الأربعاء، 8 يناير 2020

حكاية شيخ الجبل


رغم أنني شكّكَت في مقال قديم بكثير مما رواه الرحالة الإيطالي ماركو بولو؛ إلا أن قصته عن شيخ الجبل تتوافق جزئياً مع ماسجله التاريخ عن جماعة الحشاشين.. فقد تحدث عن قلعة في بلاد فارس تدعى آلمَوت (بمد الألف) يحكمها رجل دين يتزعم طائفة تدعى الحشاشين.. وكانت هذه الطائفة أول من ابتكر فكرة الاغتيال السياسي والتضحية بالنفس من خلال دافع محسوس وملموس (لم يتوفر لأعضاء القاعدة وداعش على أيامهم)..

فبدل أن يعدهم شيخ الجبل بالجنة وحور العين وأنهار الخمر والعسل كان يقدم لهم ذلك فعلياً.. فقد شيّد قصراً رائعاً في أحد الأودية الجميلة قرب نهر شاه ورد وزينه بالذهب والإستبرق وأجرى فيه أنهاراً صغيرة من العسل واللبن والخمر.. وكانت تسكن فيه فتيات جميلات اختطفن منذ طفولتهن ودربن على فنون الغزل والدلال والغناء والرقص والعيش بملابس شفافة.

وكان زعيم الجبل يأمر بإعطاء الشبان الجدد الحشيش والأفيون حتى إذا مادخلوا في غيبوبة يحملهم إلى "قصر السعادة".. وحين يستيقظون يذهلون من جمال المكان وكثرة الحسان وأطايب الطعام وأنهار الخمر والعسل.. وكانوا كلما سألوا الفتيات الحسان عن هذا المكان يقلن الجنة ونحن حورها العين..

ويتركهم على هذه الحال لفترة من الزمان (ويتأكد أن كل منهم عشق فتاة حسناء) ثم يدس لهم الحشيش مجدداً ويخرجهم من نعيم القصر إلى ضنك الصحراء.. وحين يستيقظون يقنعهم بأنهم كانوا بالفردوس وأنهم يجب أن يموتوا من أجله إن أرادوا العودة إليه مجدداً.

ثم يخضعهم لتدريبات خاصة بفنون القتال والاغتيال والانتحار الذي يعيدهم إلى الجنة (وبالأخص إلى الحبيبة التي تنتظرهم هناك)...

ويدعي ماركو بولو أن امتثالهم لسيدهم (شيخ الجبل) وصل حداً، أنه أمر ثلاثة منهم برمي أنفسهم من سطح القلعة الشاهق ففعلوا بلا تردد .. وأمر ثلاثة آخرين بقطع ألسنتهم بأسنانهم ففعلوا ذلك وأخرجوها بأيديهم أمامهم!!

... وهنا تنتهي رواية ماركو بولو التي ضمنها حسب رأيي شيئاً من توابل الشرق وسحر الرحلات..

أما القصة الحقيقية فهي أن مؤسس هذه الطائفة هو حسن الصباح الذي ولد ومات في إيران وكان يلقب بشيخ الجبل.. وهو من الشيعة "الاثنا عشرية" ومؤسس الطائفة الإسماعيلة في المشرق..

وكان حسن الصباح قد بدأ حياته بالدعوة للفاطميين وكان يبحث عن مكان حصين يحميه من السلاجقة الأتراك.. وبعد بحث طويل لم يجد أفضل من قلعة آلَمُوت (ومعناها بالفارسية عش النسر) التي تقع على ارتفاع 2,100 متر شمال إيران فاستولى عليها وحولها لمركز حصين لم يخرج منه طوال أربعين عاماً..

في عام (485 ه) شن السلاجقة حمله عسكرية لاقتحام قلعته فرد عليهم بعملية انتحارية قتل فيها وزيرهم القوي "نظام الملك" نفذها فدائي تنكر في زي رجل صوفي.. ويقول المؤرخ رشيد الدين إن حسن الصباح نصب فخه بعناية كي يشتهر ويخشاه الولاة وكان أول من رسم العمليات الفدائية.. ويصف أتباعه بالشجاعة والإقدام وكان أحدهم حسب قوله يدخل وحيدًا لاختراق جيش عرمرم أو فتح بوابة حصينة حتى يتقطع إربا فلا يردع ذلك رفيقه عن تكرار فعلته.. وكانوا في عزّ قوتهم يقطعون الطرق وينهبون القوافل ويسرقون أقوى الجيوش بما فيهم جيوش التتار رغم قوتها وشراستها...

وكان اغتيال نظام الملك واحدة فقط من اغتيالات كثيرة نفذوها ضد ملوك وأمراء وقادة وفقهاء استمرت حتى احتل هولاكو قلعة آلموت (عام1256م) وقضى على فتنتهم التي استمرت طوال قرنين!!

... كل هذا أيها السادة يثبت أن العمليات الانتحارية والاغتيالات السياسية لم تكن وليدة عصرنا الحاضر أو المنظمات الإرهابية الحديثة (بدليل دخول كلمة الحشاشين إلى اللغات الأوروبية بمعنى اغتيال سياسي أو أسيسينيشن Assassination)..

وبالإضافة إلى رواية رشيد الدين، ورواية ماركو بولو، أنصحك بشراء رواية تاريخية جميلة (مترجمة للعربية) تدعى "آلمُوت" أو قلعة النسور للكاتب السلوفاني فلاديمير بارتول.

الثلث الأوسط من الطب


ثُلث الطب بلاسيبو أو وهم حميد..

وثلثه الثاني ادعاء ودجل ولعب على مشاعر الناس..

وثلثه الأخير أطباء مخلصون وعلاجات مادية حقيقية..

وفي حين تحدثت عن الوهم الحميد (أو البلاسيبو) في أكثر من مقال.. وفي حين لا يحتاج "الأطباء المخلصون" لتعريف، يتبقى لدينا أولئك المدعون الذين يحققون رغم زيفهم نسب علاج مرتفعة...

أنا شخصياً لست من المعجبين كثيراً بالطب الشعبي.. وهذا ليس لشيء، سوى أنه إجراء غير مجرب يقوم به شخص غير مؤهل.. لا يمكن مقارنته بالطب الرسمي حيث يجرب العلاج الجديد على آلاف المتطوعين ولسنوات طويلة قبل السماح بتداوله. ومن العجيب أن معظم من يدعون الطب الشعبي (ناهيك عن علاج المس والصرع وانفصام الشخصية) لا يملكون تأهيلاً صحياً معترفاً به ومع هذا لا يتعرضون لطائلة المحاسبة أو مخالفة القانون بقدر من يقطع إشارة أو يتأخر في رخصة أو إقامة.. وفي حين يرفض جميعنا إصلاح سيارته لدى غير الميكانيكي يقبل بإخضاع جسده لغير طبيب متخصص لا يجيد حتى كتابة اسمه!!

ورغم اعترافي بنجاح الطب الشعبي في بعض الحالات إلا انه نجاح يعتمد إما على تأثير البلاسيبو أو قانون زهير بن أبي سلمى:

"المَنايَا خبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّرْ".. ويكسب الطبيب الفضل والأجر...

وحين فكرت في الأسباب التي قد تساهم في نجاح الطب الشعبي أو البديل وجدت أسباباً تعود إلى طبيعة الأمراض نفسها وأخرى إلى شخصية المريض وخلفيته الثقافية..

فعلى سبيل المثال:

معظم الأمراض لها فترة محدودة تنتهي بعدها بشكل طبيعي سواء بعلاج أو بدون علاج.. وهذه الظاهرة تساعد مدعي الطب على تسويق نفسه كسبب أساسي في الشفاء فتراه مثلاً ينصح المريض بتناول هذه الأعشاب أو تلك الخلطات (حتى يمنّ الله عليه بالعافية)!!

ومن جهة أخرى هناك جهاز المناعة الذي يعمل على مقاومة الأمراض بشكل تلقائي وينجح في الغالب بدون مساعدة خارجية.. فيظن المريض أنه السبب!!

والتأثير الوهمي قد يلعب أيضاً دوراً كبيراً في الشفاء.. فمن المعروف أن نسبة الشفاء بسبب هذا التأثير تصل إلى90% في بعض الأمراض.. وهذا التأثير (الذي يعرفه الأطباء باسم البلاسيبو) يظهر بمجرد جلوس المريض في حضرة دجال ضربت شهرته الآفاق!!

ليس هذا وحسب؛ بل اكتشف مؤخراً أن العلاج بالوهم له تأثير فعلي حقيقي بجانب التأثير النفسي المعروف. فحين يتم خداع المخ (المسيطر على أعضاء الجسم) يعمل على حث جهاز المناعة على إبداء المزيد من المقاومة، ويفرز موادَّ محفزة ويهيئ الجسم بأكمله نحو الشفاء!!

وكثير من الناس يلجأون لأدعياء الطب بعد علاجهم في المستشفيات أو على يد أطباء متخصصين. ولأن نتائجها تتأخر في الظهور قد يلجأ المريض للطب البديل أو الأطباء الشعبيين.. وفي هذا الوقت بالذات تظهر نتائج العلاج القديم فيعيد المريض الفضل إليهم!

وفي أحيان كثيرة لا يفلح الطبيب الشعبي في شفاء الحالة ويتخبط فعلا في كل اتجاه.. ورغم أن المريض أول من يكتشف هذا العجز يستمر في الترويج له بدافع خلفيته الثقافية او مسايرة لوسطه اجتماعي تصعب معارضته (وبيني وبينك حتى وزارة الصحة يصعب عليها الوقوف في وجه طبيب شعبي أو راق شرعي ضربت شهرته الأفاق)!!

كل هذه العوامل حين تتداخل قد تخدع أذكى الناس وتجعله يعتقد بفعالية علاج ما، في حين انه فاشل أو مزيف..

مايثير دهشتي بالفعل؛ ليس نجاح أدعياء الطب أو العلاجات المزيفة؛ بل عدم استغلال كليات الطب والأطباء الرسميين لجميع العوامل السابقة لصالحهم..

يكفي تأثير البلاسيبو الذي يكفل لوحده علاج معظم الأمراض البسيطة!!

ماذا لو أعاد السارق زرع يده؟


أكاد أجزم أن معظمكم شاهد في طفولته "وزغاً" ترك ذيله أو "جرادة" تركت رجلها أو "فأراً" قطع ذنبه أو "نجمة بحر" تركت أحد أطرافها..

والحقيقة أن هناك مخلوقات أكثر بكثير يمكنها تعويض أطرافها المقطوعة بنسخة جديدة مشابهة.. فسرطان البحر مثلاً يملك مخلبين (الأول) ضخم وكبير و(الثاني) عادي وصغير.. وحين يفقد المخلب "الكبير" يبدأ "الصغير" بالنمو والتضخم حتى يصل لحجم المخلب المقطوع لدرجة تعمد بعض مزارع السرطان لنزع المخلب الكبير المرة تلو الأخرى لبيعه على المطاعم دون الحاجة لقتل المخلوق نفسه!!

والأغرب من ذلك أن "دودة الأرض" يظهر لنصفها المقطوع المتضمن الذيل رأس جديد، وللنصف المتضمن الرأس ذيل جديد ... وهناك أيضاً دودة مفلطحة تدعى بلارينا تملك رأساً وعينين ولساناً وشفتين ومع ذلك لو قطعتها (مئة قطعة) عادت كل منها للنمو كمخلوق مستقل!

.. هذه العملية المدهشة تدعى "البتر الذاتي" حيث يعمد المخلوق إلى قطع أحد أطرافه عند الضرورة وتعويضه لاحقاً..

... وهناك دراسات كثيرة حاولت فهم هذه الظاهرة ونقلها للإنسان. والحقيقية هي أن علم الوراثة يسعى اليوم لتنشيط هذه الآلية (الخاملة) في الإنسان من خلال زرع الجينات المسؤولة عنها في حمضه النووي..

... هذه الظاهرة العجيبة كفيلة بإثارة العديد من الأسئلة الفلسفية والبيولوجية والطبية.. بل وحتى الفقهية..

فمن الأسئلة الفلسفية مثلاً لو كان لهذه المخلوقات أرواح (والروح من أمر ربي) فهل تنشطر بدورها بانشطار الجسد!؟

ومن الناحية البيولوجية ماهي الآلية التي تتيح لسمندل الماء ترك قدميه ورجليه بسهولة (قبل أن يعيدها لاحقاً) وتجعله يتميز عن الإنسان أو الحصان مثلاً..

وبخصوص الإنسان نفسه لماذا ينمو جلده وأسنانه وعظامه، في حين لا ينمو أصبعه أو يده أو قدماه وأنفه...

وهل ياترى سينجح الأطباء في تنشيط خلايا الجسم (في منطقة البتر) بحيث تنمو للإنسان أعضاء جديدة مكان الأعضاء المفقودة!

وفي حال نجاحهم مستقبلاً ماذا سيكون رأي الشرع في سارق أو مُفسد قُطعت يده أو أحد أطرافه ثم ذهب إلى الطبيب لإعادة إنمائها من جديد!؟

سأترك لكم حرية التفكير في هذه التساؤلات وأشير فقط إلى أنني قرأت قبل سنوات رواية خيالية (لا أعتقد أنها ستظل خيالية لزمن طويل) تدعى "سبيرز" أو قطع الغيار يتخيل فيها المؤلف زمناً يعمد فيه الأثرياء إلى استنساخ أجسادهم خشية الإصابة أو المرض.. وبهذه الطريقة يصبح لديهم ما يكفي من قطع الغيار في حالة احتاجوا يوماً لعضو مريض أو رأس معطوب. ولأن هذه الأعضاء مستنسخة من الجسد نفسه لا تواجه بمشكلة الرفض المناعي ويتقبلها الجسم بكل يسر وسهولة!!

.. قبل منتصف هذا القرن سيلجأ الناس إلى بنوك الأعضاء كما نلجأ نحن اليوم إلى بنوك الدم..

علم نفس الحشود.. وعلم حركة السوائل


التعامل مع الحشود البشرية الهائلة يكاد يكون مستحيلاً.. فالحشود نفسها لا تتحكم بنفسها وتتحرك كموجات ضخمة لا يمكنها التوقف حتى إن أرادت ذلك.. جربت أنا ذلك في أكثر من مناسبة سواء في مكة أو المدينة (ولا يمكنك فهم قصدي مالم تكن قد مررت بمثلها في أحد الحرمين الشريفين).. فقبل خمسة عشر عاماً كدت أفقد ابني حسام تحت أقدام الخارجين من صلاة العيد في المسجد النبوي.. كنت أحمل ابني الثاني فيصل (سنتان) وكان آلاف الناس يدفعونني بقوة هائلة رغم سقوط بعض المسنين أمامي.. حاولت عبثاً تنبيههم للتوقف حتى سقط حسام بدوره (وكان في الخامسة) لولا أن سخر الله له رجل مصري عملاق سحبه بقوة ورفعه فوق أكتافه...

الحشود البشرية تتصرف كنهر هادر أو سيل كاسح لا يمكنه التوقف ولا يسعه سوى جرف كل شيء في طريقه (لهذا أعتقد أن تصرفات الحشود تنطبق عليها قوانين الهيدروليكا أو حركة السوائل).. حين تكون بينهم ستشعر بقوى خارقة تدفعك (هي محصلة حركة آلاف الناس خلفك) بحيث تعجز عن التوقف أو عدم التقدم. تشعر بقوة هائلة لدرجة ترتفع قدماك عن الأرض وتستمر بدورك بدفع الناس أمامك بل ودهسهم والركوب فوقهم حتى إن كانوا من الأطفال والنساء والمسنين.. لا يمكنك أن تأمرهم بالتوقف لأن مامن أحد سيسمع صوتك وما من أحد في "الخلف" يعلم بحجم المأساة التي تحدث في "الأمام" فيبدأ الدهس ويرتفع الناس فوق بعضهم كهرم بشري ميت (قد يتجاوز أربعة أمتار كما حدث في نفق المعيصم عام 1410)...

هذا ما كنت أعنيه حين تحدثت في آخر مقال عن حادث منى وقلت إن تصرفات الحشود لا يمكن التحكم بها ولا يمكنهم هم التحكم في أنفسهم ولا مجال سوى تقدمهم بخط مستقيم ضمن مجال مفتوح (لا يضيق ولا يتقاطع ولا يخرج من بوابة أصغر من المسار نفسه).. يمكنك تشبيه الأمر بالازدحام المروري في دائري الرياض الذي يزداد تأزماً حين يضيق الخط فجأة، أو ينعطف فجأة، أو يتوقف بسبب تقاطع بشكل حرف T.

غير أنك (في الازدحام المروري) تكون داخل سيارتك سالماً مرتاحاً تملك حرية التنفس، في حين ستتعرض للاختناق والإعياء إن كنت بين حشود هائلة من الناس (ولا تملك حتى مساحة للوقوف إن سقطت تحت أقدام الناس)...

هذا من جهة علم الهيدروليكا..

أما من جهة علم نفس الحشود؛ فالناس (كمجموعات) يتصرفون بطريقة مختلفة عن تصرفهم كأفراد.. فالأفراد يجاملون بلطف ويتصرفون بوعي ويقدمون الضعفاء على أنفسهم، بينما الحشود تتصرف كموجات جماعية تسيرها المخاوف والإشاعات وحين يتملكها الهلع يعلو القوي منها الضعيف (وابحث في النت عما يعرف بعلم نفس الحشود)!

لهذا السبب أشرت في مقالي السابق إلى أن تلافي حوادث التدافع (في المشاعر المقدسة) لا تحله فقط مشروعات التوسعة، بل وأيضاً التخفيف من تواجد الحشود والاعتراف بأن المكان لم يعد يستوعب المزيد من البشر...

في زمن الملك عبدالعزيز لم يكن حجاج الخارج يتجاوزن العشرين ألف حاج.. غير أن سهولة السفر وتوسعة المشاعر (وارتفاع عدد المسلمين أنفسهم) جعل العدد يفوق المليونين هذه الأيام.. وبطبيعة الحال كلما فتحنا الباب أكثر ستأتي أعداد أكبر وتعجز بالتالي مشروعاتنا وتوسعاتنا السابقة عن استيعابهم..

وفي حين لم تعرف أوروبا كيف تتصرف مع مئة ألف لاجئ سوري طوال الأربعة أشهر الماضية..

وفي حين لم تجد تركيا والمجر والنمسا حلاً غير إغلاق حدودها أمامهم..

وفي حين عجز العراق عن استقبال خمسين ألف مواطن من محافظة صلاح الدين نزحوا فجأة لبغداد فمات كثير منهم من العطش والإرهاق...

نستقبل نحن مليوني زائر خلال ثلاثة أيام فقط في نجاح سنوي يتكرر دون أن تتحمل الدول الإسلامية عبئاً يُذكر...

وكي تكون صفحتنا بيضاء على الدوام؛ أعود وأقول إن مليوني حاج (كثير جداً) على بقعة جغرافية صغيرة كمنى لم تكن قبل الدولة السعودية تشهد أكثر من عشرين ألف حاج.

لا حل بلا تخفيض


في البداية ندعو بالرحمة والمغفرة لضحايا حادث التدافع في منى..

وفي كل حادث من هذا النوع يوجد عاملان مهمان لا يجوز أن نُركز أو نلقي اللوم على أحدهما دون الآخر..

الجانب الأول: الإمكانيات والاستعدادات المادية..

والثاني: التصرفات البشرية ومدى وعي الفرد وقدرته على التصرف في حالات الازدحام والتدافع (وهو ما أصبح يعرف بعلم الحشود)..

وفي حين يمكن التحكم بالجانب الأول وتطويره باستمرار (وهو ماحصل فعلاً من خلال مشروعات التوسعة المتواصلة في المشاعر المقدسة) لا يمكن التنبؤ بتصرفات الأفراد ولا التحكم بتدافع الحشود..

لا يمكنك التحكم بالجانب البشري أو توقع تصرفاته كونك تتحدث عن آلاف الإرادات الصغيرة، والخيارات الفردية، والأحكام الشخصية.. لا يمكن لخمسة من رجال الطوارئ (كما رأيت بعيني) إقناع حاج واحد فقط بخطورة الافتراش في الطريق - ناهيك عن توجيه آلاف الجنسيات لاتخاذ هذا المسار أو ذاك..

ولأنك لا تستطيع التحكم بالجانب البشري (خصوصاً حين تتعامل مع مئة لغة وجنسية) ولأن الحجيج أنفسهم لا يملكون خبرة أو وعياً مسبقاًً ستقع الحوادث لا محالة مهما وسعنا وطورنا وحرصنا وصرفنا.. ستحدث حتماً لأنك تتحدث عن حشود هائلة تزور الموقع لأول مرة ولا تملك خيارات كثيرة للتحرك أو الانتظار (بعكس من جرّب الحج عدة مرات ويملك خبرات مسبقة بخصوص كيف ومتى يتحرك)..

لهذا السبب أعتقد شخصياً أن حوادث الحجيج قد تستمر في الأعوام القادمة (كما استمرت في السنوات الماضية) مهما حرصت دولتنا وصرفت على مشروعات التوسعة العملاقة.. قد تستمر لأن ما من دولة في العالم يمكنها ببساطة التنبؤ بتصرف آلاف الأشخاص حين يواجهون أي مأزق طارئ.. ولأن الحل لا يكمن فقط في التوسعة والتطوير بل وأيضاً في عشوائية الحشود البشرية.. ولأن ما من توسعة تستوعب الارتفاع المضطرد في سكان العالم الإسلامي ورغبة ملايين المسلمين في التواجد في بقعة صغيرة كمنى.. (حتى الوقت) لن يسعفك للقيام بحملات توعية فعالة كونك تتعامل مع مئة جنسية يأتون المكان لأول مرة، ولا يبقون فيه لأكثر من يومين أو ثلاثة..

لا ينكر أحد حجم المشروعات والأموال التي صرفتها الدولة السعودية في مشروعات التطوير والتوسعة (وبشكل يفوق بمراحل كافة الدول السابقة) ولكن إلى متى سيحدث ذلك!؟

مساحة المشاعر محدودة، وأعداد المسلمين في ارتفاع؛ وحان الوقت للاعتراف بخطورة وجود مثل هذه الأعداد الكبيرة، في مناطق صغيرة، ولساعات قصيرة..

الحل (الذي يتقدم في نظري على مشروعات التوسعة) هو تخفيض عدد الحجيج بما يتناسب مع جغرافية المكان - لا مع ما يتناسب مع ارتفاع عدد المسلمين حول العالم..

الحل الذي يفرضه الواقع هو تقليل عدد الحجيج إلى مليون حاج فقط في العام..

وحتى هذا الرقم نذكره من باب أهون الضرر لأن ما من دولة في العالم تضمن عدم حدوث كوارث مميتة (من تدافع ودهس وحريق وأوبئة) حين يتحاشر مثل هذا العدد في بقعة محدودة كمنى - ناهيك عن المسعى والمطاف..

إن لم يحدث ذلك؛ لا يتوقع أحد عدم ظهور حوادث جديدة في السنوات التالية كونك لا تستطيع التحكم بتصرفات الحشود ولا التنبؤ بإرادات مليوني حاج يزورون المكان لأول مرة..

هل يعودون بعد ملايين السنين؟


مخلوقات كثيرة عادت للحياة بعد سبات طووووويل..

فقبل فترة مثلا قرأت في مجلة ديسكفري أن العلماء الروس تمكنوا من استنبات بذور شجرة انقرضت قبل 32 ألف عام.. عثروا عليها متجمدة في سيبيريا فأعادوا تدفئتها وزراعتها بحسب مناخها القديم حتى أنبتت وظهر منها (كما رأيت في الصورة) زهور بيضاء جميلة!

وبهذا يكون العلماء الروس في المعهد القومي للبيولوجيا قد تفوقوا على العلماء الإسرائيليين الذين استنبتوا نخلة من بذور تجاوز عمرها ألفي عام.. وكانت هذه النخلة أحد ثلاثة بذور عثر عليها قبل خمسين عاما في قلعة محترقة جنوب فلسطين. ورغم أنها أهملت لأربعة عقود تالية وخزنت دون عناية في درجة حرارة الغرفة إلا أن عالمة نبات تدعى سارا شالون تمكنت (عام 2005) من استنبات بذرة واحدة نمت حاليا الى نخلة كاملة...

وكان البروفيسور الأميركي نيلون هيرستون قد تمكن من تفقيس بيضة كوبيبود (وهو نوع من قشريات البحيرات العذبة) يزيد عمرها على 350 عاما .. ففي أغسطس 1990 عثر فريق من جامعة كورنيل على بيضة يعود عمرها للقرن السابع عشر في قاع بحيرة بولهيد الاميركية.. وهذه البيضة بالذات مرت بظروف استثنائية منعتها من التفقيس في حينها وبقيت في أدراج المعامل حتى تمكن العلماء من تفقيسها بعد هجوع اندثرت خلاله دول وإمبراطوريات!

أما في اليابان فقام عالم الأحياء اتيشوا أوجارا (في نهاية الثمانينيات) بتجميد خمسة فئران في درجة 22 تحت الصفر.. وحينها لم يخبر أحدا ولم يستعمل أي تقنيات حفظ خاصة بل قام ببساطة برمي الفئران في ثلاجة "الأكاديمية اليابانية للعلوم".. وبعد خمسة عشر عاما اكتشف زملاؤه الفئران المتجمدة فقاموا باستخلاص عينات من سائلها المنوي المجمد وحقنوها في عدد من إناث الفئران الحية. وكانت النتيجة أن فارة واحدة من بين كل خمس حملت بطريقة اصطناعية وأنجبت بطريقة طبيعية من "أب" ميت!

.. كل هذه التجارب تشي بإمكانية استعادة الحياة (الهاجعة) من بذور وأصول وراثية شبه منقرضة.. وإذا أضفنا لتقنيات الحفظ والتجميد تقنيات الاستنساخ والتنشيط الوراثي يمكننا أن نتحدث فعلا عن إمكانية استعادة مخلوقات كثيرة منقرضة في المستقبل القريب.

لن يختلف الأمر كثيراً عما رأيناه في الحديقة الجوراسية حيث ينجح العلماء في استنساخ الديناصورات واعادتها للحياة ضمن حديقة ترفيهية ضخمة (من خلال استخراج مورثات الديناصورات المنقرضة المعروفة بDNA).. وحين ظهر الفيلم لأول مرة (عام 1993) اعتبر من قبيل الخيال العلمي؛ ولكن تقنية الاستنساخ تقدمت بعده بسرعة فتم استنساخ النعجة دوللي في اسكتلندا، ونمر تسمانيا في استراليا، في حين أمرت الحكومة الكورية الجنوبية بإيقاف استنساخ أول مرحلة لجنين بشري عام 2007..

والحقيقة؛ هي أن الأمر لا يحتاج إلا لتشريعات دولية وتقنيات غير اعتيادية لتفعيل آخر خطوة في استنساخ المورثات القديمة.. وفي حال كان الأصل الوراثي سليما لا يبدو مهماً في أي تاريخ عاش المخلوق المنقرض.. فقبل خمسة أعوام مثلا نجح العلماء الأميركان في استعادة بكتيريا ظلت خاملة لأكثر من 250 مليون عام (أي قبل ظهور الديناصورات ب25 مليون عام) كانت هاجعة داخل بلورة ملحية على عمق 564 مترا تحت الأرض!

من أعرق عائلات الجزيرة العربية


سبق وكتبت ثلاث مقالات عن أعرق وأقوى العائلات في العالم.. تحدثت فيها عن عائلة روتشيلد وروكفلر ومورجان ودوبونت وبوش وتأثيرها على اقتصاد وسياسة الدول كافة.. وأشرت حينها إلى أنني وضعت شرطين أساسيين للاختيار والتصنيف:

الأول: امتداد نفوذ العائلة إلى خارج نطاق بلدها الأصلي (وتأثيرها على العالم أجمع سياسياً أو اقتصادياً).

والثاني: أن يكون تأثير العائلة قائماً حتى يومنا هذا ولم يبتلعه النسيان أو يدخل كتب التاريخ.. (ولهذا السبب لم أتحدث حينها عن عائلة رومانوف في روسيا، أو هابسبيرج في النمسا، أو مينج في الصين، أو الأشراف في الحجاز، أو غاندي في الهند)..

وفي الحقيقة لم تكن عائلة "آل سعود" غائبة عن ذهني حين كتبت تلك المقالات، ولكنني لم أشأ دمجها ضمن سياق عائلات حققت نفوذها العالمي من خلف الكواليس (كما فعلت عائلة روتشيلد مثلاً التي موّلت الأطراف المتقاتلة في الحربين العالميتين، أو عائلة مورجان التي ضغطت على الحكومة الأميركية لحماية مصالحها في أوروبا وتمويل عملياتها العسكرية هناك)!!

.. واختياري لعائلة آل سعود (كأعرق عائلة في تاريخنا العربي) اختيار محايد يعتمد على معايير مجردة نعرفها كلنا.. معايير اعتمدت على حجم التأثير في التاريخ والجغرافيا، والسياسة والاقتصاد، والنفوذ المحلي والتأثير العالمي - ناهيك عن الثقل المعنوي في العالمين العربي والإسلامي..

ويعود تأسيس هذه العائلة إلى مانع بن ربيعة المريدي الذي قدم مع أسرته إلى وادي حنيفة عام 1447م (أي قبل 568 عاماً) بدعوة من قريبه ابن درع أمير حجر اليمامة الذي منحه مناطق في وادي حنيفة أطلق عليها اسم الدرعية.. وفي حين يعود نسب العائلة إلى بني حنيفة، تشتهر بين الناس بانتسابها الى قبيلة عنزة.. وبهذا الخصوص قال الملك سلمان بن عبدالعزيز: "لو سئلت شخصياً لأجبت بأنني من بني حنيفة نسباً، ومن قبيلة عنزة حلفاً بسبب التداخل الكبير بين القبيلتين"..

وهناك على الأقل ستة أسباب أو معايير مجردة دعتني لاختيارها كأعرق عائلة في عالمنا العربي:

الأول: دورها التاريخي في توحيد أرجاء الجزيرة العربية وإقامة ثلاث دول فيها (السعودية الأولى والثانية والثالثة).

والثاني: إدارتها اليوم لواحدة من أقوى الدول عربياً وأغناها دولياً وأكثرها امتلاكاً للموارد الطبيعية..

والثالث: توافق القبائل عليها محلياً، واحترامها عالمياً، وتأثيرها اقتصادياً، وتوليها مسؤولية الحرمين الشريفين..

والرابع: أنها تعد الأطول بقاءً في الحكم - من الناحية السياسية - والأكثر استقراراً مقارنة بأنظمة عربية وعالمية ظهرت وبرزت ثم ضعفت وسقطت خلال وجودها..

والخامس: أنها تعد الأكثر مرونة وذكاء في التعامل مع المتغيرات العالمية وتجاوز أزمات دولية كثيرة عصفت بالمنطقة (بدءاً بالمد القومي، ومروراً بتفجيرات سبتمبر، وانتهاء بالربيع العربي)..

والسادس: صعوبة تجاهل تأثيرها على إمدادات الطاقة العالمية (من خلال دور السعودية القيادي في منظمة أوبك وحقيقة أنها أكبر مصدر للنفط وتملك ربع الاحتياطي العالمي)..

ورغم سياستها الخارجية الهادئة سبق للعالم أن جرّب مرتين قدرة العائلة الحاكمة على قفل صنبور النفط حين يتعلق الأمر بكرامتها الوطنية أو مسؤوليتها التاريخية.. المرة الأولى حين هدد الملك عبدالعزيز بتأميم حقول النفط عام 1950 ما لم تحصل بلاده على أرباح عادلة من شركات النفط الأميركية، والثانية عام 1973 حين قرر الملك فيصل قطع الإمدادات النفطية عن أميركا والدول المساندة لإسرائيل في حرب أكتوبر..

.. من يعرف عائلة أعظم شأناً في عصرنا الحاضر (وبحسب المعايير المجردة أعلاه) فليخبرنا.

طبيب المستقبل.. إلكتروني!


أعظم تقدم طبي شهدناه في السنوات الأخيرة لم يكون علاجاً للسرطان أو لقاحا للإيدز أو شفاءً من السكر؛ بل ظهور أعداد هائلة من البرامج الطبية الإلكترونية التي يمكن تحميلها على جوالاتنا وكمبيوتراتنا المحمولة..

برامج لا تقيس فقط نبضنا وضغطنا وسعراتنا الحرارية بل وقادرة على تشخيص أمراضنا الشائعة ووصف علاجات لها.. وهذا ينبئ بأن الكمبيوترات والجوالات ستكون قريباً مسؤولة عن تشخيص معظم الأمراض وإسداء معظم النصائح الطبية وستسعى الشركات المنتجة لها لمنحها حق صرف الأدوية رسمياً.. وسيتم هذا بشكل أسرع وأكثر فعالية من معظم الأطباء كونها ستملك إمكانيات خارقة تفوق قدرات البشر بأشواط.. فهي مثلاً ستتمتع بذاكرة خارقة وقدرة استيعاب هائلة للمعلومات والتخصصات الطبية وهو ما يصعب على أي طبيب الإحاطة به هذه الأيام..

· وستعمل انطلاقاً من بروتوكولات عالمية اتفق عليها أفضل الأطباء في مجالهم بحيث تتجاوز فوضى التشخيصات وتعدد الآراء الطبية..

كما ستنجز التحاليل المطلوبة بسرعة كبيرة بحيث يستطيع المريض قبل ان يقوم من كرسيه تلقي تقرير كامل ونهائي حول وضعه الصحي..

وستملك القدرة على التعلم وتطوير ذاتها من خلال مراجعة الحالات التى تم تشخيصها واعتماد الناجح منها كمرجع للحالات المشابهة..!!

أضف لهذا أنها سترتبط (عبر النت) بالمراكز العالمية المتقدمة الأمر الذى سيوفر لها خبرات طبية ومراجع معرفية تفوق الخيال..

وفي الحقيقة؛ جزء كبير من هذه التنبؤات واقع حالياً ويعتبر حجر الأساس لما سنشهده مستقبلاً.. وأكثر الكمبيوترات الطبية حداثة هذه الأيام يدعى كيومير ويضم معلومات عن اكثر من5770 مرضا شائعا ويمكنه التمييز بين الأعراض المتشابهة للأمراض المعروفة. ففور تزويده بالأعراض والتحاليل المطلوبة يعطى تقريراً سريعاً عن حالة المريض وتشخيص المرض ويصف الدواء المناسب. وهو في أسوأ الأحوال يعطي قائمة بالأمراض المحتملة الأمر الذى يسهل على الطبيب اختيار أقربها للصحة (كما تمنحك لوحة المفاتيح قائمة بالكلمات الأقرب للمعنى بمجرد البدء بكتابة أول حرف فيها)..

... وحتى تأخذ تلك الأجهزة دورها كاملاً لا ننسى انها تقوم حالياً بخدمات مهمة فى غرف العمليات ومعامل التحليل وتبادل الخبرات عبر الأقمار الصناعية.. ورغم اعترافي بتطورها السريع ستبقى بالتأكيد عاجزة عن مجاراة الذكاء البشري واتخاذ القرارات الصعبة وسيبقى الطبيب التقليدي الموجه الأساسي لعملها. فحال الطبيب مع هذه الأجهزة لن يختلف كثيراً عن حال المترجم مع القواميس الإلكترونية، أو المحاسب مع الآلة الحاسبة، أو قائد الطائرة مع الطيار الآلي، أو الكاتب مع برامج تنسيق النصوص.. ولكن المؤكد أنها ستأخذ دوراً كبيراً في حياتنا وأن ما من طبيب سيجرؤ مستقبلاً على تجاهلها أو عدم استشارتها وإلا حكم على نفسه بقصور القدرة وتخلف المعلومة!

عيون لا ترى الملائكة


لن تصدق محدودية أبصارنا حتى تكمل هذا المقال لنهايته...

فأعيينا وهذا أولاً لا ترى إلا من خلال "الضوء" الذي يشكل نطاقاً صغيراً ومحدوداً من الطيف الكهرومغناطيسي.. وهذا يعني أننا (لا نرى) من خلال الأشعة الحرارية ولا السينية ولا الراديوية ولا فوق البنفسجية ولا تحت الحمراء ولا أي طيف آخر يتيح لنا رؤية ما يختفي وراء الحوائط والجدران أو يوازي البومة التي ترى في الظلام أو النحلة التي تميز حدود الأطياف..

أيضاً أعيننا غير قادرة على التأقلم والتكيف بحيث ترى الأجسام الصغيرة جداً أو البعيدة جداً وبالتالي نحتاج إلى "ميكروسكوب" لرؤية الأشياء الدقيقة و"تليسكوب" لرؤية الأشياء البعيدة...

أضف لهذا أعيينا غير قادرة على متابعة ما يتحرك بسرعة بطيئة جداً (كزهرة عباد الشمس) أو سريعة جداً (كمروحة السقف أو حصاة يتم قذفها بسرعة)...

.. ولاحظ .. كل هذا ونحن لا نعرف على وجه التحديد لماذا نعجز عن رؤية الملائكة كالديكة، أو الشياطين كالحمير (كما جاء في الحديث الشريف)!!

... الحقيقة الواضحة؛ أن أعيننا تتوارى خجلاً أمام أعين مخلوقات كثيرة كالصقر (الذي يرى الأرنب من بعد أميال) والبومة (التي ترى في الظلام) والقرش (الذي يرى من خلال الموجات الكهربائية) والخفاش (الذي يحول تحركات الضحية إلى صور صوتية)!!

... ولكن.. من حسن الحظ أن اختراع التلسكوب، والميكروسكوب، والكاميرا، والتصوير بمختلف أنواعه؛ عوض لنا شيئاً من هذا القصور..

سأتجاوز مزايا الميكروسكوب (الذي نرى من خلاله الميكروبات والمخلوقات الدقيقة) والتلسكوب (الذي نرى من خلاله المجرات والكواكب البعيدة) وسأحدثكم عن مزايا التصوير (غير التقليدي)...

فالتصوير البطيء مثلاً حسم سؤالاً قديماً مفاده: "هل ترتفع حوافر الحصان الأربعة كلها أثناء ركضه بسرعة (بحيث يبدو طائراً في الهواء في لحظة معينة؟) أم لابد يلامس الأرض بحافر أو حافرين في جميع اللحظات؟"..

لم يتم حسم هذه المسألة إلا في القرن التاسع عشر حين قام إدوارد مايبرج بتصوير حصان يركض (بسرعة بطيئة) فاكتشف أن حوافر الحصان الأربعة ترتفع جميعها في لحظة معينة بحيث يبدو فعلاً طائراً في الهواء...

ومنذ ذلك الحين تمت الاستعانة بالتصوير البطيء للتأكد من حركة أجسام كثيرة تعجز العين عن رؤيتها (مثل ملامس الكرة لخط المرمى، أو دخول وخروج الرصاصة من الأجسام الطرية)..

كما أمكن (بصورة معاكسة) تسريع حركة الأجسام بحيث نرى مثلاً مراحل نمو الزهرة أو البذرة أو الجنين أو التئام الجرح لأغراض علمية وطبية مختلفة!

... وكانت الخطوة التالية اختراع كاميرات تعمل بسرعة الضوء وتلتقط بلايين الصور في كل ثانية.. وهذا يعني إمكانية رؤية وتتبع حركة الفوتونات الضوئية والجزيئات الذرية ورؤية ما يختفي خلف الجدار ويمكنك فتح اليوتيوب وإدخال كلمتيFemto Photography

أيضا هناك نوع جديد من التصوير يعمد ألى تضخيم المتغيرات، والمبالغة في إظهار الحركات.. فوجوهنا مثلاً يتغير لونها بحسب حالتنا النفسية (بين كذب، سعادة، نفور، ملل، نشاط).. غير أن هذه التغيرات صغيرة جداً لدرجة لا تلاحظها العين المجردة.. ولكن من خلال معالجتها ببرامج تصوير خاصة يتم تكبير وتضخيم هذه المتغيرات بحيث تدرك ما إن كان صديقك يكذب عليك أم يسعد بلقائك والحديث معك..

وكان أحد العلماء المشتغلين بهذا النوع من التصوير قد استعرض فيلمين لطفلته الرضيعة.. في الفيلم الأول بدت ساكنة تماماً (بحيث لا تعلم فعلاً إن كانت نائمة أم ميتة) وفي الثاني تم تضخيم المتغيرات بحيث بدا قفصها الصدري يرتفع وينخفض بشكل مبالغ فيه (وبالتالي يتأكد الأهل أن ابنتهم تتنفس بشكل جيد وتنام بشكل هادئ)!!

كل هذه التقنيات.. والاختراعات.. والمقارنة مع بقية المخلوقات.. تثبت محدودية أعيننا وضعف أبصارنا لولا تعويضها بالعقل والإبداع التقني...

المشكلة التي تقلقني؛ ان شعوباً أصبحت ترى بعيداً، وأخرى مازالت تعاني من ضعف البصر.

تعددت الديانات والتطرف واحد


في عهد عبدالرحمن الثاني كان في الأندلس راهب يدعى ايولخيو يتحدث العربية ويحفظ القرآن ويتزعم ماعُرف حينها ب"فتنة المستعربين".. كان حانقا بسبب إقبال الشباب المسيحي على تعلم اللغة العربية والدخول في دين الإسلام فتحول إلى مهاجمة الإسلام نفسه وحرض الرهبان على فعل ذلك مقابل دخولهم الجنة..

كان أتباعه يؤمنون بأنهم يحملون رسالة مقدسة فكان الواحد منهم يحرص على قتل شخص واحد على الأقل ممن اعتنقوا الإسلام - أو يذهب إلى مكان عام فيحرق القرآن ويسب الرسول علناً فيتم القبض عليه ويساق إلى القاضي الذي يحاول إقناعه بالعدول عن أقواله أو إعدامه فيفضل الإعدام.. وقد راح ضحية هذه الحركة الانتحارية عدد كبير من الرهبان والراهبات حتى خشي عبد الرحمن الثاني من ثورة الأسبان.. وفي سنة 237ه أمر بعقد مؤتمر ديني في قرطبة ضم جميع أساقفة الأندلس برئاسة مطران إشبيلية وحثهم على استنكار حركة هؤلاء المتطرفين وخروجهم على تعاليم الكنيسة فهدأت الفتنة (رغم ظهورها مجددا بعد خروج ايلوخيو من السجن فما كان من الأمير محمد بن عبدالرحمن الثاني إلا أن أمر باغتياله سنة 245ه)..

وقد اخترت هذه الحكاية (وليس مثلا حوادث التفجير الانتحارية التي تتم في عصرنا الحالي باسم الإسلام) للتنبيه بأن أعمال القتل والانتحار تتم في معظم الأديان تحت دعاوى مقدسة ومهامٍ سامية - من وجهة نظر أصحابها..

فالانتحار والقتل وتقديم الأضحيات ممارسة قديمة تغلف بإدعاءات قدسية مختلفة.. فالمسيحيون الأوائل كانوا يعتقدون مثلا أن القيامة ستقوم بعد 1000 عام من ميلاد المسيح. وحين شارفت الألفية الأولى على نهايتها قتل بعضهم نفسه وأطفاله فيما خرج الآخرون يجأرون ويستعدون للانجراف نحو السماء. وحين لم يحدث شيء - ومات من مات وقتل من قتل - ظهرت تفاسير جديدة تدعي ان القيامة أجلت الى نهاية الألفية الثانية.. وحين حل عصرنا الحديث (وانتهت الألفية الثانية عام 2000) دخل المسيحيون المتطرفون مجددا في حالة رعب وترقب وحدثت مجازر وانتحارات كثيرة بإسم الدين..

العجيب أن أعظم حوادث القتل والانتحار - في عصرنا الحديث - لم تعد تحدث في دول الغرب المسيحي بل في دول الشرق الإسلامي والشعوب حديثة العهد بالمسيحية.. لا أحتاج لتذكيركم بانجازات داعش في سورية أو تداعيات الصراع المذهبي في العراق، ولكن من المفيد إخباركم بماذا حدث في أوغندا وتايوان في مطلع الألفية الثالثة.. ففي أوغندا مثلا بدأت موجة من الانتحارات والقتل الجماعي بهذه المناسبة (واستعدادا لقيام الساعة) كان أضخمها 530 شخصا داخل كنيسة مدينة "كانونجو"، وأكثر من ألفي ضحية في أول يوم من العام في العاصمة كمبالا!!

أيضا هناك أتباع كنيسة "خلاص الله" التي أسسها قس تايواني يدعى "هونج ينج شين" أدعى أن الله – سبحانه وتعالى – سينزل بنفسه لحل مشاكل العالم.. وحين مر الموعد المضروب دون حدوث شيء انتحر قائلا "سأذهب بنفسي إلى السماء" فانتحر خلفه 150 شخصا فيما قتل عمدا 35 آخرون!!

.. هذه كلها مجرد أمثلة على خزعبلات كثيرة وأعمال قتل بشعة تحدث باسم الدين.. والتاريخ يشهد أن أعمال القتل والنهب والاضطهاد تحدث دائما من خوارج ومتطرفين يعتقدون أنهم أصحاب رسالات مقدسة والأقرب إلى الله من بقية البشر..

ولأن التاريخ لا يتوقف عن تكرار نفسه؛ حان للبشرية أن تعي هذه الحقيقة، وتعترف بأن الأيدلوجيات الدينية المتطرفة كانت (ومازالت للأسف في وطننا العربي) أكبر محرض للقتل والتناحر حتى بين أصحاب الديانة الواحدة نفسها.

.. وقارن رحمك الله؛

كم نفسا مسلمة أزهقنا في أفغانستان والعراق وسورية، مقارنة بما فعلته روسيا وأميركا وإسرائيل في نفس البلدان!!

بيننا اليوم من سيعيشون لقرن كامل


حاول علماء الأحياء وضع معادلات ونظريات تستنتج متوسط العمر الذي يفترض أن تصل إليه جميع الكائنات.. ولكن كلما وضعوا قاعدة لذلك وجدوا الإنسان يشذ عنها دون بقية المخلوقات!!

ومن المعادلات المشهورة في استنتاج متوسط أعمار المخلوقات ضرب العدد ستة (في) السن المحددة لاكتمال النمو؛ فالتمساح مثلاً يكتمل نموه خلال ثماني سنوات وبالتالي يبلغ متوسط عمره ثمانية وأربعين عاما (6×8=48) .. ووحيد القرن يكتمل نموه في سبع سنوات وبالتالي يعيش لاثنين وأربعين عاماً (6×7=42) .. وعليه يفترض أن يكون متوسط عمر الإنسان هو 108 أعوام (وذلك بضرب الرقم 6 في 18 عاماً هي سن اكتمال نموه).. غير أن هذا العمر نادراً ما يصدق على أرض الواقع وكان أقل من ذلك بكثير حتى مئة عام مضت!!

... أيضاً هناك قاعدة أخرى (وان كانت وصفية بوجه عام) تقول إنه كلما زاد حجم المخلوق وثقلت حركته كلما زاد حظه من العمر الطويل.. فحيوانات ضخمة وبطيئة كالفيل (60 عاماً) والحصان (35 عاماً) والجمل (30 عاماً) تعيش أطول من حيوانات صغيره وسريعة كالفأر (3 سنوات) والسنجاب (7 سنوات) والشحرور (11 سنة)..

ومع ذلك يلاحظ ان لهذه القاعدة استثناءات كثيرة لأن حيوانات ضئيلة كالببغاء تعمر لمئة عام، والسلحفاة لمئة وعشرين عاماً، وبعض الأسماك إلى ثلاث مئة عام.. أضف لذلك أن حجم الإنسان أقل كثيراً من حجم الفيل ومع ذلك يعيش لعمر أطول!!

وهناك قاعدة ثالثة تقول إن الحيوانات التي تخفق قلوبها بشكل أسرع تعيش لعمر أقصر والتي تخفق قلوبها بشكل أبطأ تعيش لوقت أطول.. فقلب الفيل مثلاً يخفق 30 مرة فى الدقيقة ويعيش لستين عاماً وأكثر؛ فى حين ان حيواناً أصغر منه كثيراً كالزبابة (وليس الذبابة) يخفق قلبه 1320 مرة ولا يعيش أكثر من عام واحد.

... وكما قلنا سابقاً؛ الإنسان هو الوحيد الذى يشذ عن أي قاعدة لتحديد عمره الأقصى.. فلو حاولنا تطبيق العلاقة الأخيرة (طول العمر بضربات القلب أو مرات التنفس) لأصبح عمر الإنسان لا يتجاوز الخامسة والعشرين؛ وهذا بالطبع يتنافى مع الواقع ويضطرنا لاستثنائه مجدداً من أي محاوله من هذا النوع..

المدهش فعلاً أن متوسط عمر الإنسان يتقدم بتقدم وعيه الصحي والرعاية الطبية التي يتلقاها.. وليس أدل على هذا من الارتفاع المضطرد في متوسط عمر الإنسان خلال القرن العشرين في الدول التي حظيت شعوبها برعاية صحية متقدمة (كما سنرى في المقال التالي)..

وأنا شخصياً؛ ليس لدي أدنى شك بأن متوسط أعمار البشر سيصل قبل نهاية هذا القرن إلى 100 عام، وأن معظم من ولدوا هذا العام 2015 سيحظون بفرصة أكبر للعيش قرناً كاملاً حتى 2115!!

ابتكر قوانين الجذب الخاصة بك


دعني أسألك أولاً:

كم مرة فكرت بشيء (بقوة) أو رغبت فيه (بشدة) فتحقق لك فجأة؟

.. لعلك تحاول التذكر الآن..

هذه الظاهرة حدثت مع الجميع رغم أن معظمنا نسيها أو لا يتذكر منها سوى حادثة أو حادثتين...

فحين تفكر بشيء ما؛ وبقوة ما؛ يتحقق مستقبلاً بطريقة ما..

هذا ببساطة مايسمى بقانون الجذب (الذي أقترح عليك البحث عنه أيضاً في غوغل)..

قانون مدهش وآلية غامضة تحوّل أفكارنا إلى وقائع عند مستوى معين من التفكير والتركيز..

وحين تدرك هذه الحقيقة ولعلك الآن تذكرت الحوادث التي مرت بك سابقاً يمكنك استغلالها بشكل واعٍ وتطبيقها بشكل واعٍ ومقصود..

أنا شخصياً كلما فكرت بزيارة بلد ما (وغالباً ما أفكر بذلك قبل عام أو عامين) ألاحظ أن الأمور تتأقلم وتتجمع وتتسهل لتحقيق هذا الهدف.. حين صممت مثلاً كتابي الرابع "حول العالم في 80 مقالاً" وضعت على غلافه الخارجي صور المؤلف أمام معالم عالمية مشهورة (كسور الصين، وأوبرا سيدني، وبرج إيفل) وكنت أقول في نفسي دائماً لا ينقصني سوى صورة أمام "تاج محل" في الهند..

وهكذا بدأت أفكر كثيراً بزيارة الهند حتى تلقيت ذات يوم مكالمة من رجل أعمال تربطني به صداقة كبيرة عارضاً عليّ مرافقته إلى هناك.. صحيح أنني دفعت تذكرتي بنفسي.. وصحيح أنه عاد بعد أربعة أيام.. إلا أنني لم أكن لأذهب لولا دعوته التي امتدت (بالنسبة لي) لشهر كامل وانتهت بالتقاط 600 صورة لتاج محل.

وحين تعطل ظهور الكتاب بسبب إفلاس الدار التي أتعامل معها بدأت أفكر جدياً بزيارة أميركا اللاتينية (والبرازيل خصوصاً لالتقاط صورة أمام تمثال ريو دي جانيوري الشهير).. وذات يوم تلقيت اتصالاً من منظمة أغفند لحضور مؤتمرها في الأروغواي.. صحيح ان المؤتمر لم يستغرق سوى أربعة أيام.. وصحيح ان جميع الضيوف عادوا من الأروغواي؛ إلا أنني تجولت في أميركا اللاتينية لمدة شهر كامل والتقطت صوراً ليس فقط لتمثال ريو بل ولشلالات إجوازا أعظم أعجوبة طبيعية على وجه الأرض...

لن أوجع راسك بمزيد من الأمثلة كانتقالي لصحيفة الرياض أو زيارتي الثانية لليابان.. ولن أدعي أن بقاءك أنت بلا حراك سيحقق كل أحلامك.. ولكن الحقيقة هي أن الأشياء نفسها تبقى ساكنة بلا حراك حتى تفكر فيها أنت فتتحرك باتجاهك دون بقية الخلق..

لن أحاول التفلسف وإيجاد تفسير عقلاني لهذه الظاهرة؛ ولكنها حدثت لمعظم الناس بطريقة ما وقالوا في ذلك: "إذا طريت الذيب جهز العصا" و"اللي يخاف من الجني يطلع له" و"تفاءلوا بالخير تجدوه" و"ماتفكر به اليوم تصادفه غداً" (مثل برازيلي) "وحياتنا أفكار تنبت فوق الأرض" (مثل صيني).. ولا ننسى حديثاً يصب في نفس المعنى يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا تمارضوا فتمرضوا فتموتوا)...

... وبناء على كل هذا؛ أقترح أن تبادر بابتكار قوانين الجذب الخاصة بك.. لن يضرك التفكير بكثرة وقوة بما ترغب بحصوله مستقبلاً.. يجب أن تفعل ذلك لأنك (حتى إن لم تصدق بقوانين الجذب) تحتاج إلى هدف مباشر وخطة واضحة لما يجب أن تكون عليه مستقبلاً!!

... أنا شخصياً واثق بأن ابني فيصل سيشتري ذات يوم مرسيدس فئة E كونه ينظر يومياً إلى صورتها المعلقة أمام مكتبه منذ سنوات.. وأثق من ذلك لأنه (حتى إن لم تصدق معه قوانين الجذب) يملك على الأقل "صورة" واضحة لما يريده مستقبلا..

وحين تملك أنت صورة واضحة لما تريده لاحقاً تنتقل تلقائياً لأهم قانون في النجاح (يتبناه حتى من يعارض قوانين الجذب): حدد أولوياتك مسبقاً واختر هدفاً واضحاً تريد تحقيقه مستقبلاً.

من عشق فعفّ فمات


لم نكن لنسمع عن "قيس وليلى" و"روميو وجولييت" و"جميل بثينة" أو "عنترة وعبلة" لو أن علاقتهما انتهت بالزواج.. ما يحفظ قصص العشاق هو "دراما" الفراق وعدم الوصال وتقديم "نموذج" يتكرر في كل جيل..

.. قبل فترة قرأت لقاء مع ابن الشاعر المصري الراحل أحمد رامي يسرد فيه محطات من سيرة والده وعلاقته بأم كلثوم.. وكانت علاقة رامي بأم كلثوم قد بدأت مبكرا حين قرأت له قصيدة "الصبّ تفضحه عيونه" فغنتها فاتصل بها ليشكرها.. ومن المعروف أن أحمد رامي كتب أشعاره بالفصحى والعامية وترجم رباعايات الخيام من الفارسية، وكتب نصف أغاني أم كلثوم وكانت تحول إليه ما تبقى من القصائد لتقييمها.. وفي هذا اللقاء سئل ابنه (توحيد) عن صحة الادعاء بأن والده أحب أم كلثوم فقال: سألت والدي عن ذلك فقال: "نعم أحببتها ولكنني لم أخبرها بذلك أبدا".. ولكن أم كلثوم ووالدتي (التي وصلت اليوم لسن المئة) كانتا تعرفان ذلك، وكانت والدتي حين يسألها أحد: هل صحيح إن أحمد بيحب أم كلثوم؟ تبتسم وتقول: وأنا كمان بحب أم كلثوم!

.. والعشق ذاته عاطفة نبيلة لا يملك حيالها الانسان شيئا.. وكانت العرب تقدرها كثيرا ولا تلوم حتى بناتها في ذلك.. قال رجل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين رأيت امرأة فعشقتها فقال: ذلك ما لا تملك. وقيل ليحيى بن معاذ: إن ابنك قد عشق فلانة، فقال: الحمد لله الذى صيّره إلى طبع الأوادم..

وليس أدل من تقدير العرب لهذه العاطفة أنها كما ذكرت قبل أيام قسمت الحب الى عشر مراحل تبدأ ب(بالحب والهوى) فإذا زاد سمي (الكلف) ثم (العشق) ثم (الشغف) ثم (الجوى) ثم (التيم) ثم مرض يدعى (التبل) ثم اضطراب في العقل يدعى (التدلية) حتى ينتهي ب(الهيوم) حيث يهيم المحب على وجهه كالمجانين.. والمرحلة الأخيرة هي التي وصل إليها قيس بن الملوح لدرجة أحضره أبوه إلى مكة ليسأل الله له العافية من حب ليلى فتعلق بأستار الكعبة وقال: اللهم زدني بها حبا، وكلفا، ولا تنسني ذكرها أبدا..!

ومصيبة قيس كانت في أن العرب تخشى تزويج العشاق خوفا من اعتقاد الناس بأنهم أُجبروا على ذلك بقصد الستر.. فآفة العشق فعل الفاحشة وانتشار الفضيحة وقالوا في ذلك: إن الحب إذا نكح فسد.. وبالتالي إن سلم العشق من هذا الاحتمال يصبح من أسمى العواطف وأنبل الأخلاق بدليل حديث (من عشق وعفّ وكتم ثم مات مات شهيدا)، والذي أتى أيضا بلفظي(من عشق فكتم ثم مات) و(من عشق فظفر ثم مات)..

وقال بعض العلماء ممن صححوا هذا الحديث إن الموت عشقاً أشرف منزلة من الموت حرقا أو غرقا (التي أتت فيها أيضا أحاديث تبشر أصحابها بالشهادة) وذلك لأن العفاف فيه مخالفة لهوى النفس وشهوات الجسد.. ومخالفة هذا في حضرة العاشق يرتفع لمرتبة الأعمال الصالحة بدليل الثلاثة الذين سُد عليهم مخرج المغارة فدعوا الله بصالح أعمالهم وكان بينهم رجل عفيف قالت له ابنة عمه: "اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه" قال: "فانصرفت عنها وهى أحب الناس إلي"!

.. المشكلة؛ أن "الصب تفضحه عيونه" مهما كتم وتعذب بصمت.. وفي حياة كل انسان قصة.

الحياة ملعب كبير


لاحظت شخصياً أن الأطفال حتى حين يشتركون في أي لعبة أول ما يسألون عنه هو "من الفائز؟".. وحتى حين لا يجيدون اللعب يدّعون فوزهم في نهايتها أو تنهال دموعهم لنهايتها.. وحين نكبر تكبر معنا ألعابنا وتصبح أغلى ثمناً وتظهر بشكل سيارة فارهة أو فيلا فاخرة أو مقتنيات ثمينة نستعرضها بأي طريقة فقط لإثبات (فوزنا) في لعبة الحياة!

ندرك دون وعي منا أننا نخوض يومياً ألعاباً تتضمن التفاوض لتحقيق أدنى قدر من الثمن وإثبات الذات بأعلى حد من الجودة وفرض الرأي.. نفعل ذلك حين نتفاوض مع السباك والكهربائي والحداد أو حتى مديرنا في العمل فنتحاور ونبالغ وندعي ونكذب لتحقيق أكبر مكسب ممكن..

المدهش أكثر أن هناك بالفعل نظرية تدعى "نظرية الألعاب" تبحث في أفضل الخيارات الممكنة لاتخاذ القرارات الرابحة.. نظرية صالحة في السياسة والاقتصاد وشؤون الحياة رغم أنها انطلقت أولا من دراسة الألعاب الذهنية المعروفة (كالشطرنج والزهر والقمار).. والمقصود بالألعاب هنا هي المعضلات في أي مجال كانت في حين أن اللاعبين هم أفراد ومؤسسات وأمم تسعى لتحقيق الانتصار (بأي ثمن).. وهي في إطارها العام تحلل تضارب المصالح للتوصل لأفضل خيار ممكن.. تتضمن مجموعة من القواعد والتصرفات المشتركة التي تخمن أفضل الخيارات في ظروف قد لا تكون دائما مناسبة أو مواتية..

ويمكن القول إن النظرية تبلورت بشكل رسمي سنة 1944 على يد جون فون نويمان وأوسكار شتيرن اللذين وضعا كتابا بعنوان "نظرية الألعاب وتصرف الاقتصاد"

Behavior The Theory of Games and Economic

وفي عام 1994 حصل كل من جون ناش وسيلتين وهارسانيي على جائزة نوبل للاقتصاد وذلك لدراساتهم التي وسعت من استخدام هذه النظرية في أسواق الاقتصاد (وتم استعراض قصة حياة ناش في فيلم سينمائي يدعى عقل جميل عام2001)..

أما على مستوى التعامل الإنساني (بين الأفراد) فهناك كتاب بعنوان (ألعاب يمارسها الناس) يناقش الحيل والمكائد وأساليب الضغط التي نمارسها مع بعضنا البعض خلال تعاملاتنا اليومية.. وفي الجزء الأول من هذا الكتاب يقسم المؤلف إيرك بيرني تعاملاتنا مع الآخرين من خلال ثلاثة مواقف رئيسية هي: الموقف الأبوي، والطفولي، والراشد.. فرئيسك في العمل مثلا قد يتعامل معك بطريقة أبوية قاسية (كرد فعل على اضطهاده في الطفولة) أو بطريقة طفولية ساذجة (تعتمد على رد الفعل أو مزاجه في ذلك اليوم)، أو بطريقة راشدة (تعتمد على الاحترام المتبادل والمعاملة حسب القوانين والأنظمة)..

أما الجزء الثاني من الكتاب (وهو الممتع فعلا) فيتضمن نماذج وأمثلة لطرق التعامل المبطنة بين الناس.. فنحن "نلعب" دائما مع بعضنا ألعابا لاستعراض القوى، واثبات الذات، وتحصيل المكاسب، وتغيير آراء الآخرين بل وحتى ألعابا خاصة بالمحبين مثل لعبة القط والفأر.. ومن خلال العناوين الرئيسية يمكنك فهم الألعاب النفسية التي يمارسها معك من حولك مثل لعبة هل رأيت نتيجة عملك؟ أو ماذا حصل لي بسببك؟ وحاول تنفيذ ذلك إن استطعت.. والشخصية الدلوعة أو المتمنعة.. وتوجيهك بطريقة لو كنت مكانك لفعلت كذا وكذا.. وانظر كيف حاولت بجهد أو ضحيت من أجلك.. والاستسلام المشروط (بطريقة موافق ولكن يجب أن تفعل كذا وكذا).. والاعتذار المبطن (مثل كنت فقط أحاول مساعدتك).. والابتزاز المؤدب (بطريقة تسعدني خدمتك ولكن لدي طلب بسيط).

هل يمكننا يوماً العيش بلا أجساد؟


ليس مثل العرب في إدراك علاقة الرأس بالجسد..

فحين نريد موت أحدهم "نقطع رأسه" وحين نحترم شخصا نقول "على رأسي" وحين نرد عليه نقول "يسلم لي رأسك" وحين نؤكد مواقفنا نقول "على رقبتي" أو "مادام رأسي يشم الهوا" !

.. ولا يبدو أن علاقتنا بالرأس ستنتهي قريبا كون التقدم العلمي يسير باتجاه إبقاء الرؤوس حتى بعد ذهاب أصحابها..

فالعنوان الذي بدأنا به المقال قد يبدو خياليا وغير معقول، ولكن الحقيقة هي أننا نعيش بلا أجساد في عالم الأحلام (فنرى ونسمع ونتحرك دون حاجة لحواس وعضلات).. كما نعيش بعد وفاتنا وتحلل أجسادنا في عالم البرزخ منتظرين انتهاء الدنيا وقيام الساعة ومعرفة مستقرنا النهائي.. أما في حياتنا الدنيا فيمكننا هذه الأيام الاحتفاظ بالرؤوس المقطوعة حية من خلال أجهزة الدعم التي تزودها بالدم والأوكسجين (خصوصا في حال تم ذلك أثناء حياتها وقبل فصلها عن الجسد)..

أذكر أنني كتبت مقالا تحدثت فيه عن نجاح الطبيب الروسي سيرجي بركوننكو في الاحتفاظ برأس كلب مقطوع (حياً) لمدة طويلة. ويعود سر نجاحه إلى ابتكاره آلة تضخ الدم والغذاء للرأس المقطوع تعد نواة الآلة المستعملة حاليا في العمليات الجراحية..

وفي عام 1954 قام جراح روسي آخر يدعى فلاديمير ديموكوف بقطع رأس كلب صغير وزرعه قرب رأس كلب آخر ضخم.. وكانت هذه العملية واحدة من عشرين عملية مماثلة تضمن بعضها إيصال النصف الخلفي لأحد الكلاب بالنصف الأمامي لنوعية أخرى مختلفة.. وحينها حظيت هذه التجارب برعاية الحزب الشيوعي الحاكم الذي روج لها لإثبات تقدم الاتحاد السوفياتي.. وأيضا.. لإيجاد حل سريع لمشكلة الأعمار المتقدمة التي طالت الرؤوس الكبيرة في الحزب!

.. أما هذه الأيام فأصبح من السهل القيام بهذه العملية حتى في أقل المستشفيات إمكانية ولكن لم ينجح أي جراح في إعادة ربط الحبل الشوكي العصبي بقاعدة الدماغ (ولو نجحوا في ذلك لما رأيت بيننا مصابا بالشلل الرباعي)!

والحقيقة هي أن حالات الشلل الرباعي نفسها قد تكون خير دليل على إمكانية عيش الرأس بلا جسد.. ففي هذه الحالة يصاب الجسد من أسفل الرقبة بشلل كامل يشمل الأطراف الأربعة.. وهذا يعني أن الجسد يتحول الى مجرد قاعدة حيوية لدعم الرأس فقط بحيث يبقى الانسان حيا يفكر وينظر ويسمع "ويشم الهوا"..

ومن جهة أخرى؛ تمكن العلماء منذ السبعينيات من استخراج الأدمغة البشرية وإبقائها حية في سوائل حافظة مليئة بالأوكسجين.. وهي طريقة توازي الاحتفاظ بالجسد الميت دماغيا من خلال ربطه بأجهزة الدعم الحيوية.. وهذا يعني أن الأدمغة يمكنها أن تظل حية بعد وفاة أصحابها على أمل استخراج ما فيها ذات يوم (ولهذا السبب احتفظ الأميركان بدماغ أنشتاين، والروس بدماغ لينين، وخضع كلا الدماغين لآلاف الدراسات والتجارب العلمية)..

وبالطبع فوائد الاحتفاظ بالأدمغة والرؤوس الحية أكثر من أن تحصى.. إذ يمكن مثلا فصل الرؤوس عن أجسادها الهرمة أو المريضة واستبدالها برؤوس شابة مات أصحابها دماغياً (وهناك تجارب لتحقيق هذه الفكرة تجري اليوم على قردة البامبو)..

وفي حال تطورت عمليات زرع الشرائح الالكترونية في دماغ الانسان (كما يفعل البروفيسور كيفن ورويك منذ عام 2002 جامعة كولومبيا) ستنتهي الحال باستخراج الإبداعات والذكريات من أدمغة فذة تم فصلها قبل وفاة أصحابها (وهذا شرط أساسي بالمناسبة)!

.. نعم؛ قد تكون الفكرة متطرفة ولكنها ليست خيالية .. وقد تبدو جديدة ولكنها تعود الى أيام جنكيز خان الذي أمر قبل ألف عام بخياطة الرؤوس المقطوعة فوق أجسادها لتعويض حاجته الدائمة للجنود!

أثقل من طار


ما تزال الطائرات تشعرني بروعة الهندسة وجمال الابتكار ومحاسن العلم التطبيقي.. مايزال عقلي البدهي يتعجب من قدرة نسمة رقيقة على حمل هذه التحفة الثقيلة فوق السحاب.. كنت في طفولتي أرغب في أن أصبح طيارا يقود مركبة كهذه ويحط كل يوم في بلد جديد. غير أن نظاراتي الطبية لم تسمح بتحقيق هذا الحلم فاستبدلته بمتعه السفر بواسطتها لقارات العالم الست!

وبالطبع كلما زادت ضخامة الطائرة زاد تقديري وإعجابي بها.. حين ركبت لأول مرة أضخم طائرة مدنية في العالم (إيرباصA380) كانت والدتي برفقتي.. كنا عائدين من زيارة شقيقي في استراليا حين دخلنا الطائرة من بابها الأمامي فنظرت إلى صفوف المقاعد حتى نهايتها فقالت: يارب سترك كيف سترتفع الطائرة بكل هؤلاء الناس.. فأشرت بأصبعي: هناك أيضا طابق ثان فووووق!

والحقيقة هي أن الإيرباص 380 تتكون من ثلاث طوابق، وتحمل أكثر من 800 راكب، وتطير بسرعة 900 كلم في الساعة، وتقطع 15200 كيلومتر دون توقف - ناهيك عن أنها أول طائرة تجارية تسير بالغاز المسال -..

وقبل إنتاج هذه الطائرة كانت البوينج 747 تهيمن على سوق الطائرات المدنية الضخمة.. لم تكن شركة بوينج عاجزة عن انتاج طائرة أكبر منها ولكنها كانت تعتقد أن كلفة تشغيلها (وعدم امتلائها بالركاب) يجعلها غير مجدية اقتصاديا. وفي المقابل كان الأوروبيون يرون أن انتاج طائرة تحمل أكثر من 800 مسافر (دفعة واحدة) يخفض تكاليف نقل كل راكب على حدة.. وحين ظهرت الطائرة للوجود عام 2005 (بحجم وأبعاد لا تختلف كثيرا عن البوينج747) اتضح أن رأي الأميركان كان صحيحا على الخطوط القصيرة، في حين يصدق رأي الأوروبيين على الخطوط الطويلة - حيث تنخفض تكلفة الراكب كلما زاد طول الرحلة!

.. غير أن كل هذا لا يعني أن "ذات الطوابق" هي أكبر طائرة في العالم.. فأضخم طائرة هي (انتونوف 225) التي لم يصنع منها سوى نسخة واحدة فقط لحمل مكوك الفضاء الروسي "بوران".. وهي طائرة شحن أوكرانية الصنع، سوفياتية التصميم، بعلو بناية من أربعة طوابق تملك 32 عجلة هبوط وتستوعب 250 سيارة وتحمل 600 ألف طن.. ولأنني سبق وكتبت عنها مقالا خاصا (تجده في النت تحت عنوان: المسخ الطائر) سأتجاوز التفاصيل وأشير بسرعة إلى أنها تملك 240 رقما قياسيا في الضخامة والثقل والسعة وتعد أحد الروافد الاقتصادية للحكومة الأوكرانية التي تؤجرها لنقل الحمولات الضخمة (وسبق لأرامكو السعودية أن استأجرتها عدة مرات لنقل منصات التنقيب الثقيلة)!

.. وفي حين تعد طائرة الإيرباص أكبر طائرة مدنية، والإنتونوف أكبر طائرة شحن، تأتي القلعة الأميركية الطائرة B-52 كأضخم طائرة عسكرية من حيث السعة.. وهي قاذفة استراتيجية مرعبة قادرة على حمل 20 صاروخا نوويا وصواريخ كروز وتوماهوك تحت أجنحتها - ناهيك عن آلاف الأطنان من الأسلحة والقنابل التقليدية داخلها.. وقد صنعتها بوينج لأول مرة عام 1952 ودخلت الخدمة في الجيش الأميركي منذ عام 1955 كقاذفة قنابل بعيدة المدى.. ورغم ظهور طائرات استراتيجية حديثة بعدها (أسرع من الصوت أو لايكشفها الرادار) إلا أن الحمولة الهائلة للقلعة الطائرة (وكلفة تصنيعها وصيانتها المنخفضة) شجعت الجيش الأميركي على الاحتفاظ بها حتى يومنا هذا - علما أن شركة بوينج أصدرت منها نسخا مطورة منها على مدى الستين عاما الماضية!

.. الحقيقة هي أن طائرات كهذه ليست فقط دليلا على تقدم العلوم في عصرنا الحاضر، بل وأيضا تقدم الأمم التي صنعتها وأهمية العلوم التطبيقية في معايير القوة الدولية..

.. وبصراحة؛ يكفينا الحديث عن عباس بن فرناس..

12 طريقة لمكافحة التطرف


أول مخاطر التطرف الانقسام والتفتت سواء على المستوى الديني والفكري، أو الوطني والاجتماعي..

فالتطرف بطبيعته يعني الابتعاد عن الوسطية حيث يعيش عامة الناس وتوجد معظم الأفكار وحيث يحاول علماء الدين التوفيق بين معظم الآراء والتيارات.. ومخاطره على الدين تكمن في ظهور خوارج وتكفيريين يرون أنفسهم (على قلة عددهم) محوراً لما ينبغي أن يكون عليه الإسلام (رغم سعته وتنوع مدارسه) ويفعله عامة المسلمين (رغم توزعهم بين ثقافات عالمية مختلفة).. ولأن التطرف يعني غالباً الاستقلالية والابتداع والخروج عن الجماعة يتسبب في تقسيم الدين إلى فرق ومذاهب متناحرة جميعها في النار باستثناء فرقة واحدة متمسكة بمنهج السنة والجماعة (كما جاء في الحديث الصحيح)...

والحقيقة هي أن التطرف والرأي الوحيد أخطر على الدين من الانفتاح والتعددية والخلافات الفرعية.. فالأول يجنح (دون نقاش أو استئذان) الى الإقصاء والتكفير، في حين لا يتحرج الثاني من التحاور والتداول ومحاولة التوصل لأرضية مشتركة تحفظ الدين من التفكك لفرق متناحرة..

ويمكن قول الشيء نفسه عن مخاطر التطرف على الوطن والمجتمع.. فالمتطرف لا يرضى بغير الاتفاق معه، وتسيير المجتمع وفق نظرته، وتقسيمه بحسب اقترابه أو ابتعاده عنه.. وحين يجد المتطرف نفسه معزولاً عن سياق المجتمع يصبح ميالاً إلى العنف للفت الأنظار لوجوده ويزداد احتمال لجوئه للعنف بارتفاع نسبة عزلته عن المجتمع...

وحماية المجتمع من مخاطر التطرف والتشدد تتطلب الاعتراف بأسباب نشوئه وطبيعة الثقافة المولدة له هذا أولاً وثانياً تجفيف منابعه في المجتمع (وخصصت لهذا الجانب مقالاً سابقاً بعنوان: لو لم يكن متشدداً لما أصبح متطرفاً)..

ومن الحلول التي أراها ضرورية لحماية المجتمع من مخاطر التطرف والتشدد مايلي:

1 تفعيل قوانين تجرم التكفير، والتحريض، وتجييش العواطف، والدعوة للكراهية..

2 عدم التمسك بتيار فقهي واحد وتشجيع العودة للمدارس الفقية السائدة سابقاً في كل منطقة..

3 استمرارية العمل بالأمر الملكي الكريم القاضي بقصر مهمة الإفتاء على هيئة كبار العلماء..

4 تأكيد العلماء على أن الدين واسع، وحسن الظن مقدم، وأن من كفّر مؤمناً فقد كفر..

5 عدم المغالاة في قاعدة "سد الذرائع" وتبني قاعدة "فتح الذرائع" والأخذ بفقه الواقع..

6 إقرار ثقافة الحوار المؤدب كمنهج مدرسي وتقبل فكرة وجود آراء مغايرة في المجتمع..

7 عدم الخلط بين المحرمات الاجتماعية والمحرمات الدينية وإضفاء قدسية دينية على الأولى..

8 عدم الخوض في الخلافات الفرعية أو الظنون الاستباقية أو تحويلها لقضية اجتماعية كبرى..

9 إغلاق المواقع والمحطات والفضائيات ذات الطبيعة القبلية والمذهبية والمحرضة على الفتنة..

10 تحكيم العقل والمنطق والمصلحة العامة فيما لم يرد فيه نص شرعي صحيح ومباشر..

11 تربية أطفالنا على التسامح وأدب الخلاف وتنبيههم لخطورة "تأجير" عقولهم للغير..

12 وأخيراً فضح الأفكار المتطرفة على الملأ، والضرب بيد من حديد على مايخرج منها لحيز التطبيق..

والله خير الحافظين..

اللغة مرآة الشعوب



كان العرب يملكون كلمات كثيرة لوصف الشيء ذاته (وبشكل لا تجده في أي لغة قديمة).. فالمدينة المنورة مثلاً كان لها أكثر من أربعين اسماً، قليل منها فقط بقي اليوم معروفاً ومتداولاً مثل يثرب والمدينة وطيبة وطابة.. وكثير منها لم يعد معروفاً أو متداولاً مثل الحبيبة والمحبوبة والقاهرة والجابرة والمباركة..

أما الأسد فله في لغة العرب أكثر من خمس مئة اسم لا نعرف منها سوى القليل مثل الليْث، والغضنفر، والضِّرْغامُ... وكثير منها لم يعد معروفاً مثل الفِرْناسُ، والباسِلُ، والغشمشمُ، والعَزام..

وما يدهشني شخصياً ليس فقط كثرة المسميات في العصور القديمة بل وتراجعنا عن استعمال الكثير منها في العصور الحديثة (بل وأصبحنا اليوم نكتفي بكلمة واحدة فقط لوصف كل شيء).. خذ على سبيل المثال مشي الإنسان بسرعات مختلفة حيث كانت العرب تطلق على مشي الرَّضيعِ "الحبو" والغلام "الحجلان" ومشية الشاب "الخطران" ومشية الشيخ "الدَّلِيف" ومشية النشيط "الدأَلان"... ولكننا تركنا اليوم كل هذا واكتفينا بكلمة مشى ويمشي!!

أيضا كانت العرب تطلق مسميات مختلفة على كيفية النظر بالعين فتقول لمن ينظر بكامل عينيه "رمقه" ولمن ينظر للشيء من جانب عينيه "لحظه" ومن ينظر بحده "حدجه" ومن ينظر بتعجب "شفنه" ومن ينظر متثبتاً "توضّحه" ومن ينظر رافعاً يده مستظلاً من الشمس "استشرفه" أو "استكفه".. ولكننا تركنا كل هذا واكتفينا بكلمة شافه أو شاهده!!

... وأذكر أنني كتبت مقالاً بعنوان مراتب النيسابوري بدأته بقصة عن المعري الذي تعثر يوماً بشيخ كبير فصاح فيه غاضباً: من هذا الكلب؟ فرد عليه المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً.. وسرعان ما تحول هذا الرد إلى منافسة بين علماء اللغة (من يعرف للكلب سبعين اسماً) حتى تمكن السيوطي من جمعها في أرجوزة دعاها "التبري من معرة المعري"!

... أما أبو القاسم النيسابوري فرتب أنواع الجنون بطريقة تفوق علم النفس الحديث حيث يبدأ بالأحمق ثم الأخرق ثم المائق ثم الرقيع ثم اللكع ثم الهجاجة.. وبعد الهجاجة ينتقل إلى مرحلة الجنون الأصيل حيث المعتوه (الذي يولد مجنوناً) والممسوس (الذي يولد عاقلاً ثم يجن) ثم المخبول والأنوك والذولة والموتة والنطاه والعرهاه والأولق والمهووس والهلباجة والجذب!!

أما الثعالبي فقسم الحب الى عشر مراتب في كتابه الشهير "فقه اللغة" حيث يقول:

... والحب يبدأ ب(الهوى) فإذا زاد سمي (الكلف) ثم (العشق) ثم (الشغف) ثم (الجوى) ثم (التيم) ثم مرض في الجسد يدعى (التبل) ثم اضطراب في العقل يدعى (التدلية) حتى ينتهي ب(الهيوم).. حيث يهيم المحب على وجهه في الشوارع والطرقات ويحتار في أمره الرقاة والأطباء!!

المحزن أكثر أن تعددية المفردات هذه سبقت عصر التدوين ثم توقفت تماماً منذ قرون.. والحقيقة هي أن اللغة مرآة الأمة ومقياس لمساهمة أهلها في الإبداع العالمي.. فالإبداعات الجديدة سواء كانت أدبية أو علمية تستدعى بالضرورة ابتكار كلمات تعبر عنها سرعان ما تتشعب وتتعدد وتقتبسها اللغات الأخرى. وفي حين توقف العرب عن ريادة العالم منذ قرون أصبحت الإنجليزية اليوم هي لغة العلم والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا..

.. ومن كل هذا ندرك أن حالنا مع اللغة العربية يتضمن اليوم مفارقة يتوسطها معجم لسان العرب (الذي وضعه ابن منظور المتوفى عام711ه)..

فنحن من جهة؛ أضعنا مفردات غزيرة وُلدت في الجاهلية وعاشت حتى العصور الأولى من الإسلام.. ومن جهة أخرى؛ تسبب ضعفنا الثقافي والعلمي (في العصور المتأخرة) في التوقف عن إثرائها والإضافة إليها كما هو حال لغات الدول المتقدمة هذه الأيام..

بدون شك؛ اللغة مجرد مرآة تعكس حال الشعوب التي تتحدث بها!!

تأجلت وفاتهم حتى حين


تسوتومي ياماكاشي مواطن ياباني نجا من الموت حين ألقى الأميركان أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما (في السادس من أغسطس 1945).. وبسبب الحروق التي طالت جسده سافر إلى نجازاكي للعيش مع والدته فألقى الأميركان قنبلتهم الثانية على نجازاكي (بعد ثلاثة أيام) فنجا من الموت للمرة الثانية في حين ماتت والدته وعائلته بأكملها.. وقبل أيام فقط مات بشكل طبيعي عن عمر يقارب المئة عام بعد وفاة قائد الطائرة والمجرمين المسؤولين عن إلقاء القنبلتين!

وقصة ياماكاشي مجرد نموذج لقصص كثيرة ينجو فيها البعض من الموت بأعجوبة ويعيشون طويلا بعد الجلاد والضحايا وجميع الأقرباء من حولهم..

خذ كمثال آخر العجوز الألمانية "مارغو فولك" التي وصلت بدورها الى سن المئة رغم أنها كانت تعمل كمتذوقة طعام للزعيم الألماني "هتلر".. فقد كانت وظيفتها تذوق كل وجبة طعام قبل تقديمها إليه خشية أن تكون مسمومة أو ملوثة بالإشعاع.. وكانت بعد كل وجبة تتوقع الموت وتعيش فترة رعب حقيقية حتى يعلن طبيب هتلر الخاص خلو الوجبة من السم.. وبدأت "مارغو" في أداء وظيفتها حين كانت في الرابعة والعشرين في مطبخ "وكر الذئاب" المقر السري لهتلر وضباطه المخلصين. وخلال تلك الفترة شهدت محاولة اغتياله عام 1944 وانتحاره عام 1945 ولكنها اليوم ماتزال تعيش بصحة جيدة رغم وفاة جميع الذئاب!

أيضا هناك حارس غابات مشهور في أميركا يدعى روي سلفيان ضربته الصواعق سبع مرات ودخل كتاب جينيس للأرقام القياسية لهذا السبب.. المرة الأولى كانت عام 1942 وفقد بسببها أذنه اليسرى، والمرة الثانية عام1969 وفقد فيها حاجبيه وعينه اليمنى، والمرة الثالثة عام 1970 وشل فيها كتفه اليسرى، والمرة الرابعة عام 1972 واحترق فيها وجهه وكامل شعره، والخامسة عام 1973 حيث احترق شعره المستعار ونصفه العلوي، والسادسة عام 1976 حيث احترق قفاه وكامل ظهره، أما المرة السابعة فكانت في يونيو1977 حين أصيب بشلل خطير فتقاعد من عمله قسرا.. وفي إحدى ليالي 1983 مات بهدوء أثناء نومه في فراشه كما يموت البعير (.. وهو ما يذكرنا بمقولة خالد بن الوليد)!

... أيضا هناك صورة مشهورة للجراح البولندي زبينيو ريليغا التقطت عام1987 بعد انتهائه من أطول عملية لزراعة قلب (استغرقت 23 ساعة).. وفي هذه الصورة يظهر الدكتور ريليغا بعد انتهائه من العملية جالسا بقرب المريض يراقب شاشات النبض وقد بدت عليه علامات الإجهاد - في حين تساقطت الممرضات في زوايا الغرفة من التعب والإعياء.. المدهش أن الصورة التي رأيتها كان يحملها المريض نفسه الذي مايزال على قيد الحياة في حين مات الطبيب ريليغا بسكتة قلبية في مارس 2009 (ويمكنك مشاهدتها بإدخال اسم الطبيب في محرك غوغل)..

.. حين رأيت هذه الصورة لأول مرة في (الواتساب) رددت على صديقي محمد الجعيثن (الذي بعثها لي) بقول علي بن الجهم:

كم من عليل قد تخطاه الردى

فنجا ومات طبيبه والعُوّدُ

من هو المثقف؟


في إحدى الأمسيات الثقافية سألني شاب خجول عن الفرق بين العبقري والمبدع؟

فاجأني السؤال ولكنني قلت:

"من حق كل انسان أن يقول اخترعت كذا أو أبدعت كذا ولكن ليس من حقه أن يصف نفسه كعبقري كون العبقرية منزلة يمنحها الناس ويجب أن يُترك حكمها للتاريخ وإبداعات الفرد ذاته".

.. وعلى نفس السياق أعتقد أن الأمر ذاته ينطبق على الفرق بين (المثقف) و(المتعلم)..

فمن حق أي انسان أن يقول تعلمت في جامعة كذا، أو حصلت على شهادة كذا وكذا، لكن ليس من حقه أن يصنف نفسه كمثقف ومطلع وحكم كهذا يجب أن يترك لعامة الناس ومحصلة إبداعات الفرد ذاته!

والحقيقة أنني في فترة من فترات حياتي فكرت بوضع اختبار يتكون من 1000 سؤال لتحديد من هو المثقف.. فكرت بوضع أسئلة شاملة ومنوعة وافترضت أن الإجابة عن 75% منها تكفي لمنح الانسان صفة الثقافة ولقب "مثقف".. ولكنني اليوم أعتقد أن امتحانا كهذا لا يثبت غير جزء واحد من شخصية المثقف هي: تنوع المعرفة وسعة الاطلاع..

فالثقافة الحقيقية ليست فقط كما هائلا من المعلومات (فشبكة الانترنت كذلك) بل سلوك متحضر، وذهن متفتح، ورؤية شاملة، وامتزاج معلوماتي، وتسامح فكري، واطلاع على ثقافات ومصادر مختلفة- بعضها متناقض بمعنى الكلمة-..

المثقف ليس متعصبا ولا متشددا ولا نتاج ثقافة وحيدة أو أفكار مقولبة أو رؤية مقدسة ولا ينظر لنفسه كذلك..

المتعلم (وليس المثقف) هو من قد يكون كذلك.. فمن يحمل شهادة أكاديمية ينتمي بالضرورة لمنهج رسمي، وتخصص وحيد، وفكر مقولب، ورؤية موروثة.. المتعلم متخصص بالضرورة في مجال واحد يطغى على تفكيره ولا يملك رؤية شاملة تدمجه بغيره وينظر لنفسه كخريج مدرسة مستقلة في الرؤية والأهداف.. المتعلم يصعد رأسيا في تخصص وحيد، في حين ينتشر المثقف أفقيا في عالم من الثقافات والأفكار المتقاطعة - دون الانتماء بالضرورة لفكر ضيق يحد من قدرته على التحليل والاستنتاج..

يقول المؤرخ العراقي علي الوردي (في خوارق الشعور):

".. المتعلم هو من تعلم أموراً لم تخرج عن نطاق الإطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره.. فهو لم يزدد من العلم إلا ما زاد في تعصبه وضيّق نظره.. رجل آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيد رأيه الموروث وتحرّضه على الكفاح في سبيله.. أما المثقف فيمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة يتأمل فيها ويتبنى وجه الصواب منها.."

وفي الحقيقة؛

حتى عامة الناس يَعرفون (ويُعرفون) المثقف من خلال تنوعه المعرفي وإنتاجه الفكري، في حين قد يمضي المتعلم حياته مجهولا كونه نتاج تخصصات لم يبدعها بنفسه ولم يشتهر بين الناس كمنتج لها..

عامة الناس لا يحاسبون المتعلم على شهاداته ولكنهم يحاسبون المثقف على أفكاره التي قد تصادم ما ورثوه ونشأوا عليه.. المثقف بينهم قد يصبح مضطهدا أو سجين رأي، ولكن ذلك لا يحدث لمجرد تخرج أحدهم في الجامعة أو حصوله على درجة علمية عالية..

.. وبطبيعة الحال كل هذا لا يعني استحالة تحول "المتعلم" الى "مثقف" ولكن تحولا كهذا يتطلب أولا الخروج من شرنقة التخصص والانفتاح على كافة المصادر والمعارف والآراء والأفكار - ناهيك عن تأثر سلوكه الشخصي والفكري بهذا التحول..

وباختصار شديد :

العباقرة هم من يبدع الأفكار..

والمثقفون هم من يمتزج بها..

والمتعلمون هم من يدرسها كمنهج..

في حين يتحمل عامة الناس مسؤولية تصنيف الجميع..

.. وقبل أن أنسى؛

ابحث في النت عن مقال "هل يوجد مثقف أو فقيه في عصر غوغل؟"

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...