواكبة هيئة المواصفات والمقاييس السعودية لمستهدفات رؤية 2021 في هذا المجال بالذات.. 

الاثنين، 3 مايو 2021

علوم مزيفة وعلم لا ينفع

 العلوم في نظري تنقسم الى ثلاثة أقسام رئيسية:

تطبيقية مفيدة.. وتنظيرية ممتعة.. ووهمية كاذبة.

تطبيقية مفيدة كالطب والجيولوجيا والزراعة كونها تقدم نتائج ملموسة وخدمات محسوسة ترى أثرها على حياة الناس.. وتنظيرية ممتعة كالآداب والفنون والفلسفة التي - وإن كانت لا تقدم منافع مادية ملموسة - تمنحنا متعة فكرية راقية.. أما النوع الثالث (موضوعنا اليوم) فعلوم وهمية فارغة لا تؤثر ولا تقدم كونها لا تشفي من مرض، ولا تخدم مجتمعا، ولا تقدم متعة حقيقية للعقل والروح والجسد.

لا أتوقع أن توافقني الرأي إن كنت أحد خريجيها أو العاملين فيها، ولكن قد يهمك معرفة أن هناك ما يسمى فعلا بالعلوم الكاذبة لدى خبراء البحث العلمي (وقد يطلق عليها أيضا اسم العلوم الوهمية أو الزائفة أو الهامشية وتدعى بالانجليزية Pseudo-science)!

والعلوم الكاذبة تبدو في ظاهرها كعلوم حقيقية، ولكنها في داخلها ومخرجاتها الواقعية مجرد انجازات هامشية لا تزدهر في غير بيئتها المحلية (مثل كوريا الشمالية التي تمنح شهادات دكتوراة في أقوال الزعيم كيم ايل سونج)! ويتضح زيف العلوم الوهمية أو الكاذبة، بمجرد مقارنتها بالعلوم الحقيقية أو الصادقة.

  • فالعلوم الحقيقية مثلا لا تجزم بوجود الأشياء قبل توثيقها ورصدها وتجربتها من خلال منهج علمي يتفق عليه الباحثون (في العالم أجمع).. وفي المقابل تجزم العلوم الكاذبة بالحقيقة التي تريدها (أولا ومقدما) ثم تختلق حولها أبحاثا ودراسات مزيفة لا يعترف بنتائجها ودرجاتها الأكاديمية غير مجتمعها المحلي.

  • أيضا العلوم الحقيقية تبحث عن الحقيقة بطريقة نزيهة ومحايدة لتحقيق المزيد من الفهم والمنفعة لجميع البشر.. وفي المقابل؛ الدافع غالبا وراء العلوم المزيفة يكون إما ثقافيا أو محليا أو أيدلوجيا (مثل إنشاء معهد خاص بمخ لينين في موسكو زمن العهد الماركسي)!

  • والعلوم الحقيقية تنطلق من فرضية خجولة (ولا تصبح نظرية) قبل أن تثبتها التجارب أو تؤكدها الدراسات.. وفي المقابل تقفز العلوم الزائفة لتقديم نظريات واثقة وجازمة (بل وخارقة للعادة مثل اكتشاف عشبة تعالج الإيدز) دون المرور بمرحلة الفرضية أو البحث أو تقديم دراسة أو تجربة فعلية...

  • والعاملون في العلوم الحقيقية يرحبون بتعديل النتائج والإضافة إليها وحتى إلغائها (ولا يعادونك أو يغضبون منك حين تفعل ذلك كونك تخدم البحث ذاته).. وفي المقابل يرفض العاملون في العلوم الهامشية أي تعديل أو حذف أو حتى تقديم دليل ينفي ما يعتبرونه حقيقة نهائية ومطلقة!

  • وفي حين تتغير النظريات العلمية وتتطور (وأحيانا تختفي لصالح حقيقة أكبر) تبقى الادعاءات المزيفة على حالها لا تنمو ولا تتطور ولا تختفي ولا يمَل أصحابها من تكرارها ومحاولة تعزيزها مهما أثبت الزمن عجزها وقصورها.

  • وغالبا ما تتحدث العلوم الحقيقية عن إنجاز وحيد ومستقل وصريح (كأن تعلن ناسا عن اكتشاف قمر جديد للمشتري) في حين تحشر العلوم الوهمية عشرات الادعاءات المبهمة لصالحها (كادعاء وجود خمسين دراسة عالمية تؤكد نجاحها) ولكن دون تقديم دليل واحد أو مصدر واضح تتأكد منه!

  • والعلوم الحقيقية تنشر أدلتها بشكل علني ودقيق ومفصل وموثق.. وفي المقابل تتهرب العلوم المزيفة من فعل ذلك وتحاول شغلك بادعاء يدغدغ عواطفك أو يناسب اعتقاداتك.. والأسوأ.. حين تربطه بمرجع عالمي يصعب تأكدك منه (كادعاء أحدهم بوجود دراسات من جامعة أدنبرة تؤكد وجود مكة في مركز الكون)!

  • والعلوم الحقيقية يغلب عليها طابع التعقيد وصعوبة فهمها من غير المتخصصين فيها (كتقنية النانو، والتفاعل الكيميائي، والمعادلات الإنشائية) في حين تتميز العلوم الكاذبة بالشعبية والسطحية وسهولة الفهم (بل وتلاحظ أنها ممتعة للعقل الجماعي كالتنجيم والكائنات الفضائية والخوارق النفسية والادعاءات الفلكلورية)!

  • وكما قلت في مقدمة المقال؛ العلوم الحقيقية تقدم نتائج فعلية وواقعية يمكن لجميع الناس رؤيتها والإحساس بها والاستفادة منها (كدور الطب في شفائنا، والهندسة في حياتنا، والتنقيب في اقتصادنا) في حين لا تقدم العلوم الوهمية إنجازات حقيقية ولا فوائد ملموسة ولا منفعة (لغير العاملين فيها)!

.. أيها السادة:

(علم لا ينفع) من الأمور التي استعاذ منها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.. وفي حين لن يتراجع مستوى اليابان وألمانيا وكوريا لو أغلقت كلياتها النظرية وتخصصاتها الوهمية (وهي قليلة على أي حال) نملك نحن أعدادا من الكليات الهامشية والتخصصات الوهمية والدرجات الأكاديمية المتخفية تحتها!

وبصراحة.. الوضع لا يحتمل التأخير عطفا على رسائل الدكتوراة التنظيرية وغير النافعة والمقروؤة.. وآلاف الخريجين الذين يحملون هذه الأيام شهادات "هامشية" ولا يملكون وظائف "حقيقية" ويحتاجون الى إعادة تأهيل بعد تخرجهم ويعيشون حالة انفصال فكري عن السياق الإنساني المعاصر...

الاثنين، 19 أبريل 2021

أتركوا من مات في قبره

 إليكم هذه النكتة من انجلترا:

... يحكى أن سائحا انجليزيا كان يمشي في شوارع باريس فاستوقفه رجل فرنسي مخمور وسأله: هل أنت إنجليزي؟ قال السائح: نعم .. أعاد عليه الفرنسي السؤال مرة أخرى: هل أنت متأكد أنك انجليزي!؟.. رد عليه: نعم أنا متأكد.. فما كان من الفرنسي إلا أن شمر عن ساعده وصفعة بقوة على وجهه..

الانجليزي فاجأته قوة الصفعة فقال بغضب: لماذا فعلت ذلك؟ رد الفرنسي المخمور: لأنكم قتلتم جان دارك.. قال الانجليزي مستغربا: ولكن حدث ذلك قبل 600 عام!! .. فقال الفرنسي المخمور : أنا لم أعلم بهذا سوى اليوم!!

وكي نفهم النكتة بشكل أفضل أشير الى أن جان دارك فتاة فرنسية مناضلة أسرها الانجليز عام 1430 أثناء احتلالهم لشمال فرنسا وأعدموها حرقا .. واليوم استلمت نكتة أفضل من خلال رسالة واتساب تحذر شبابنا من التعلق بناديي برشلونة وريال مدريد (لماذا؟) لأن الأسبان عذبوا أجدادنا في محاكم التفتيش قبل600 عام...

وهذه النصيحة مجرد نموذج لدعوات كثيرة من هذا النوع تعزف على أحداث تاريخية عفا عليها الزمن وأصبح فيها الناس غير الناس، والدول غير الدول .. فحين نحرض أبناءنا مثلا على أساس مافعله الصليبيون قبل قرون، أو حين يحرض الأوروبيون أبناءهم على أساس مافعله العثمانيون في شرق أوروبا، أو حين يحرض الصينيون أبناءهم على أساس مافعله اليابانيون في يانكين قبل الحرب العالمية الثانية.. يصبح الأمر بمثابة نكتة مأساوية تشبه صفعة الرجل المخمور...

  • لا أحد ينكر بشاعة محاكم التفتيش في أسبانيا، ولا قسوة المجازر التي ارتكبها الأتراك في بلغاريا وصربيا، ولا فظاعة دفن الناس أحياء في مدينة يانكين الصينية.. ولكنها فظائع عفا عليها الزمن يجب أن يتعلم البشر قطعها بالتسامح والنسيان (كما قطعها المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال لقريش: إذهبوا فأنتم الطلقاء) !!

... وحين تفكر بتجرد مستثنيا الفظائع التاريخية الموثقة تكتشف أن "التحريض التاريخي" يخالف بطبيعته قوانين العدالة والمنطق لأسباب كثيرة:

ففي حال فتحنا باب الأحقاد والانتقام على أساس تاريخي فلن يسلم من التهمة شعب أو أمة، ولن ننجو حتى نحن من تهمة ارتكاب مذابح تاريخية في حق الشعوب الأخرى (ولاداعي لذكر أمثلة)...

وكما أنه من الخطأ أخذ الأبناء بجريرة الآباء، من الظلم أخذ الأبناء بجريرة أجداد عاشوا قبلهم بقرون (فلا الأبناء أجرموا بحقنا، ولا نحن عانينا كأجدادنا).

أضف لهذا أن دعوات التحريض التاريخية لا تبلور سلاما ولا تصنع وئاما ولا تخدم مصالح البشر (وهي لا تخدم في الحقيقة غير أصحابها)!

وفي عالم اليوم بالذات تتقدم المصالح والأحلاف الدولية على الدوافع والأحقاد التاريخية بحيث لا يمكن لفرنسا مثلا أن تستمر بمعاداة ألمانيا (بحجة احتلالها في الحرب العالمية الثانية) ولا يمكن لليابان التخلي عن تحالفها القوي مع أمريكا (رغم قنبلتي هيروشيما ونجازاكي)!!

وفي المقابل أنا أول من يعترف بعدم إخلاء مسؤولية هذا الجيل مما يرتكب (هذه الأيام) ضد العرب والمسلمين (كما في سوريا أو بورما) لانتفاء الفارق الزمني، وعيش الجلاد والضحية في ذات الحقبة الزمنية...

مايجب أن نقوم به فعلا هو (عكس التحريض وإشعال الفتنة) ومحاولة التقرب والإحسان لأهل الديانات الأخرى.. يجب أن نبدأ صفحة جديدة مع كل جيل جديد طالما لم يبدأنا أحدهم بالحرب / تطبيقا لقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).

... رجاء ..

أتركوا من مات في قبره ، فنحن أبناء اليوم .. والحي أولى من الميت !!

الثلاثاء، 30 مارس 2021

مبادرة السعودية الخضراء هل تجعلنا روادا في مجال الزراعة الجافة

 مبادرة ولي العهد الأخيرة (بخصوص السعودية الخضراء) من شأنها سحب البساط الأخير من تحت قدمي إسرائيل.. 

فحتى اليوم ماتزال إسرائيل الدولة الرائدة في مجال الزراعة الصحراوية، وتقنيات الزراعة الجافة، واستخلاص الماء من رطوبة الجـو ...

تفوقها في مجال الأبحاث الزراعية جعلها المُصدر الأول لأجود أنواع التمور وفسائل النخيل في العالم.. أصبحت «النخلة الإسرائيلية» ثاني أكثر منتج للتمور بعـد (ليس نخلة المدينة أو القصيم) بـل نخلة كاليفورنيا التي استوردها الأميركان من الأحساء قبل قرنين وتنتج في المتوسط 70 كلغم (مقارنة بالنخلة الإسرائيلية 50 كلغم والنخلة السعودية 37 كلم)!

السؤال الذي مايزال قائما ؛ أين جهودنا وأبحاثنا نحن في هذا المجال؟

أين جامعاتنا ومراكز أبحاثـنا وحلولنا الخاصة بالجفاف والتصحر ورفع معدل زراعة الأشجار؟

باستثناء المكيف الصحراوي، ماذا صنعـنا؟

وإن كانت لدينا حلول وأبحاث، فـلماذا لا نراها ولا نلمس لها أثراً على أرض الواقع؟

القضية بالنسبة لنا مصيرية وتفوق في أهميتها إنتاج النفط وتصدير البترول.. فنحن نعيش في بيئة صحراوية لا مجال فيها للحياة إلا بابتكار حلول للجفاف والتصحر وضعف الإنتاج الزراعي.

يجب أن تظهر لدينا ثـقافة البحث والتخصص في هذا المجال بالذات.. يجب أن نشجع الأبحاث الصحراوية وتقديم حلول محلية.. يجب أن نخصص الجزء الأكبر من بعـثاتنا للخارج للدراسة في جامعات مشهورة بأبحاثها الزراعة الصحراوية - مثل جامعات أريزونا، وبــيرث، وجنوب تكساس، بـل وحتى جامعة حيفا وتل أبيب..

لا يتسع المقال للحديث عن تقنيات الزراعة الجافة (ولا حتى تحلية المياه التي ما زالت بأيادٍ أجنبية) لهذا سأقفز لقضية نادراً ما نتحدث عنها.. مسألة تأخرنا وتخلفنا في زراعة المحاصيل المالحة.. فرغم أننا نملك صحارى شاسعة وبيئة قاحلة، ولكن نملك أيضاً سواحل طويلة وبحاراً هائلة، يمكننا استغلالها في زراعة المحاصيل..

قد تبدو الفكرة غريبة، ولكن تذكر معي أن في أعماق البحار توجد نباتات وطحالب تعيش على المياه المالحة (طعمها أحلى من السكر).. بل إن التنوع النباتي داخل المياه المالحة أكثر من الموجود على سطح الأرض وبإمكانها سد احتياجاتنا إلى الأبد. منذ السبعينات بدأ علماء الهندسة الوراثية في البحث عن «الجينات» التي تمكن النباتات البحرية من التعامل مع الأملاح، ودمجـها لإنتاج أنواع مهجنة من القمح والأرز يمكن زراعتها على السواحل، وحتى الآن تبدو النتائج مشجعة وتمكنوا فعلاً من إنتاج أنواع من الأرز والقمح والذرة تسقي بمياه مالحة أو شحيحة أو شبه مالحة!

... وإن كـنا عاجزين عن إنشاء مراكز أبحاث مماثلة لتهجين المحاصيل (بحيث تصبح أقل استهلاكاً للمياه أو أكثر تحملاً للملوحة) فليس أقله البحث عن النباتات التي تعيش بشكل طبيعي على المياه المالحة..

قـبل عشرين عاماً سمعت عن محاولات زراعة نبتة الساليكورنيا في المنطقة الشرقية (بالتعاون مع معهد أبحاث أريزونا الزراعي) فأين وصل هذا المشروع؟ ولماذا لم نعد نسمع عـنه؟.. فهذه النبتة تعود إلى سواحل المكسيك وتشرب المياه المالحة وتفوق في إنتاجها نباتات تسقى بالمياه العذبة كالذرة وفول الصويا ودوار الشمس.. وهي مجرد مثال لنباتات كثيرة تعيش على المياه المالحة وتنموا بشكل طبيعي على شواطئ البحار والسبخات والتربة ذات التفاعل الحموضي..

كيف نستمر في استيراد محاصيل يستحيل زراعتها لدينا (كالأرز الذي يغمر بالمياه العذبة) في حين نتجاهل بطاطس تشيلي، وبذور الساليكورنيا، وطماطم كالاهاري، وجوز مالاوي التي تسقى كلها بمياه البحر المالحة...

أين وزارة الزراعة لدينا من تجربة محاصيل كهذه تعد أقل كلفة من تحلية المياه نفسها؟.. ألا يفترض بها امتلاك مركز متخصص بالمحاصيل المالحة يليق بامتلاكنا 3400 كيلومتر من السواحل القابلة للزراعة!؟

الموضوع ذو شجون.. وكل الشجون تجتمع تحت السؤال الكبير: أيـن ابتكاراتنا الصحراوية؟

وسائل الدفع القادمة

 خلال أغسطس 2018 وصلت إلى بنما ضمن جولة طويلة درت فيها حول العالم "بمعنى الكلمة". وحين وصلت إلى بنما تمت مصادرة الأموال النقدية التي أحملها بحجة أنني لم أصرح عنها كاملة، وبعـد انتهاء محاكمتي (وتكفل سفارتنا في البيرو بأتعاب القضية والمحامي) خرجت إلى المكسيك، وأكملت جولتي حول العالم ببطاقتي ائتمان فقط، توقـفت إحداهـما في هاواي.

وهذه القصة المختصرة، تختصر أفضلية البطاقات البلاستيكية "بأنواعها" على حمل الأوراق النقدية "الشكل الأقدم للمال".
أما هذه الأيام فـيبدو أن جائحة كورونا جعلت حـتى "البطاقات البلاستيكية" تبدو متخلفة أمام وسائل دفع أكثر تطورا ــ مثـل الدفع من خلال المحافظ الإلكترونية والتطبيقات الذكـية.
أمــا إن أردنـا التنبؤ بما هـو أبعـد من ذلك، فـدعونا نتذكر أولا أن أهــم مكونات بطاقاتنا الحالية "ليس البلاستيك" بــل الشريحة الإلكترونية التي تحمل بياناتك المالية والبنكية، وتتيح لأنظمة الدفـع الإلكترونية التعـرف على رصيدك ومعلوماتك الشخصية.
وهـذا يعني أن الشكل التقليدي والمستطيل للبطاقة البلاستيكية "غـير ضروري" أو مهم بحــد ذاته، فـالشريحة الإلكترونية يمكن زرعها مباشرة تحت جلدك ــ وتحديدا بين الإبهام والسبابة. لن يزيد حجمها على حبة الأرز ولكنها ستغنيك قريبا عن حمل المحفظة والنقــود وجميع البطاقات الإلكترونية. ستعمل كـــ"ذاكرة سحابية" تتضمن حساباتك البنكية وأرقامك السرية وملفاتك الصحية وشهاداتك الأكاديمية وصورك الشخصية، يمكنك أن تـحمل فيها كافة المعلومات والبيانات والوثائق التي ترغب في وجودها معك حتى أثناء نومك وسفرك واستحمامك وضياعك في صحراء النفود. ستتفوق على هاتفك الذكي وتضم عددا لا يحصى من التطبيقات الذكية والخدمات الشخصية والتفاعلات الطرفية، ستتفاعل بشكل مباشر مع جميع الأجهزة حولك "من خلال تقنية البلوتوث" فـتفتح لك الأبواب، وتقطع التذاكر، وتسمح بمرورك على مراكز التفتيش والجوازات والحدود الدولية بمجرد اقترابك منها.
وهذه الفرضيات ليست من قبيل الخيال أو المبالغة كونها تقنيات موجودة هذه الأيام، ولا يوجد عائق طبي يمنع زرعها "تحت جلدك" لأداء هـذه المهام.
أما الخطوة "ما بعـد المقبلة" فـستعتمد على بصماتك البيولوجية التي تميزك عن ثمانية مليارات إنسان ــ بمن فيهم شـقيقـك التوأم، ستلغي الشرائح "بأنواعها" وتكتفي بـنبرة صوتك، وبصمة أصبعك، وقزحية عينك، وتضاريس وجهك للتـعرف على بياناتك الشخصية وأرصدتك المالية وسجلاتك الائتمانية، سـتعتمد على أكثر من 21 بصمة بيولوجية "أخـرى" تغـنينا عن حمل المحافظ الجلدية، وتجعـلنا مكتفين بـأجسادنا "فقط" للدخول على بياناتنا الشخصية والحصول على المال من أي مكان في العالم .. بما في ذلك بـنما..

فكر داخل الصندوق

قـبل فترة ذهبت لبنكي المفضل لـلاشتراك في صندوق خاص بالأسهم أثبت نجاحه في آخر عشرة أعوام .. والمشكلة في صناديق الاستثمار أنها تستقطع من أموالك نسبة مئوية (سـنوية) سواء ربحت أم خسرت..
سألت موظف البنك: كم نسبة الاستقطاع؟ قال: سنأخذ 3 في المائة من رأس المال عند اشتراكك لأول مرة فـقـط. قـلت: هذه أعرفها، ولكنني أتحدث عن النسبة التي تستقطع سنويا.. قال: لايوجد استقطاع سنوي، فقط الاستقطاع الخاص بــأول اشتراك.. أصررت على رأيي وقلت: لا أعتقد ذلك، هناك حتما رسوم سنوية تخص المصاريف الإدارية.. أصر هو أيضا على موقفه، فـقلت: ما رأيك أن نتصل بالمسؤول عن الصندوق لنسأله.. اتصل بالفعل: فأخبره كلاما فضفاضا لم يجـب عن سؤالي.. طلبت الإذن بالحديث معه وسألته بنفسي: عفوا، كم النسبة التي تأخذونها (سنويا)؟.. كرر الكلام نفسه بخصوص أول استقطاع فقط، وأن الحسابات تصدر في نهاية العام، وأن أرباح الصندوق تعتمد على نشاط السوق ووو...
لم ينجح في تشتيت ذهني، فكررت سؤالي للمرة الثالثة: "الله يرضى عليك، كم تبلغ النسبة التي تأخذونها سنويا؟".. رضخ في النهاية وقال: 1,7 في المائة فقط.. قلت: وهل هذه النسبة مرتبطة بالربح فقط، دون الخسارة؟ قال: لا، هذه مصاريف ثابتة سواء ربح الصندوق أم خسـر..
وللوهلة الأولى قـد تبدو النسبة بسيطة (خصوصا حين يحقق الصندوق ربحا يفوق الــ10 في المائة) ولكن المشكلة أنه، في حال خسر بنسبة 10 في المائة ســتضاف هذه الخسارة إلى الـــ1,7 في المائة (الاستقطاع السنوي) والــ3 في المائة (أول استقطاع) فـيصبح مجموع خسائرك 14,7 في المائة.. وخسارة كهذه ستتراكم بمرور الأعوام لتصبح مبلغا ضخما لن يتحمله الصندوق أو البنك بالنيابــة عنك...
وحين أدركت هذه الحقيقة، أخبرته أنني سألغي فكرة اشتراكي معهم، وأشتري (بالمبلغ نفسه) أسهما مباشرة من دون استقطاع أو مصاريف سنوية.. وحينها فقط وافق على تخفيض الرسوم السنوية إلى 1.25 في المائة (وحتى في هذه الحالة لم أكن سأوافق لولا أن تاريخ الصندوق يؤكد نجاحه في آخر عشرة أعوام).
ـــ مــاذا نستفيد من هذه القصة؟
... ثلاثة أشياء:
الأول: أنها نموذج لوضعـية "عـدم إخبار العميل بكل شيء" التي تـعـتمدها البنوك خشية رفضه للخدمة..
والثاني: أنها مثال على أن البنوك عـدو من يجهل، وصديق من يعـلم، وأن معرفتك بطريقة عملها قــد يترجم لـربح أو خسارة...
أما الثالث، فهو أن استثمارك المباشر في الأسهم أفضل من اشتراكك في الصناديق في حال زادت نسبة الاستقطاع السنوي على 1,5 في المائة (ويجب أن يكون لديك سبب قوي للموافقة على 2 في المائة).

الاثنين، 22 فبراير 2021

عشرة اسباب لعدم الاستثمار بالخارج

 في آخر مقال «لا تبتعـد عن عقاراتك»، أشرت إلى أن الميزة الأساسية في العقارات هي حفظ الثروة وتحويلها إلى أصول مستقرة تتحكم فيها، وتورثها لأبنائك، وتضمن وجودها قربك. وهذا المطلب لا يتحقق في أي عقار تشتريه خارج دولتك بسبب صعوبة متابعته وإدارته واحتمال انقطاع صلتك بـه.

مـا لم تكن مليارديرا يملك طائرة خاصة، وجيشا من المحامين، لا أنصحك بشراء عقار "خارج دولتك" لـعـشرة أسباب رئيسة:
1) لأن قوانين التملك والإيجار والضرائب وتحويل الأموال ورسوم الخدمات (ووو) إما تختلف عن دولتك، أو لا تعلم بوجودها أصلا.
2) لأن قدراتك المادية "وظروف وقتك وعملك" لا تسمح دائما بالسفر لمتابعة أملاكك "وفي حال سمحت، ستخصم تكاليف السفر من أرباحك".
3) وبما أن عـمر العـقار "طـويل جـدا" هـل تضمن عـيشك للفـترة نفسها؟ هل سيتابعه أبناؤك من بعـدك؟ هل ستحقق أرباحا مجزية فـيما تبقى من حياتك؟
4) والحقيقة هي أن معظم المشاريع الموجهة للأجـانب تسوق كـمجسمات "غير مكتملة" بهدف استقطاب الأموال أولا، والوعـد ببناء المشاريع ثانيا.
5) ولهذا السبب، كثيرا ما تتوقف الشركات المـنفذة عن إكمال المشروع بعد جـمع الأموال ــ ودائما لأسباب قانونية أو خارجة عن إرادتها أو لأنهم نبهوك مسبقا لاحتمال ظهورها "في العقد الذي لم تقرأه جيدا".
6) وهذا يـذكرنا بحقيقة أن عقود الشركات تصاغ دائما بطريقة احترافية من خلال فريق قانوني لا يترك ثغـرة أو احتمال إدانة تستطيع استخدامه ضدها.
7) وهذا يعني أنك لا تستطيع مقاضاتها "ليس فقط بسبب تكاليف القضاء المرتفعة" بــل لأنك تـلعب "في غير أرضك" ضد جيش من المحامين.
8) أما المسوقون "الذين أقـنعوك بالشراء منذ البداية" فليسوا موظفين لدى الشركة لأسباب تتعلق بإخلاء المسؤولية والتنصل من الوعود التي يقدمونها.
9) وبسبب المشكلات السياسية غير المتوقعة أو ظهور تشريعات وقوانين جديدة، قـد تدخل في صراع مباشر مع السلطات الرسمية "كما حدث في تركيا".
10) وغالبا ما تملك الشركات العقارية المطورة نفوذا كبيرا داخل الدولة.. وبالتالي ستكتشف متأخرا أن لا أحد يريد إغضاب مطور عقاري كبير، من أجل مالك شقة صغير.
ولهذه الأسباب مجتمعة لا أنصحك بشراء أي عقار في الخـارج.. ما لم تكن أنت بنفسك "المطور العقاري الكبير" الذي يتنقـل بطائرة خاصة وجـيش من المحامين.

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...