الخميس، 2 يناير 2020

لو لم يكن مجنوناً ما فعلها


يقولون إن الفرق بين العبقرية والجنون "شعرة"...

ولكن الحقيقة هي الإنسان بطبيعته مخلوق مفكر يعيش حالة بحث دائم عن حلول جديدة.. وهذا يعني أن جميع الناس يمكنهم الإبداع والابتكار لو كانت لديهم نية صادقة لفعل ذلك وأيضاً لو وضعوا في موقف حاجة أو تهديد للحياة..

أما إن كان السؤال هل تختلف الشخصية الإبداعية أو العبقرية عن غيرها؟ فهذه مسألة تحتمل الجنون فعلاً .. فالإصابة بالاضطرابات النفسية والعقلية (خصوصاً الانطواء والتوحد والانفصام) توجد بين العباقرة بنسبة أكبر من غيرهم..

خذ كمثال ما يعرف بمتلازمة الموهوب الناجمة عن اضطرابات التوحد أو الإصابات العصبية والدماغية.. ففي هذه الحالة يملك المريض (رغم إعاقته الواضحة) موهبة الإبداع في جانب واحد فقط مثل الرسم أو الموسيقى أو الحسابات الخارقة للعادة.. ورغم أنها حالات إبداعية غير واعية (نادراً ما يستفيد منها المجتمع أو صاحب الحالة) إلا أن كثيراً من الأطباء بدأوا في السنوات الأخيرة يفترضون إصابة معظم العباقرة بأعراض توحد (خفيفة)!!

والتوحد كما يعرف معظمنا اضطراب يؤدي إلى انطواء الشخص على ذاته والتركيز على مسألة واحدة لفترة طويلة. والطفل المتوحد بالذات يقضي وقتاً طويلاً مع نفسه ويبدي اهتماماً قليلاً بالتداخل مع الآخرين أو تكوين صداقات معهم.. ورغم مظاهر الإعاقة التي تبدو على الحالات الشديدة إلا أن معظم الأطفال يبدعون (بلا مقدمات) في جانب واحد كالرسم والموسيقى والرياضيات. ففي حين يحتاج الإنسان العادي الى سنوات لإتقان مهارة العزف أو الرسم أو ساعتين لحل معادلة معقدة؛ يتصرف هؤلاء الأطفال وكأنهم ولدوا بهذه الموهبة ولا تأخذ منهم المعادلات الرياضية أكثر من جزء من الثانية..

ولم يدرك العلماء إلا مؤخراً أن هناك نوعاً خفيفاً وخفياً من التوحد قد لا يلاحظه حتى الأطباء. فالمصاب به لا يبلغ حد الانعزال الكامل ويستطيع عند الضرورة التواصل مع الناس.. وقبل سنوات قليلة أعلن قسم النفس في جامعة دبلن أن الرسام الإيطالي العظيم مايكل أنجلو كان مصاباً بأعراض التوحد. وقد ظهر ذلك من خلال رسوماته التي كرر فيها تفاصيل معقدة وهوسه بفكرة معينة وعمله وحيداً لأيام متتالية.

واليوم هناك قناعة بأن معظم العباقرة كانوا مصابين بهذا النوع من التوحد خصوصاً المعروفين بانطوائيتهم وقدرتهم على الانعزال عما حولهم.. ورغم صعوبة الجزم بعلاقة التوحد بالعبقرية إلا أن المتأمل لحياة معظم العباقرة كأنشتاين ونيوتن وديفنشي ومايكل أنجلو يجد فيهم أعراض توحد واضحة.

ومن المعروف عن ابن يونس (عالم فيزيائي مسلم مات سنة 639) أنه كان يدخل في نوبات من التركيز والتأمل الشديد لدرجة أن طلبته كانوا يغادرون مجلسه يأساً من عودته القريبة إلى الواقع.. وكان الفرنسي لويس باستير (عالم الجراثيم ومكتشف طريقة البسترة) يستغرق في عمله لأيام متتالية لدرجة أنه نسي موعد زفافه بسبب انشغاله في البحث عن لقاح لجرثومة السعار.

... بيني وبينكم؛ يحتاج الأمر فعلاً لشيء من الجنون كي يتمكن "العبقري" من كسر القواعد، ومخالفة السائد، ومواجهة كافة الأفكار البالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...