الأربعاء، 8 يناير 2020

أثقل من طار


ما تزال الطائرات تشعرني بروعة الهندسة وجمال الابتكار ومحاسن العلم التطبيقي.. مايزال عقلي البدهي يتعجب من قدرة نسمة رقيقة على حمل هذه التحفة الثقيلة فوق السحاب.. كنت في طفولتي أرغب في أن أصبح طيارا يقود مركبة كهذه ويحط كل يوم في بلد جديد. غير أن نظاراتي الطبية لم تسمح بتحقيق هذا الحلم فاستبدلته بمتعه السفر بواسطتها لقارات العالم الست!

وبالطبع كلما زادت ضخامة الطائرة زاد تقديري وإعجابي بها.. حين ركبت لأول مرة أضخم طائرة مدنية في العالم (إيرباصA380) كانت والدتي برفقتي.. كنا عائدين من زيارة شقيقي في استراليا حين دخلنا الطائرة من بابها الأمامي فنظرت إلى صفوف المقاعد حتى نهايتها فقالت: يارب سترك كيف سترتفع الطائرة بكل هؤلاء الناس.. فأشرت بأصبعي: هناك أيضا طابق ثان فووووق!

والحقيقة هي أن الإيرباص 380 تتكون من ثلاث طوابق، وتحمل أكثر من 800 راكب، وتطير بسرعة 900 كلم في الساعة، وتقطع 15200 كيلومتر دون توقف - ناهيك عن أنها أول طائرة تجارية تسير بالغاز المسال -..

وقبل إنتاج هذه الطائرة كانت البوينج 747 تهيمن على سوق الطائرات المدنية الضخمة.. لم تكن شركة بوينج عاجزة عن انتاج طائرة أكبر منها ولكنها كانت تعتقد أن كلفة تشغيلها (وعدم امتلائها بالركاب) يجعلها غير مجدية اقتصاديا. وفي المقابل كان الأوروبيون يرون أن انتاج طائرة تحمل أكثر من 800 مسافر (دفعة واحدة) يخفض تكاليف نقل كل راكب على حدة.. وحين ظهرت الطائرة للوجود عام 2005 (بحجم وأبعاد لا تختلف كثيرا عن البوينج747) اتضح أن رأي الأميركان كان صحيحا على الخطوط القصيرة، في حين يصدق رأي الأوروبيين على الخطوط الطويلة - حيث تنخفض تكلفة الراكب كلما زاد طول الرحلة!

.. غير أن كل هذا لا يعني أن "ذات الطوابق" هي أكبر طائرة في العالم.. فأضخم طائرة هي (انتونوف 225) التي لم يصنع منها سوى نسخة واحدة فقط لحمل مكوك الفضاء الروسي "بوران".. وهي طائرة شحن أوكرانية الصنع، سوفياتية التصميم، بعلو بناية من أربعة طوابق تملك 32 عجلة هبوط وتستوعب 250 سيارة وتحمل 600 ألف طن.. ولأنني سبق وكتبت عنها مقالا خاصا (تجده في النت تحت عنوان: المسخ الطائر) سأتجاوز التفاصيل وأشير بسرعة إلى أنها تملك 240 رقما قياسيا في الضخامة والثقل والسعة وتعد أحد الروافد الاقتصادية للحكومة الأوكرانية التي تؤجرها لنقل الحمولات الضخمة (وسبق لأرامكو السعودية أن استأجرتها عدة مرات لنقل منصات التنقيب الثقيلة)!

.. وفي حين تعد طائرة الإيرباص أكبر طائرة مدنية، والإنتونوف أكبر طائرة شحن، تأتي القلعة الأميركية الطائرة B-52 كأضخم طائرة عسكرية من حيث السعة.. وهي قاذفة استراتيجية مرعبة قادرة على حمل 20 صاروخا نوويا وصواريخ كروز وتوماهوك تحت أجنحتها - ناهيك عن آلاف الأطنان من الأسلحة والقنابل التقليدية داخلها.. وقد صنعتها بوينج لأول مرة عام 1952 ودخلت الخدمة في الجيش الأميركي منذ عام 1955 كقاذفة قنابل بعيدة المدى.. ورغم ظهور طائرات استراتيجية حديثة بعدها (أسرع من الصوت أو لايكشفها الرادار) إلا أن الحمولة الهائلة للقلعة الطائرة (وكلفة تصنيعها وصيانتها المنخفضة) شجعت الجيش الأميركي على الاحتفاظ بها حتى يومنا هذا - علما أن شركة بوينج أصدرت منها نسخا مطورة منها على مدى الستين عاما الماضية!

.. الحقيقة هي أن طائرات كهذه ليست فقط دليلا على تقدم العلوم في عصرنا الحاضر، بل وأيضا تقدم الأمم التي صنعتها وأهمية العلوم التطبيقية في معايير القوة الدولية..

.. وبصراحة؛ يكفينا الحديث عن عباس بن فرناس..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...