الخميس، 2 يناير 2020

عبقرية التواضع


.. مدهش فعلاً كيف يبدو الإنسان بسيطاً ومتواضعاً كلما كان عظيماً وناجحاً..

هل لاحظت مثلاً أن الناجحين فعلاً لا يهتمون بالمظاهر والتفاخر واستعراض الممتلكات.. حين ترى أحدهم على الطبيعة تتساءل: هل هذا هو فعلاً من يملك كل هذه الملايين ويضرب به المثل في النجاح والتفوق.. كان ستيف جوبز (مؤسس شركة آبل) لا يملك سوى نوعين من الملابس بناطيل جينس، وقمصان طويلة سوداء.. وحين دعت قناة بلومبرج أفضل خبراء أميركا لمناقشة مستقبل الإنترنت حضر الجميع ببدل تجاوزت قيمتها العشرة آلاف دولار باستثناء شخص واحد حضر بحذاء رياضي وبنطلون قصير وفانيلة قطنية (يدعى مارك زوكربيرج مؤسس الفيس بوك وأصغر ملياردير في العالم)!!

... قبل أشهر كتبت مقالاً بعنوان "عصاميون لا نعرفهم" استعرضت فيه رجال أعمال بنوا ثرواتهم (في الزمن الصعب) مثل الراجحي والعليان وابن لادن وابن محفوظ وعبد اللطيف جميل.. وأثناء بحثي صادفت صوراً لهم على الإنترنت (توزعت بين أيام الفقر، وأيام الثراء) تثبت عدم تغيرهم واحتفاظهم بذات المظهر البسيط والمتواضع لدرجة اعتقدت وجود مشكلة في محرك جوجل!

... مايحدث هنا هو أن الرجل العصامي يملك ثقة كبيرة في نفسه لدرجة لا يفهم كيف يمكن لبدلة فاخرة أو جزمة ثمينة أن تمنحه المزيد من التقدير والاحترام.. لا يفهم كيف يمكن لسيارة ألمانية أو ساعة سويسرية أن تُضيف شيئاً لمسيرته المليئة بالكفاح.. تعلم منذ البداية عدم إضاعة وقته على مظهره الخارجي فيبدو أبسط الناس بين شخصيات نرجسية أقل منه عصامية..

هناك قصة طريفة عن سكرتير الخزانة الأميركية الذي دُعي لحفل خاص بتكريم الأثرياء العصاميين في أميركا.. فحين دخل قاعة الاحتفال فوجئ بمظهرهم البسيط والمتواضع فقال لمنسق الحفل: "لماذا أنا الوحيد الذي يلبس بدلة فاخرة وساعة ثمينة.. لا يمكن لهؤلاء الناس أن يكونوا مليونيرات.. فهم لا يبدون كالمليونيرات ولا يلبسون كالمليونيرات ولا يأكلون كالمليونيرات ولايتصرفون كالمليونيرات ولا حتى يملكون أسماء توحي بأنهم مليونيرات.. أين المليونيرات الذين يبدون كالمليونيرات"!؟

هذا التعليق ورد في كتاب جارك المليونير ((Millionaire Next Door حيث يقول المؤلفان ستانلي ودانكو:

الأثرياء العصاميون لا تبدو عليهم مظاهر الثراء ولا تنطبق عليهم الصورة التي نرسمها لهم.. من يحرصون على المظاهر هم ورثة المال (من الجيل الثاني والثالث) الذي يحرصون على الظهور بمظهر الثراء وعلو المنزلة.. وحين لا يبدو الأثرياء العصاميون كالمليونيرات فلأنهم ببساطة يستمرون على نمط حياة قديم أصبحوا بفضله من المليونيرات.. وليس العكس!

ما أراه مؤكداً أن المبالغة (في مظاهر الترف والنعيم) رد فعل يعوض الدونية والشعور بالنقص (فما وجد أحد في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه).. وحين حضر عمر ابن الخطاب (صاحب هذه المقولة) ليتسلم مفاتيح بيت المقدس كان خادمه يركب على الناقة وهو يمشي بجانبه فظن مطارنة القدس أنه الخادم.. كانوا مستعدين لاستقباله بأفخر الثياب والمجوهرات ويحملون صلباناً من الذهب والفضة فأدركوا حين رأوه أنهم أمام رجل يفوق بقية العظماء...

أما في عصرنا الحديث فهناك المناضل الهندي غاندي الذي كان يحضر لمناقشة الحاكم البريطاني في مقره الرسمي برفقة عنزته وقطعة قماش صغيرة تستر عورته.. وهناك أنشتاين الذي كان يحضر المناسبات الرسمية بجاكيت "مكرمش" وشعر منكوش ورقبة حلقها برغوة البانيو.. وحين قررت الحكومة الفرنسية تكريم مدام كوري (بعد نيلها جائزة نوبل للمرة الثانية) حضرت نبيلات فرنسا لاستقبالها بأفخم الملابس والمجوهرات ولكن مدام كوري ذاتها حضرت ببالطو المعمل ثم عادت لإكمال تجاربها على النظائر المشعة!!

... صحيح أن المظاهر الخارجية تشي بمنزلة الإنسان وثروته، ولكن الإنسان نفسه يخبرنا دون أن يدري من فيهما العبد والسيد...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...