الثلاثاء، 30 يوليو 2019

لا تخبروا والدتي


أتابع على قناة "ناشيونال جيوغرافي" برنامجا بعنوان "لا تخبروا والدتي" يقوم فيه المراسل الفرنسي دييغو بانويل بتغطية أسوأ الأخبار في أخطر المناطق حول العالم.. ولأنه يعرض نفسه لمخاطر حقيقية (بعكس صحافة المكاتب وأبراج الكتاب العاجية) اختار لبرنامجه هذا العنوان الرومنسي الذي - في نفس الوقت - يعبر عن حقيقة البرنامج ومخاطره المحتملة.. فأي أم ترفض ما يقوم هذا الشاب الجريء وتفضل بقاء ابنها عاطلا على قيامه بمثل هذا العمل.. وأي ابن يخشى على والدته من القلق والانهيار سيخفي عنها حقيقة سفرة لمناطق خطرة ترتفع فيها نسبة وفاته.. أمام الكاميرا.

على أي حال؛ حتى ان افترضنا عدم مشاهدة والدة دييغو لبرنامج ابنها؛ فمن المرجح أنها ستشعر به - بطريقة التليباثي أو التخاطر عن بعد - حين يتعرض لمخاطر فعلية أو مواقف طارئة (.. ويشهد الله أن والدتي اتصلت في هذه اللحظة للاطمئنان علي).

وما يشدني لهذا البرنامج بالذات قصة شخصية غريبة حدثت لي قبل سنوات طويلة جدا تذكرتها بعد مشاهدتي لاحدى الحلقات.

ففي سن الطفولة ارسلتني والدتي لشراء بعض الحاجيات من البقالة القريبة. وهناك صادفت صديقا في نفس عمري يشتري لعائلته لوازم رحلة كانوا ينوون القيام بها. وحينها عرض على مرافقتهم واقنعني انهم سيعودون قبل المغيب وبالتالي لا داعي لأخذ الاذن من اهلي. وبالفعل ذهبت معهم بدون علم والدتي - رغم أنني عدت لتسليمها المشتريات - وهناك اكتشفت ان الموضوع اكبر مما اخبرني به صديقي المخادع؛ فالناس كانوا عازمين على المبيت لعدة ليال. وكان بانتظارهم عوائل اخرى وخيام ومعسكر وصهريج ماء كبير.. وانقضى المغرب وزحف الليل واقترب الفجر دون أن تعلم عائلتي بمكاني ولا مع من ذهبت.. ولبعد المسافة لم اجد متطوعا يعيدني للبيت ولم يكن الجوال قد اخترع بعد.

وفي وضع يائس كهذا خطرت ببالي فكرة غريبة (لم تكن لتظهر لولا تعلقي بالظواهر النفسية الخارقة منذ الصغر).. فقد قلت لنفسي: لماذا لا احاول الاتصال بوالدتي عن طريق التليباثي او التخاطر الذي يتم بين عقلين بعيدين!؟

وهكذا اعتزلت المجموعة (وركزت) على بث رسائل تطمينية تصورتها تذهب مباشرة لعقل والدتي وتخبرها أنني بخير.. كنت اتصورها تبكي بحرقة وتصورت نفسي اظهر في ذهنها كشاشة صغيرة.. (تماما مثل خاصية "الفيس تايم" التي تدعي شركة آبل أسبقية ابتكارها)!!

ويبدو ان اعتزالي المجموعة وبقائي صامتا طوال الوقت جعل احدهم يرق لحالي فتطوع لإعادتي للمنزل.. وعند خيوط الفجر الأولى طرقت باب البيت راجيا من الله ان تفتح والدتي الباب وليس والدي.. ولكن أملي خاب (وأكلت علقة ساخنة من ابو فهد) وكنت اكرر حينها "والله العظيم حاولت الاتصال بكم حتى اسأل أمي"!!

أتعرفون اين تكمن غرابة القصة:

في الأيام القليلة التالية نسيت تلك المحاولة وأصبحت ابتسم وأسخر من نفسي كلما تذكرتها.. ولكن بعد وقت طويل من حدوثها اخبرتني والدتي بدون ان اسألها انها كانت تتصورني جالسا تحت شجرة اتحدث اليها وحولي اصوات لم تستطع تمييزها!

كان الله في عون والدة دييغو شاهدت التلفزيون أم لم تشاهده..

عصر البدانة


خلال السنوات الثلاث المنصرمة حدثت ثلاثة انقلابات نوعية لم تشهدها البشرية خلال تاريخها الطويل:

الأول تغلب عدد سكان المدن على سكان الأرياف لأول مرة في التاريخ!

والثاني تخطي البشر لحاجز السبعة مليارات نسمة كأكثر المخلوقات الثديية تناسلًا على كوكب الأرض!

أما الثالث (وهو موضوعنا اليوم) فهو تخطي عدد البدناء لعدد الجائعين في العالم!!

فحتى وقت قريب كانت المجاعات حدثا معتادا يأتي بشكل دوري ولا يغيب عن أذهان الناس لفترة طويلة (واسأل جدك عما يتذكره بهذا الخصوص). وخلال تاريخ البشرية الطويل لم يسبق أن كانت السمنة بهذا التفشي ولم يحدث أن اجتمع بدينان في "قرية" واحدة . وليس أدل على هذا من ان شعوبا تميزت سابقا بالرشاقة ودقة العود (كالعرب) أو بالقصر وضآلة الحجم (كجنوب شرق آسيا) تعاني اليوم من وطأة الشحوم وبطء الحركة.. فالسمنة اليوم أصبحت متفشية لدرجة طالت أكثر من 1,5 مليار انسان مقابل 925 مليون جائع فقط (حسب منظمة الصليب الأحمر في 2010)..

وهذا الرقم يعني أن خُمس سكان العالم تشكل الشحوم (ثلث أجسادهم) ونصف سكان العالم في حال احتسبنا نسبة شحوم أقل!!

ورغم أن الأمريكان يحتلون المركز الأول كأكثر الشعوب بدانة إلا أن "السمنة" عموما تحولت إلى مشكلة قومية حتى في الدول الفقيرة.. فمن عجائب هذا العصر أن أفراد الطبقة الفقيرة في مصر وجنوب أفريقيا وأمريكا الوسطى يعانون من بدانة كبيرة مقارنة بأفراد الطبقة الغنية الأكثر وعياً بأهمية الحمية والأكل الصحي!!

= وهناك دراسات كثيرة تؤكد انتشار داء البدانة وارتفاع أعداد البدناء بشكلٍ مقلقٍ في كافة الدول.. فما يقارب عشرين بالمائة من سكان أوربا مثلا يعانون اليوم من السمنة المفرطة (WHO,2000).. كما وصلت النسبة الى 31% بين الرجال و50% بين النساء في أمريكا (Kuczmarski, et al.,2009) .. ولايبدو أن هذه النسب ستستقر عند حد معين كونها ترتفع بوتيره أعلى بين أطفال اليوم في جميع المجتمعات (وانظر حولك)!!

وفيما يخص عالمنا العربي هناك بحث للدكتورة عزت خميس - أستاذ تكنولوجيا الأغذية بأكاديمية البحث العلمي بالقاهرة - يشير الى انتشار البدانة بين سيدات العالم العربي خلال السنوات الأخيرة بنسبة أكبر من الرجال.. ومن خلاله يتضح أن سيدات عمان هن الأكثر سمنة حيث يصل معدل البدانة بينهم إلى 64% ، تليهن سيدات مصر بنسبة 49% ثم سيدات الكويت 42%، والبحرين 40%، والإمارات 38%، والسعودية 37% ... في حين تعد سيدات لبنان الأفضل من حيث الرشاقة كون البدانة تتدنى بينهن إلى 27% فقط!!

وحسب علمي يأتي رجال قطر والكويت والبحرين والسعودية في مقدمة العالم من حيث نسبة السمنة (التي تتراوح بين 31% و 44% من مجمل السكان الذكور)..

وبوجه عام تأتي المجتمعات الخليجية (بالإضافة لمصر) في مقدمة دول العالم من حيث بدانة الجنسين/ وأيضا من حيث الاصابة بمرض السكر كنتيجة مباشرة لها!!

... وكل هذه الأرقام والنسب تعني انتقال السمنة من عارض شخصي الى وباء عالمي لم تمر به البشرية من قبل..

ورغم اعترافي بصعوبة التخلص من هذا الوباء إلا أن مجرد وعينا بوجوده يشكل خط الدفاع الأول ضد انتشاره في المجتمع...

ورغم كثرة الحميات والبرامج التي تعد بالقضاء على البدانة إلا أنني أخبرك مقدماً (بفشلها كلها) كون الرشاقة الحقيقية (محصلة لعادات سليمة وطعام صحي طويل المدى) وليس ريجيما مؤقتا تتجاوز بعده وزنك السابق !!

... وخذها مني نصيحة :

فقدان مابين 5 إلى 10 بالمئة من وزنك فقط سيحسن من صحتك ويقلل من احتمال إصابتك بالسكري وأمراض القلب والسرطان بنسبة أكبر بكثير !

حكومات الشركات الخفية


القيمة السوقية لشركة آبل تجاوزت مؤخراً دخل دول كالأرجنتين والنمسا واليونان وجنوب أفريقيا.. فالتداولات على أسهم آبل تجاوز العام المنصرم 400 مليار دولار ورفعها إلى المركز الثاني عالميا بعد شركة اكسون للنفط التي تقدر قيمتها ب420 مليار دولار .. أما المركز الثالث فتحتله شركة النفط الصينية (270 مليارا) وميكروسوفت لأنظمة الكمبيوتر (235 مليارا) وجميعها شركات تتفوق على الناتج القومي لدول عربية مثل سوريا ولبنان والأردن وتونس والجزائر!!

... ومقارنات كهذه تدفعنا للتساؤل إن كنا نعيش في عالم تحكمه الشركات العملاقة؟

الجواب بدون شك «نعم»

... حتى أمريكا التي لا يخفى تأثيرها على دول العالم تحكمها من خلف الكواليس مصالح شركاتها الكبرى.. فهذه الشركات هي التي تدفع لسن القوانين وتوجية السياسة الخارجية والتحكم بالحكومات المنتخبة ومن يسكن ويغادر البيت الأبيض.. وهي تفعل ذلك بطريقة غير مباشرة من خلال دعم الحملات الانتخابية وتشكيل «لوبي» قوي يرعى مصالحها في مجلسي النواب والكونجرس!!

.. وحين تصبح سياسة واشنطن موازية لمصالح شركاتها (التي تشكل معظم الشركات العملاقة في العالم) يصبح همها أقلمة العالم بما يساير رغبات تلك الشركات ويحافظ على تفوقها العالمي..

وبالإضافة لمساندة الحكومة الأمريكية وميزانياتها التي تتفوق على معظم الدول تتمتع هذه الشركات بعالميتها وتمددها كأخطبوط عابر للقارات يتغلغل داخل النسيج الاقتصادي للأمم البعيدة (إن لم يكن من خلال السياسيين الفاسدين، من خلال وكلاء محليين يشاركونها الكعكة)!!

ولأن الشركات العابرة للقارات تساهم فعلاً في صنع الثروات ورفع مداخيل الدول الفقيرة يصعب على الحكومات المحلية (حتى دون ضغط واشنطن) الاستغناء عنها أو التخلص من خدماتها.. خذ على سبيل المثال شركة نايك (لإنتاج الأحذية الرياضية) التي كانت من أوائل الشركات التي دخلت فيتنام وأنشأت مصانع كبيرة فيها . واليوم تساهم مصانعها التي تستفيد من رخص الأيدي العاملة وضعف النقابات العمالية في 13% من دخل فيتنام.. أما شركة إنتل (لانتاج شرائح الكمبيوتر) فافتتحت أول مصنع لها في كوستاريكا عام 1997 وأصبحت اليوم تتحكم في 37% من صادرات كوستاريكا ورفعت ناتج الدولة القومي بنسبة 8% في العام !!

ونماذج كهذه توضح مدى تأثير هذه الشركات على سيادة الدولة وتشكيل التوجة الاقتصادي داخلها.. وفي حين تتغير حكومات الدول تترسخ أقدام الشركات العملاقة داخلها بمستوى يسمح لها بفرض إملاءاتها وكسر كافة الحدود الوطنية والاقتصادية داخلها..

أما المواطن ذاته خصوصاً في الدول النامية فلا يشعر غالباً بسطوة الشركات العالمية كونها تتوحد بالتدريج مع سياسة دولته ذاتها.. ولكن الحقيقة هي أننا نعيش حالياً عصر العولمة وتحول البشرية من مرحلة الحكومات الوطنية إلى حكومة الشركات العالمية .. من عصر الاعتزاز القومي والتفرد الوطني إلى التحالف بين الحكومات المحلية والشركات العالمية هذا إن لم تكن الأخيرة قد أصبحت المسير الأوحد لبعض الحكومات في العالم..

وفي الحقيقة يكفي أن تطّلع على قائمة فوربس (لعام 2012 بخصوص أقوى 500 شركة في العالم) لتدرك أن مامن دولة نامية تتفوق على أي شركة في هذه القائمة !!

وحتى داخل أمريكا نفسها يصعب تصور تحكم رئيس مثل باراك أوباما (الذي لا يتجاوز راتبه السنوي 400 ألف دولار) بشركة عملاقه مثل آبل تفوق قيمتها 400 مليار دولار؟

.. وخلال عقد او عقدين قد تبقى الحدود الدولية كما هي، ولكن الحكومات ذاتها ستخضع للمزيد من متطلبات العولمة وسيطرة الشركات العملاقة .. أما المواطنون أنفسهم فسيصبحون أكثر عالمية وانتماء وولاء لمنتجات الشركات العالمية بصرف النظر عن جنسيتها الأصلية...

... ولاحظ - رعاك الله - ما يفعله الآيباد والآيفون بأطفالنا هذه الأيام !

أين ذهبت أسواقنا المفتوحة؟


أشياء كثيرة أتجنب زيارتها حين أتواجد في الخارج؛ من بينها المراكز التجارية الحديثة والمغلقة.. فبالإضافة الى امتلاكنا مثلها (في السعودية) أجدها متشابهة ومتماثلة في جميع الدول.. تماما مثل المطارات ومطاعم ماكدونالد ورسومات الجرافيتي.. ولأنها تكاد تكون نسخة مكررة في كافة الدول (حتى بمحلاتها وماركاتها العالمية) لا أجد فيها ما يعبر عن طبيعة المجتمع وهوية البلد الذي أزوره فأشعر سريعا بالملل والاختناق!

وفي المقابل أعشق الأسواق المفتوحة والموسمية التي تعقد في الهواء الطلق مرة في الاسبوع أو الشهر.. أنظر إليها كمتحف مفتوح ورحلة عبر الزمن وامتزاج حقيقي بثقافة البلد ومنتجاته الأصيلة.. أبحث عنها قبل سفري لأي دولة وأنظم جدولي بحيث أتواجد خلال موعد انعقادها بالضبط (بل وأجلت في عدة مناسبات رحلة عودتي كي أصادف موعد انعقادها القادم).

وللأسف لا تتسع المساحة لإخباركم بكل تجاربي في أسواق شنغهاي واسطنبول وبرووش وكوالالمبور ولندن واستوكهولم وبرشلونة وكوبنهاغن ومراكش.. ولكن جميعها شكلت خبرات جميلة وتجارب فريدة لا يمكن العثور عليها في مراكز تجارية تديرها شركات استثمارية أو مع ماركات عالمية لا تملك هوية وطنية!!

وكل هذا يجعلني أتحسر على أسواق شعبية كثيرة تمت ازالتها في المدن السعودية بحجة التطوير والتحديث وإعادة التخطيط.

أسواق موسمية ومفتوحة شكلت لآبائنا وأجدادنا مناسبات للالتقاء وتبادل المنافع وتناقل الخبرات ومثلت بصدق طبيعة الناس وحقيقة المجتمع.

أسواق تبلورت خلال مئات السنين ولكنها عجزت في النهاية عن الصمود أمام زحف الكتل الخراسانية والشركات الاستثمارية والعمالة الآسيوية والبضائع الأجنبية!!

وفكرة هذا المقال خطرت ببالي بعد اطلاعي على تحقيق جميل في مجلة ترحال (بقلم وعدسة الدكتور محمد الحيزان) خاص بسوق الدلم القديم على بعد 90 كلم جنوب الرياض.

سوق ذكرني - رغم صغره - بسوق العينية وباب المصري وباب السلام وباب المجيدي في المدينة المنورة (حيث تشير كلمة باب إلى الجهات المقابلة لأبواب المسجد النبوي وسور المدينة القديم).. فهو نموذج حي لأسواق مفتوحة كثيرة - شهدناها في طفولتنا - ولكن معظمها اختفى الآن.. وهو يعقد منذ مئتي عام ويشكل لأهالي المنطقة (بالإضافة للرزق) موقعا للالتقاء والاجتماع وتبادل الخبرات والمنافع، بل وحتى الاستماع للعلماء والمشايخ، حيث يوجد فيه كرسي من الطين كان يجلس عليه قاضي الدلم ثم الشيخ ابن باز رحمهما الله.

وحين تتصفح المجلة (الصادرة من هيئة السياحة والآثار - عدد يناير 2012) تأسرك صور الناس وابتسامات المرتادين ووفرة البضائع المحلية، بل وحسن النية المتمثل في وجود نساء يعرضن بضائعهن ومشغولاتهن اليدوية.

وأسواق كهذه ظاهرة اجتماعية لا يعرفها أطفال اليوم ولكنها تذكرنا بطفولتنا وكيف كانت أحوال الناس تنتظم دون عمالة أجنبية ورعاية رسمية ومزايدات اجتماعية.

وما أتمناه فعلا هو أن يعاد إحياء أسواقنا المفتوحة - في ذات المواقع القديمة - وتشجع ظهورها وازدهارها من جديد.. وهذا النوع من الأسواق يجب أن يستثنى من العمالة الآسيوية والبضائع الأجنبية وتعقيدات وزارة التجارة بحيث يتحول - في النهاية - إلى متحف مفتوح يعبر عن طبيعة الناس وهوية المجتمع وأصالة المنتجات المعروضه فيه.. وإعادة إحيائها يُشكل - بالإضافة للمنافع السياحية - فرصة جديدة لإحياء صناعاتنا المحلية وخلق فرص العمل وحماية البسطاء وصغار التجار من منافسة الشركات الاستثمارية والماركات الأجنبية!!

فهل تراني أطالب بأكثر من فرصة التعبير في الهواء الطلق؟!

شاهدوها وحدهم


هل لاحظت أن معظم الأخبار الخارقة (كرؤية العفاريت والأطباق الطائرة) تأتي من أفراد وليس مجموعات؟

وهل تعرف أن الوحدة رفيقة الجنون والعبقرية؟ وأن العزلة الطويلة تنتهي بالهلوسة وسماع أصوات غريبة!؟

وما يحدث هنا أننا حين نتواجد في بيئة لا نستعمل فيها حواسنا بشكل كاف تبدأ عقولنا بخلق مشاعرها الخاصة والخارقة للعادة.. فحين يعيش الإنسان وحيدا أو معزولاً (في سجن ضيق أو كهف مظلم مثلاً) يبدأ برؤية وسماع أصوات كثيرة تتبلور في رأسه. وهذا النوع من الحرمان الحسي مؤقت غالبا ولا يختلف كثيرا عما يحدث أثناء النوم حين تتعطل حواسنا فتبدأ أدمغتنا بخلق أحلامها الخاصة بحيث نرى ونسمع ونشعر ونتألم دون مؤثرات حقيقية..

ومن المعروف حاليا أن سماع أصوات لا يسمعها الآخرون وليس لها مصدر واضح من الأعراض المعتادة للهلوسة . وهذه الأصوات يفسرها الشخص غالبا بحسب معتقداته الخاصة والآراء الغالبة في عصره .. ولأننا نتحدث عن النوع "المؤقت" يمكن حتى للناس الطبيعيين المرور بهذه الحالة لمرتين أو ثلاث في حياتهم.. وفي تراثنا العربي يوجد كتاب يدعى "الهواتف" للحافظ ابن أبي الدنيا يضم قصصا كثيرة عن رجال ونساء (لا يخفى على أحد حكمتهم وصلاحهم) سمعوا أصواتا غريبة و "هواتف" ترشدهم إلى فعل هذا وذاك...

وكان عالم النفس الألماني (هيرمان ويتكن) قد ابتكر في ستينات القرن الماضي طريقة رائجة لعزل العقل وتهيئته لخلق واستقبال الافكار الخارقة؛ واعتمدت فكرته أساسا على عزل الحواس التي تعمل كمنافذ للدماغ نحو العالم الخارجي بما في ذلك الشعور بقوة الجاذبية تحت أقدامنا .. وهكذا قام بعزل حاسة البصر (بتغطية العينين بقبتين سوداوين) والسمع (بسماعات تصدر أزيزاً ثابتاً) وابتكر حوضا سائلا يبقى فيه المرء (طافياً) ومنع أي روائح حادة أو درجات حرارة متطرفة. وقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها في (تصفية) الذهن والوصول به الى حالة العزلة الكاملة التي تتفاقم بمرور الوقت.. وبعد تجربة هذا الوضع على خمسة وثلاثين متطوعا لاحظ اشتراكهم في المرور بتجارب خارقة (تضمنت سماع أصوات لم تكن موجودة في المختبر) ناهيك عن مرورهم بأحداث غير معقولة اعتقدوا أنها تدور في الواقع رغم أن أجهزة المراقبة تشير الى استيقاظهم جسديا !!

… وحالات الحرمان الحسي عموما تتعزز حين يصل الإنسان لمرحلة الجوع أو التعب أو يملك استعدادا لتقبل ما سمعه مسبقا (مثل ادعاء ظهور الجن في هذا المكان أو ذاك).. وهذه المظاهر مجتمعة تفسر القصص الخارقة التي يأتي بها أفراد مروا بها لوحدهم مثل المسافرين والسائقين والغواصين والمخيمين لوحدهم خصوصا حين تترافق مع ظروف صعبة كالضياع في الصحراء...

.. وقبل أن أنسى: أشير إلى أنه ؛ كما تتسبب العزلة بتعطيل الحواس وتسمح للدماغ بخلق عالمه الخاص يتسبب التكرار الطويل والممل في إرباكها ونقلها لمعلومات خاطئة لمراكز الإحساس في الدماغ.. والمراقب الجيد يدرك أن كثيرا من الممارسات والطقوس الدينية تعتمد على حالتي العزلة أو التكرار الطويل للخروج بأفكار روحانية ومشاهد خارقة للعادة ؛ فالنساك والرهبان في كافة الديانات يعمدون إلى الانعزال والوحدة للوصول إلى مرحلة مايدعى بالتنور أو التوحد أو التجلي أو الفتح الرباني (الذي يترافق غالبا مع الجوع وهجر الملذات).. وفي المقابل كثير من الطقوس تعتمد على تكرار أفعال وحركات وألفاظ معينة كما يحدث في الزار والرقص والقرع المنتظم والتسبيح الجماعي .. وحين يبلغ الحماس أدناه تصل المجموعة أو بعض أعضائها لمرحلة الهلوسة والإصابة بحالات إغماء أو صرع تفسر بأنها حالات مس رباني واقتران الهي ..

.. وربما شيطاني ..

.. حسب توجه المجموعة ..

نسبية الآراء الخاطئة


ليس عيباً أن تملك رأياً خاطئاً ، بل أن تملك عقلاً جامداً وآراء ترفض التغيير.. وهذه المعادلة تنطبق حتى على العلماء والمفكرين وصفوة العقول كونهم في النهاية بشراً يصيبون ويخطئون، ينجحون ويفشلون، يصدقون ويكذبون، يحكمون بتجرد أو من خلال الميل والهوى..

فالناس بجميع مستوياتهم نتاج عصرهم وأبناء مجتمعهم وبالتالي ليس غريبا تبنيهم أفكارا ومعتقدات تبدو بمعايير العصور التالية ساذجة وغريبة أو حتى طفولية وغير منطقية!!

ويمكن التأكد من هذه الحقيقة بالعودة للماضي ومراجعة ماكان سائدا ومسلما به في التاريخ القديم.. فحين نفعل ذلك سنكتشف أن كل محاولة للتصحيح تقابلها آلاف الأصوات المعارضة التي تحظى بكثرة الأنصار وزخم الموروث.. كما سنكتشف أن من يحاول تصحيح فكرة خاطئة في زمانه يواجه بمعارضة زملائه وأقرانه قبل عامة الناس (الأمر الذي يفسر لماذا يسبق العظماء زمانهم وتتطلب الأفكار الجديدة وقتا طويلا لتبنيها)!!

ففي مجال الطب مثلا لم يصدق معظم الأطباء بوجود الجراثيم لأكثر من مئتي عام.. ولهذا السبب لم يهتموا بمسألة التعقيم وانتشار العدوى (خصوصا أثناء العمليات الجراحية) الأمر الذي تسبب بوفاة آلاف المرضى نتيجة التلوث والتقاط العدوى من أيادي الأطباء أنفسهم.. ولم يبدأوا بأخذ الجراثيم بجدية إلا بعد ان أثبت لويس باستير (في منتصف القرن التاسع عشر) دورها في ظهور وانتشار الأمراض، وحينها فقط بدأوا بلبس القفازات وتعقيم أدوات الجراحة والتشخيص!!

وفي علم الفلك سيطرت فكرة مركزية الأرض ووجودها في وسط الكون لمجرد عيشنا فوقها. ولم تفكر الأوساط الفلكية بأي احتمال آخر حتى عام 1543 حين أثبت البولندي كوبرنيكوس أننا مجرد كوكب صغير يدور حول نجمة باهتة ضمن بلايين النجوم في الكون.. وحتى بعد إثبات هذه الحقيقة بواسطة التلسكوبات تمسكت الكنيسة الكاثوليكية بالرأي القديم وحاربت من يتبناه بقسوة !!

أما في مجال الجغرافيا فكان الجميع يؤمن بتسطح الأرض وعدم كرويتها وأنها خلقت كالطبق المسطح (لدرجة رفض ملوك أوروبا تموين رحلة كولومبس كونه سيسقط لا محالة من حافتها الغربية).. ورغم تأكدنا اليوم من كروية الأرض إلا أن الاعتقاد بتسطحها كان يبدو مؤكدا لمن يعيش في منطقة صغيرة ولا يدرك أننا مشدودون بفعل الجاذبية وبالتالي وجودها دائما تحت أقدامنا بصرف النظر عن موقعنا الجغرافي!

وفي علم وظائف الأعضاء كانت الحضارات القديمة تعتقد بأن الكبد (وليس القلب) هو من يضخ الدم في الجسم.. وكان أعظم أطباء الأغريق "جالينوس" يعتقد أن الكبد يدفع الدم لبقية الأعضاء كي تستهلكه كوقود.. وأقتضى الأمر قرونا طويلة حتى اكتشف الطبيب العربي ابن النفيس الدورة الدموية ومسؤولية القلب عنها، في حين تأخرت أوروبا حتى اكتشفها الطبيب الانجليزي وليم هارفي عام 1628!!

وحتى في الجانب الديني نعثر على آراء كثيرة إما تعارض المنطق أو تخالف المثبت في حصرنا الحاضر.. فاليهود مثلا ينكرون وجود الديناصورات (وأي مخلوقات منقرضة) بحجة قصر عمر الأرض وعدم وجود نص يؤيدها في التوراة . أما المسيحيون فكانوا يعتقدون أن عمر الأرض لا يتجاوز 6000 عام بناء على ادعاء الفاتيكان بخلق الأرض قبل ميلاد المسيح ب4004 أعوام . أما ابن تيمية فقد حرم قبل 700 عام علم الكيمياء بحجة مضاهاة مايصنعه الكيميائيين لخلق الله (حسب المجلد الأول من فتاواه ، في مسألة: الكيمياء هل تصح بالعقل أو تجوز بالشرع)!!

... وهذه كلها مجرد أمثلة على مواقف قديمة يمكن تفهمها في حال أخذت ضمن سياقها التاريخي والمعرفي في عصرها.. فتطور الجنس البشري لا يتوقف عند زمن معين ، وتقدمنا المعرفي يتراكم من خلال تصحيح الآراء، وتعديل المفاهيم، وتجربة الفرضيات، والبناء على آخر النتائج...

وكلي ثقة بأننا حتى في عصرنا الحاضر نملك مفاهيم كثيرة خاطئة (نعتقد بغرور أنها نهائية أو كاملة) في حين سيتهكم عليها أحفادنا بعد قرن أو قرنين من الآن!!

... المهم فعلاً هو أن نملك دائماً عقولاً مرنة، وأذهاناً متفتحة، وقناعة (ليس فقط بنسبية الأخطاء) بل وبأن العلماء ليسوا أنبياء معصومين منها !!

لماذا لا ننام واقفين ؟


سمعت منذ طفولتي أمثالاً كثيرة عن النوم من بينها:

"نوم الظالم عبادة" و "نايم نومة الملوك" و "الذيب ينام وقلبه ماينام" و"البومة تنام وعيونها مفتوحة" ... وكذلك "ينام نوم البغل" و "ماتنام البقرة مع الحصان" !!

وما لاحظته شخصيا أن معظم هذه الأمثلة إما ترتبط بكمية النوم أو عمقه أو تأثره بمحيطه..

خذ كمثال المثل الأول الذي يوحي بمحاسن النوم الطويل للظالم والطاغية

والثاني الذي يوحي بالثقة والطمأنينة (ويذكرنا بقول مرسول كسرى: عدلت فأمنت فنمت)..

أما الثالث فيتعلق بحالة النوم السطحي والحذر من النوم العميق (وأرى أنه يتعلق بالدولفين أكثر من الذئب)..

أما البومة فتشترك مع البطريق (وطيور كثيرة) في بقاء أعينها مفتوحة حتى أثناء نومها...

أما وصف نوم أحدهم بنوم "البغل" أو "البقرة" فكنت أظنه يتعلق بطول فترة النوم والمبالغة فيها حتى اكتشفت أنه (على العكس تماما) يتعلق بقلة النوم والاستيقاظ لأطول فترة ممكنة.. فالبغل ومعه الحصان لا ينامان لأكثر من 3 ساعات في اليوم.. أما البقرة فتكتفي ب4 ساعات وتظل مستيقظة حين تحشر مع مخلوق مختلف (الأمر الذي يفسر عجزها عن النوم مع الحصان)!!

وفي المقابل هناك مخلوقات تقضي معظم حياتها نائمة لدرجة تتساءل لماذا خلقت أصلا!؟

.. فالدب الكسلان مثلا ينام لأكثر من 20 ساعة ولا يستيقظ إلا لتناول الأوراق والأغصان القريبة.. وكذلك القوارض والقنافذ والفئران البنية تنام لنفس الفترة في أماكن مظلمة ومحشورة .. أما الأسد ملك الغابة ؛ فاتضح أنه ليس ملكاً (ولا يعيش في الغابة) بل مخلوق كسول نذل ينام لأكثر من 14 ساعة ولا يستيقظ إلا لمعاشرة اللبوات وأكل ماتصطاده من فرائس .. وبين هؤلاء وهؤلاء يقع الإنسان الذي ينام 8 ساعات في المتوسط ويقضي ثلث حياته (مسطحا) فوق السرير..

ولكن لماذا هذا التفاوت بين المخلوقات؟

.. لماذا يحتاج الأسد ل 14 ساعة في حين يكتفي الحصان ب3 ساعات فقط؟

.. لماذا ينام الدب الكسلان لأكثر من عشرين ساعة في حين تكتفي الأبقار ب4 ساعات فقط!؟

.. لماذا لا ينام الإنسان (الأكثر ذكاء) أقل من الفيلة والخيول.. أو لا ينام مثلها (واقفا)؟

... لا يوجد جواب مؤكد ولكن لوحظ ارتباط هذه الظاهرة بعوامل فضفاضة مثل: حجم المخلوق، وحاجته للطعام، وطبيعة المناخ، وما إن كان مفترساً أم ضحية...!!

فالثدييات الصغيرة مثلا (كالفئران والقوارض) تنام أكثر من الكبيرة (كالفيلة والأبقار)!!

والمخلوقات العاشبة (كالفيلة والأبقار) تنام أقل من المفترسة (كالأسود والضباع)!!

والحيوانات المفترسة (التي لا تخشى أحدا) تنام "نومة الملوك" مقابل طرائد تخشى التهامها في أي لحظة (كالغزلان والظباء التي بالكاد يغمض لها جفن) !!

أضف لهذا قد يجبر المناخ المتطرف بعض المخلوقات كالسناجب والقنافذ والخفافيش والدببة على الدخول في حالة سبات طويل تتجاوز بفضله البرودة الشديدة وشح الغذاء وانقطاع الأمطار...!!

وما أراه غريبا بالفعل هو أن يتعلق طول النوم بكل هذه العوامل (والغرائز البدائية) في حين لا يرتبط أبدا بسلم الذكاء أو حجم الدماغ أو مستوى الملكات الذهنية لدى المخلوقات!!

فالإنسان مثلاً يقع في قمة الذكاء وضخامة الدماغ ومع هذا ينام أكثر من الحصان، وأقل من الفئران، وتتأثر ملكاته الذهنية في حال انخفضت ساعات نومه..

وبعد الإنسان يأتي في سلم الذكاء الدولفين والشمبانزي والفيل التي تملك أنماطا غير متشابهه من النوم.. فالدولفين لا ينام تقريبا (كي لا يغرق) ويكتفي بإغلاق أجزاء من دماغه للراحة.. وفي المقابل ينام الشمبانزي لعشر ساعات عميقة والفيل لأربع ساعات سطحية في وضعية الوقوف (كونه يشترك مع الحصان في امتلاك نظام شد في الركبة يمنعه من السقوط)!!

... وكل هذه التقاطعات والاختلافات تجعل من الصعب تحديد أسباب تفاوت فترات النوم لدى المخلوقات رغم اشتراكها - في النهاية - بحاجتها للسقوط فيه والخضوع لسلطانه..

سبحان من لا تأخذه سنة ولا نوم!!

العالم السفلي


شاهدتُ قبل أيام الجزء الرابع من سلسلة أفلام العالم السفلي أو UNDERWORLD ..

وهو آخر جزء (أطلق هذا الشهر يناير 2012 تحت اسم Awakening) ضمن سلسلة أفلام تدور رحاها في عالم غامض بين مصاصي الدماء ومتحولين من قبيلة الذئاب..

ورغم أنني نعست كثيرا خلاله (لدرجة دخلت بعض أجزائه ضمن أحلامي) إلا أنه ذكّرني بقصة معلم فاضل زارني قبل سنوات فقط ليسألني: هل صحيح ان هناك حالات يتحول فيها البشر الى ذئاب؟
قلت: قرأت عن هذه الحالات ولكنني أعتقد أنها مجرد أساطير وفلكلور شعبي.

-حك ذقنه وقال: كيف مجرد أساطير؟
قلت: الفكرة موجودة في الموروث الشعبي لكل الأمم يتحول فيها الانسان الى ذئب إذا جن الليل او اكتمل القمر (وتطلق عليها العرب الاستذئاب والانجليز Werewolf).. وفي هذه الحالة يتقلص الوجه وتبرز الأسنان وتطول المخالب ويعوي الشخص كالذئاب.

وتدعي بعض الأساطير ان المصاب يستجيب لنداء الذئاب إذا اقتربت فيخرج اليها ويسرح معها ويعود في الصباح. وحين يكون في هذا الوضع تصبح حواسه قوية مثلها (وبالذات حاستي الشم والسمع).. ولكن كما قلت هذه مجرد أساطير!


ابتسم بطريقة تشير الى عدم اقتناعه بكلمة (أساطير) وقال: ماذا إن أخبرتك أنني أعرف شخصاً يتحول في الليل الى ذئب!؟


ملتُ أنا نحوه وقلت: مااااذا، هل أنت متأكد؟


قال: متأكد كما أراك أمامي. قلت: هل تقسم بالله ان الأمر حقيقة. قال: أُقسم بالله على انه حقيقة وان الرجل "يصير عديلي"...


قلت: وكيف تحدث الحالة!!


قال: يستيقظ في الليل وقد توحشت ملامحه وبرزت أسنانه ويعوي كالذئاب. وقد هجرته زوجته الأولى بسبب هذه الحالة ثم تزوج أخت زوجتي التي صبرت عليه وكتمت سره خصوصا انه لم يكن يؤذيها. وحين كان يستيقظ في الصباح كانت تخبره بما فعل في الليل فيكذبها.. ولكنها هذه الايام هربت عند أختها حين سألتها عن السبب قالت: لأن الحالة ظهرت ليلة أمس عند ابنه البكر - وهي تخشى ان تنجب منه مزيداً من الأطفال!!


ومرة أخرى قلت له أتقسم بالله بأن القصة صحيحة!؟

قال: يا رجل "زوجته" في بيتنا.. قلت: في هذه الحالة سأبحث في الموضوع وأرد عليك؛ فوافق ووضع في جيبه ثلاث تمرات وخرج!!

... وحسب علمي ظاهرة الاستذئاب (أو لنقل الاعتقاد بحصول ذلك) كانت شائعة في أوربا حتى مطلع الثورة الصناعية - وماتزال حيّة هي ومصاصي الدماء في الثقافة الغربية .. ففي عام 1898 مثلا اعتقد فلاح فرنسي (يدعى جاكوي روليه) انه ذئب وتم إعدامه بتهمة اختطاف الأطفال وافتراسهم في الغابة.. وهناك حالة موثقة وقعت بمنطقة اسكس الانجليزية عام 1987 بطلها عامل بناء يدعى بيل رامسي أصيب بحالة استذئاب فقبضت عليه الشرطة وحولته الى مستشفى رنويل للصحة النفسية ...!!

وفكرة الرجل الذي يتحول ليلًا الى ذئب استحوذت على اهتمام السينما لدرجة أنتجت هوليوود وحدها 76 فيلما عن هذا الموضوع (كان آخرها الجزء الرابع من العالم السفلي والرجل الذئب ل جي نيكولاس)!!

ولانني لا أصدق بإمكانية تحول أي مخلوق الى نوع مختلف أرى ان اقرب الاحتمالات هي:


الإصابة بحالة نفسية نادرة (تدعى Iycanthropy) يعتقد فيها المرء انه يتحول الى حيوان متوحش!


او الإصابة بداء السعار (Rabies) حيث تظهر على الانسان أعراض مشابهة بعد عضة ذئب او كلب مسعور.


وقد تعود الظاهرة الى نوع من الانفصام المجنون او الصرع العنيف الذي يضخمه الليل ومبالغة الناس!


وهناك احتمال الإصابة بأمراض نادرة قد توحي أعراضها بتحول الانسان الى ذئب (مثل مرض البورفيريا)!


وأخيراً ؛ وجود تراث ثقافي واستعداد مسبق لتقبل مثل هذه الروايات- التي لا تختلف في نظري عن السعلية والغول والعنقاء في تراثنا العربي - !!

الحياة في كلمة


لم يجرب أحدنا الموت من قبل، ولكن من الواضح أن آخر كلمة يتلفظ بها الإنسان قبل وفاته تحمل خلاصة أفكاره وقناعاته وفلسفته في الحياة..

وتلك الكلمات تدل في معانيها على معادن الناس - حديد ونحاس أم ذهب وألماس.. وقد تكون بطبيعتها منطقية أو خيالية، جادة أو ساخرة، عميقة أو بلهاء، صادقة أو خرقاء.

= فحين حضرت الوفاة خالد بن الوليد قال: "لم يبق شبر في جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير"!

= وتذكر إحدى الروايات أن عليا كرم الله وجهه قال حين طعنه ابن ملجم "فزت ورب الكعبة".

= وقال المأمون حين حضرته الوفاة "يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه".

= وقال الحجاج عند موته "اللهم اغفر لي فالناس يقولون انك لن تفعل"- وكان عمر بن عبدالعزيز يغبطه على هذه الكلمة!

= ولما حضرت بلالا الوفاة قال "غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه"..

= وقال الفضيل بن عياض (وهو شيخ الحرم المكي وممن أخذ عنهم الشافي) " آآآه يا بعد السفر وقلة الزاد"!

= وفي المقابل قد تدل آخر كلمة للمتوفى على اعتزازه بقوميته وبني جنسه: فحين هزم انطونيو على يد اوكتافيوس قال وهو يحتضر: لم اسقط بطريقة مخزية فأنا روماني وقد هزمني روماني آخر.

= وبنفس الغرور صرخ نابليون قبل وفاته: فرنسا.. الجيش.. قائد الجيش.. جوزفين!!

= وقد تكون آخر كلمة مجرد تقرير لحقيقة منطقية مسلم بها؛ فحين سألوا الإسكندر الأكبر عمن سيخلفه قال: الأقوى!

= وحين سألوا الروائية الإنجليزية جين اوستين عما تحتاج، قالت مبتسمة: وهل هناك غير الموت!

= ونادرا ما تكون آخر الكلمات من النوعية التي تعبر عن السعادة والرضا بالممات، ومع ذلك قال الشاعر الإنجليزي جيرارد هوبكنز حين مات: كم أنا سعيد..

= وقال العسكري الفرنسي الشهير موريس دوساكس: كان الحلم قصيرا، لكنه جميل..

= وقال الممثل الإنجليزي نويل كورد: تصبحون على خير لن أراكم في الصباح..

= ولعل أشهر ما يتداوله العامة هي الكلمات التي تدل على الطبيعة الكوميدية والساخرة للمرء.. فحين حضرت الوفاة المفكر الإيطالي الشهير ميكافيلي قال: أريد الذهاب للجحيم، حيث أتمتع بصحبة الباباوات وملوك أوروبا!

= وحين حضرت الوفاة المستعرب جون فيلبي قال: أخيرا.. لقد مللت!

= وكان الملك البريطاني هنري الثامن يخشى دائما من رهبان الكنيسة، لذا من الطبيعي أن يصرخ قبل وفاته: رهبان.. رهبان في كل مكان!

= أما المؤرخ البريطاني توماس كارلايل فقال: إذا هذا هو الموت OK.

= وقال لويس كارول (مؤلف أليس في بلاد العجائب): تقاسموا الوسادات لن أحتاج لها مرة أخرى !

= وقد لا تكون آخر الكلمات سوى تعبيرا عن معاناة اللحظة وألم الاحتضار فآخر كلمات الفيلسوف الألماني (كانت): آه.. ثم آه.. ثم آه.. هذا يكفي!

= وحين اغتيل بيريز رئيس وزراء اسرائيل السابق وضع يده على مكان إصابته وقال: هذا مؤلم!

= أما سيء الحظ فعلا فكان العالم المعروف أنشتاين الذي قال قبل وفاته كلاما مهما لم يوثق ولم يعرفه أحد حتى الآن.. فقد قال شيئا باللغة الألمانية لم تفهمه ممرضته التي لا تجيد غير الانجليزية!

.. على أي حال، طالما اتفقنا على أن آخر كلمة يتلفظ بها المرء تدل على نظرته للحياة والطريقة التي يختم بها دنياه فليس أفضل من "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ….

كل الروس.. أبطال


تحدثت في آخر مقال عن تفوق الشطرنج كلعبة ذهنية، وحاولت الإجابة عن السؤال الذي عنونت به المقال "من اخترع الشطرنج فعلا؟"

وبعد مرورنا على الهند وإيران والعراق (في الماضي) وعدتكم بالحديث عن تغلغل الشطرنج في روسيا (في عصرنا الحاضر) وخلفية دخوله ضمن المناهج الدراسية ومكونات الشخصية الروسية!!

وبدون شك هناك معادلة بسيطة لأي تفوق رياضي مفادها: بقدر ما تكون اللعبة شعبية بقدر ما تحقق الدولة فيها بطولات.

فإذا نظرت للصين مثلا تجد الناس فيها مغرمين بتنس الطاولة الأمر الذى انعكس على عدد البطولات التى أحرزتها الصين فى هذه اللعبة.. وتحضى رياضة الأثقال بشعبية واسعة في بلغاريا الأمر الذى أهلها لتسيد المنافسات الدولية.. ويعشق الباكستانيون الكريكيت لدرجه اصبح من المستغرب ألا يفوز "باكستاني" بالبطولة الدولية لهذا العام. وقبل اندماج ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية كانت العاب القوى تحضى بهوس جماهيري ينتهي دائما بتحقيق مراكز عالمية متقدمة وإحراج "لعيبة" كبار مثل روسيا وأمريكا. اما فى البرازيل - وما أدراك ما البرازيل - فالناس هناك تتنفس كرة القدم وتفطر بها الأمر الذى أهلها لنيل خمسة كؤوس حتى الآن!!

أما في روسيا فاللعبة الشعبية الأولى التى يتفوقون فيها هي بدون شك الشطرنج.

فمن بين أعظم ثلاثة عشر بطلا فى القرن الماضي هناك احد عشر روسيا - وحتى البطل الامريكى الوحيد بوبي فشر ينحدر من أصل روسي.

ومظاهر الهوس بهذه اللعبة تلاحظها فى كل مكان؛ ففي عز الشتاء تتهافت الجماهير يوميا الى حديقة نيميريازفسكي - قرب موسكو - لمشاهدة تحديات لا تنتهي بين الصغار والكبار. ويضم الكرملين نفسه اكبر صالة شطرنج في العالم يؤمها يوميا عشرات المبتدئين والمحترفين. وروسيا هي الدولة الوحيدة التي تدرس الشطرنج كمنهج في مدارسها الابتدائية وتحتل أخباره ومنافساته الأولوية في الصحافة والتلفزيون.

وهناك قول مفاده "لن يكون المرء روسيا ما لم يتقن اللعبة ويحملها معه فى كل مكان". ومن غير المقبول ان تصبح شخصية مشهورة ولا تبتكر "حركة" جديدة باسمك؛ فشخصيات كبيرة مثل لينين وبوشكين وتولستوي وايفان لهم "حركات" معروفة بأسمائهم.. بل ان الحركة المعروفة باسم "الاستاذ الأعظم" من ابتكار القيصر نيوقولا الثاني آخر الاباطرة الروس!

وفي الحقيقة؛ قد يكون الشطرنج اخترع في إيران والهند ولكنه تأصل فى روسيا وتجذر فيها؛ وقد انتقل اليها من المناطق الاسلامية في الجنوب قبل أوروبا بزمن طويل. ووجد فور وصوله قبولا فطريا لدرجة اعتقاد معظم الروس أنه اخترع في بلادهم. وبعد الثورة البلشفية تبنى الحزب الحاكم اللعبة رسميا فنظم المنافسات وفرضها كمنهج دراسي وأعلن ان من حق كل مواطن امتلاك "شطرنج" مجاني.. كما استغله أيدلوجيا لإثبات الانضباط الشيوعي والتفوق الاشتراكي وذكاء العقل الروسي، ناهيك عن الفكر الماركسي الذي لا يعترف بالصدفة والقدر ويؤكد على الأسباب والتراكم المنطقي للنتائج.. (وحين نقول ذكاء العقل الروسي نشير بذلك الى اعتقاد الروس بان تفوقهم في الشطرنج يعود الى انهم أذكى شعب في العالم. فقد لا يهتم الأب الروسي ان تدنت علامات ابنه فى الكيمياء والأحياء ولكنه يندب حظه ان تعلق فشله بالشطرنج)!!

وهوس الروس بهذه اللعبة أمر عجز حتى عباقرة الشطرنج عن تفسيره.. ولكن.. كما ان شواطئ البحر ومظاهر الفقر وطبيعة الشخصية البرازيلية أنتجت لاعبين عظام؛ فإن طبيعة المزاج الروسي، والمناخ البارد، والمنشآت المغلقة، وتشجيع الدولة عوامل جعلت من كل الروس أبطالا في منافسات الشطرنج.

من اخترع الشطرنج فعلاً؟


كثيراً ما أتساءل ان كان الشطرنج من اختراع انسان سوي مثلي ومثلك.. فعقولنا يمكنها التنبؤ بأول خطوة - والتعامل مع ثاني احتمال - ولكنها بعد ذلك تصاب بالعمى وتصبح الخطوات التالية بالنسبة إليها مجهولة وفوضوية ومفتوحة على كامل الاحتمالات!

وفي المقابل يوجد في لعبة الشطرنج 318,979,564,000 احتمال ضمن أول أربع خطوات فقط.. أما الاحتمالات المتوفرة حتى نهاية اللعبة فتتسع الى ألف ترليون ترليون ترليون (ويمكنك تكرار هذا الكلمة ثماني مرات) احتمال يصعب توقعها.

والمدهش أكثر أن جميع هذه الاحتمالات لا تعتمد على الحظ والصدفة - مثل بقية الألعاب - الأمر الذي يفسر صعوبة فوز الانسان على الكمبيوتر فيها (كونه يعتمد على معادلات رياضية دقيقة لا تترك فرصة للخطأ أو النسيان)!!

ورغم أن الشطرنج تطور في بلاد العرب وجنوب أوروبا ترجح أغلب الروايات اختراعه قبل زمن طويل في الهند أو إيران.

وحسب الرواية الهندية اخترع الشطرنج وزير يدعى (سيسا) كان يعمل لدى ملك يدعى (شرهام) أراد تسليته بلعبة تشحذ العقل وترفع الهمم.. ومن فرط إعجاب الملك باللعبة أراد مكافأة وزيره فطلب منه تحديد مكافأته بنفسه.. الوزير الذكي طلب حبة أرز واحدة (فقط) توضع في المربع الأول ثم تضاعف في المربعات التالية حتى تنتهي مربعات الشطرنج الأربعة والستين.. ورغم أن الملك سخر من طلبه أمر له بما يريد فاتضح في النهاية أن أرز الهند بمجملة لن يكفيه بهذه الطريقة (حيث ستتضاعف حبات الأزر مربعا بعد آخر حتى تصبح في نهاية الرقعة 18,446,744,073,709,551,615 حبة)!

أما الرواية الفارسية فلا تقل فلسفة وجمالا عن الرواية الهندية.. فهي أيضا تتحدث عن ملك طلب من أحد الفلاسفة اختراع لعبة تعتمد على الحظ وتعبر عن تحكم الأقدار والصدفة بحياة الانسان؛ وخلال أيام عاد الفيلسوف حاملا معه لعبة النرد أو الزهر التي يمكن رمي مكعباتها عشوائيا على الأرض (واحتمال ثباتها على أي رقم من أوجه المكعب الثمانية).

وبعد وفاة هذا الملك خلفه ملك لا يؤمن مثله بالحظ والصدفة فطلب من نفس الفيلسوف ابتكار لعبة تعبر عن حرية الاختيار ومسؤولية الفرد وعاقبة تصرفاته في الحياة.. وخلال أيام عاد الفيلسوف حاملا معه لعبة الشطرنج التي تعتمد على معادلات رياضية وتراكيب منطقية واحتمالات محسوبة يختارها اللاعب بنفسه (وبيني وبينكم هذا هو سر حبي للشطرنج وعجزي عن إتقان أي لعبة تعتمد على جلوسنا بانتظار الحظ)!

وتستمر الرواية لتخبرنا كيف أعجب الملك بالشطرنج فطلب وضع خطط حربية تعتمد عليها.. أما الفيلسوف فوضع معادلات رياضية تعتمد على احتمالات التحرك فوق رقعته المربعة - وأقنعه بأنها تنطبق أيضا على ما يحدث في حياتنا اليومية!

وتشير المصادر التاريخية الى أن الشطرنج حضي باحترام كافة الحضارات التي مر بها كونه يشحذ العقل ويشجع على التفكير ويساعد على تتبع الاحتمالات.. فالهنود مثلا كانوا يرونه تجسيدا لفلسفة الوجود وتبلور الأحداث، والفرس اعتمدوه في السياسة وترتيب الفرق العسكرية، والرومان اختاروه كعنصر حاسم لاختيار سفرائهم وقادة جيوشهم.. كما تشير كتب التراث الى انتشاره في بغداد في فترة الازدهار العباسي واعتباره معينا لا ينضب من الاحتمالات الرياضية في بيت الحكمة (وسأخبركم في المقال القادم كيف تغلغل في روسيا الحديثة ودخل ضمن المناهج الدراسية ومكونات الشخصية الروسية)!

على أي حال؛ رغم احترامي للهنود والعرب والروس، وكل الشعوب التي ساهمت في ابتكار الشطرنج أجيب على السؤال الذي عنونا به المقال وأرجح (الإيرانيون) كمخترع أساسي له.

فحين تتأمل تاريخهم القديم مع اليونانيين والرومان والعرب، وتاريخهم الحديث مع أمريكا وأوربا ووكالة الطاقة النووية تشعر أنهم يلعبون السياسة بطريقة الشطرنج، ويتعاملون مع "العالم" كرقعة مربعات تضم عددا كبيرا من الاحتمالات!

فلا أقسم بمواقع النجوم


جميعنا يعرف كم هو الكون ضخم وشاسع (ولكن صدقوني) قليل منا يستطيع تخيل ذلك.. حتى استخدامنا "للسنين الضوئية" يصبح مجرد أرقام لا تعني شيئا بمجرد مغادرة مجموعتنا الشمسية والوصول لأقرب نجمة إلينا.

وقبل أن آخذكم في رحلة لأطراف الكون دعونا نتفق أولا على الانطلاق بطريقة تصاعدية بدءا من الشمس والكواكب التي تدور حولها، مرورا بالنجوم في مجرتنا، وصولا الى تجمع المجرات في مجموعات أكبر وأكثر!

والآن؛ تخيل انطلاقنا من الشمس بمركبة فضائية تسير بسرعة الضوء (التي تقطع في كل ثانية 300 ألف كيلومتر).. في هذه الحالة سنتجاوز بسرعة عطارد وفينس بحيث نصل إلى الأرض (ثالث كوكب من الشمس) خلال ثماني دقائق فقط!

ثم نسير لمدة خمس ساعات و31 دقيقة حتى نصل إلى بلوتو آخر كواكب المجموعة الشمسية، التي نبدأ بالخروج منها!

وتستمر مركبتنا في السفر بسرعة الضوء بحيث تصغر الشمس بالتدريج حتى تصبح مجرد نجمة في السماء (في حين تختفي تماما الكواكب حولها)!

وتمر أول وثاني وثالث ورابع سنة في فراغ تام حتى نصل في خامس سنة إلى أقرب نجمة إلينا (وتدعى الفاسنتاري)! وبعد تجاوزها نستمر في السفر لمدة 1000 سنة حتى يبدو لنا جزء من الذراع الخارجي لمجرتنا الصغيرة درب اللبانة (التي تتخذ شكلا حلزونيا تستقر شمسنا في طرفه الباهت).

ونحتاج للابتعاد مسافة 100 ألف سنة ضوئية أخرى حتى نرى المجرة كاملة كقرص حلزوني (يزدحم مركزها بالنجوم ويضيء بشدة مقارنة بالأطراف).

ولاحظ أن مجرة درب اللبانة (رغم أنها من أصغر مجرات الكون) تضم لوحدها أكثر من 95 بليون نجمة (2500 منها فقط تبدو واضحة للعين المجردة ويمكننا رؤيتها في ليلة صافية)!! وعند هذه المرحلة؛ إذا شبهنا مجرة درب التبانة بقرص الخبز، تكون الشمس بحجم ذرة ملح تلتصق بطرفه الخارجي!

وبعد خمسة ملايين سنة ضوئية سنرى تجمعا من 30 مجرة تعرف مع مجرتنا ب(المجموعة المحلية) كونها تقترب من بعضها كمجموعة مصابيح في ثريا صغيرة!

وبعد 500 مليون عام يصبح واضحا أن هذه المجموعة "المحلية" تأتي بدورها ضمن تجمع أكبر يضم أكثر من 2000 مجرة ضخمة (بعضها حلزوني وبعضها كروي وبعضها عشوائي)!

وبعد 10 بلايين عام تصبح السماء مليئة (لا بالنجوم والمجرات، بل بتجمعات مجرية) يتجاوز عددها البلايين تتناثر في أرجاء الكون!

وبعد 100 بليون عام ستبدو هذه التجمعات المجرية كنجوم صغيرة متفرقة يصعب إحصاؤها، في حين يصبح بعضها عصيا على المشاهدة بسبب البعد الهائل.

وبعد 150 بليون عام نصل الى نهاية الكون الذي نعرفه وتمكنا من رصده حتى الآن (علما أنه قد يمتد لمسافات أبعد، أو إلى ما لانهاية)!

وداخل الحدود المعروفة للكون أضرب (بلايين التجمعات المجرية) في (بلايين المجرات الكونية) في (بلايين النجوم داخلها) لتكتشف عدد الكواكب المحتملة حول النجوم!

وكل هذا الاتساع والضخامة والوفرة تجعل كوكب الأرض بالنسبة للكون أصغر من أي بكتيريا يمكن رؤيتها تحت المجهر.

أما من حيث (العدد) فأصبح مؤكدا أن عدد النجوم والكواكب - التي لا يمكن رؤيتها - أكثر من حبات الرمال على كل شواطئ العالم مجتمعة!

هل تذكرون القسم الثاني من الآية: (وإنّهُ لقسَمٌ لوْ تعْلمُون عَظِيم).

احتضار الأرشيف الرقمي


قبل فترة أجريت لقاء في إحدى القنوات السعودية طلبت في نهايته (نسخة) لنشرها على الفيسبوك واليوتيوب.. وفي القنوات الخاصة تجد اللقاء منشورا على الانترنت في اليوم التالي، ولكن في قنواتنا المحلية يتطلب معاملة رسمية بحيث وصلني بعد شهرين (شريط فيديو) لم أعرف كيف أشغله أو أحوله لصيغة الكترونية يمكن تداولها عبر النت!

وعجزي عن تشغيل "الشريط" لا يعود فقط الى اختفاء جهاز الفيدو من معظم البيوت، بل وانحسار البرامج والأنظمة المشغلة له وصعوبة تحويله لنسخة الكترونية يمكن حفظها على الكمبيوتر أو نشرها في مواقع الفيديو!!

... وهذه الظاهرة أصبحت مشكلة عالمية تعاني منها كافة المؤسسات البيروقراطية والمخضرمة .. فبرامج الكمبيوتر، وأنظمة التشغيل، ووسائط الحفظ والتنزيل ، تتغير بسرعة كبيرة لدرجة تراكم أرشيف رقمي قديم يستعصي حاليا على التشغيل..


وكما اكتشفت هذه المشكلة المؤسسات العريقة في الدول المتقدمة (تملك أرشيفا يعمل فقط على الأنظمة القديمة) اكتشفها شخصي المتواضع في السعودية على مدى 21 عاما من الكتابة الصحفية..

فمنذ عام 1991 وحتى نهاية 2011 تنقلت بين عدة وسائل للكتابة والحفظ والتحرير.

ففي أول عامين كنت أكتب مقالاتي بخط اليوم (وأستعمل السائل المبيض لتصحيح الأخطاء)..

ولفترة قصيرة لجأت لاستعمال الطابعات الكهربائية تعلمت من خلالها كيفية الطباعة على لوحة المفاتيح..

بعد ذلك تعلمت على برنامج الكتروني قديم (يدعى صخر) أتاح حفظ مقالاتي على أقراص مرنة - اختفت مثل شريط الفيديو..- .

ومنذ خمس عشرة سنة انتقلت لأستخدم برنامج "وورد" على نظام ويندوز... ومازلت أستخدمه..

وحتى بعد انتقالي لأنظمة ويندوز استمررت في استعمال الأقراص المرنة لحفظ وتخزين المقالات، قبل أن استبدلها بأقراص الليزر و"الفلاش مومري"!!

... والنتيجة اليوم، أنني فقدت كثيرا من مقالاتي القديمة إما بسبب كتابتها بخط اليوم أو اختفاء أنظمة تشغيلها، في حين أصبحت عاجزا عن فتح أو استخراج محتويات الأقراص المرنة بسبب اختفاء أجهزتها من الأسواق!! ومن هذا يتضح أن مواكبتي للتطور الإلكتروني انقلب إلى عقبة ونقمة بعد عقدين من الزمان فقط.. ونفس الظاهرة تسري على المؤسسات الكبيرة حيث يترافق تطور وسائل الحفظ الإكتروني مع ارتفاع نسبة فقدها وصعوبة استخراجها بعد جيل أو جيلين.. 


وهذا المشكلة (التي أدعوها احتضار الأرشيف الرقمي) لم تكن واضحة حتى سنوات قليلة مضت؛ ولكنها اليوم بدأت تثير القلق بسبب اختفاء أنظمة تشغيل (ووسائل حفظه وأجهزة عرض) يعتمد عليها الأرشيف الإلكتروني القديم!

.. والمشكلة الأساسية لا تكمن في عدم وجود تقنيات خاصة لفتح المحفوظات القديمة (أو تنقلها للأنظمة الجديدة) بل في أن هذه التقنيات نادرة جدا ومكلفة جدا وخاصة جدا .. ولهذا السبب تضطر المؤسسات الصغيرة والأفراد مثلي إلى تجاهل الأرشيف القديم والتركيز على ملاحقة البرامج والأنظمة الحديثة!!

والمفارقة أننا نمر هذه الأيام (رغم تطورنا التقني) بذات المشاكل التي مرت بها الحضارات القديمة:

فنحن مثلا لا نعرف شيئا عن حضارات كثيرة لم تدرك أهمية التدوين أو ظهرت (قبل التاريخ المكتوب).

كما اختفى قسم كبير من التراث الإنساني بسبب حوادث التدمير والنهب وحرق الكتب والمخطوطات.

وحتى الكتب والمخطوطات التي نجت من الحرق والتلف تتعرض بفعل الزمن للتآكل والانحلال.

وحين ظهرت وسائل الحفظ الإلكتروني (بما في ذلك شبكة الانترنت) اعتقد الخبراء أنهم توصلوا إلى "الحل النهائي" لحفظ التراث الإنساني...

ولكنهم اليوم يفاجأون بمشكلة التغير السريع لأنظمة التشغيل وصعوبة فتح أرشيف رقمي لا يتجاوز عمره عقدين أو ثلاثة فقط!!

... أعزائي ..

لست رجعياًً ولا متشائماً ؛ ولكن الفراعنة أثبتوا بُعد نظرهم حين حفروا تراثهم على الصخور والمسلات والجدران الحجرية !!

أفكار حققت الملايين


كان عنوان هذا المقال في البداية (أفكار غبية حققت الملايين على الانترنت).. غير أنني تذكرت الكتاب الأبيض لصديقنا تركي الدخيل فقررت إزالة كلمة "الانترنت" من باب التعميم.. و"غبية" خشية أن يحقق الملايين فعلا.

فالأذكياء منذ بدء الخليقة لم يعدموا ابتكار أفكار تُفرغ جيوب الحمقى والحالمين حتى قيل "رزق البله على المجانين".. وحين أعود بذاكرتي الى الوراء لا أنسى كيف كنا أطفالا نبيع كل شيء على زوار المسجد النبوي - من بلاط الحرم وتراب البقيع، الى قطع الثلج وحجارة جبل أحد.

وحتى قبل ظهور الانترنت استغل البعض انتشار الصحف لنشر إعلانات محبوكة تحقق ثروة معقولة.. والقصة النموذجية تتحدث عن محتال يعلن عن بيع "آلة خياطة" أو "طريقة جديدة للثراء" بدولار واحد فقط.. وحين تصله آلاف الدولارات ينفذ وعده فعلا ويبعث للقراء "إبرة خياطة" أو قصاصة كتب عليها "افعل مثلي"!

وأشخاص كهؤلاء يفوقون بذكائهم صديقنا الظريف (بدر الخريف) الذي نشر خبرا عن طالب سعودي في اليابان صمم مشروعا لبناء مسجد فوق سطح القمر.. ورغم أن المشروع كان تخيليا إلا أن عددا كبيرا من القراء اتصلوا به عارضين التبرع لشراء مكيفات للمسجد أو انشاء سكن للإمام والمؤذن.. وبدل أن يوافق على استقبال تبرعاتهم أرهق نفسه بشرح حقيقة المسجد وأنه مجرد بحث للتخرج!

أما الانترنت فضاعفت من فرص تحقيق الثراء - أكثر من كافة الصحف - بفضل قدرتها على الوصول لملايين الأغبياء حول العالم.. فمجرد قدرتك على استقطاع مبلغ بسيط من أي شريحة يائسة يحقق لك ثروة كبيرة.. سواء كانت فكرتك شريفة كبيع الكتب، أو خبيثة كبيع الماء في "حارة السقايين".

خذ على سبيل المثال الشاب أليكس توو الذي وضع صفحة بيضاء على الانترنت سعتها 1000,000 بيكسل وأعلن عن بيع كل "بيكسل" منها بدولار واحد فقط.. ورغم أن الفكرة بدت حينها غبية وحمقاء إلا أن الناس أحبوها واشتروا كافة مربعات البيكسل في صفحته، التي يمكنك رؤيتها على الرابط milliondollarhomepage.com

أيضا هناك بول جرافيس الذي لاحظ أن ما من عاقل يقبل بمواعدة مرضى الإيدز أو الدخول معهم في علاقة حميمة (وأتساءل ان كان أحدا غيره لاحظ هذا).. وهكذا قرر رغم كثرة مواقع التعارف على الانترت إنشاء موقع خاص بالمصابين بهذا المرض يدعى PositivesDating.Com فحقق نجاحا ساحقا خصوصا القسم الذي يتبنى مبدأ "يا بخت مين وفق مصابين بالحلال"!!

أيضا؛ معظمكم يعرف (بابا نويل) وكيف أن "الخواجات" يقنعون أطفالهم بحضوره ليلا ووضعه لهدايا الكريسمس تحت شجرة الميلاد.. ولكن ماذا لو لم يزرهم أثناء نومهم؟.. ماذا لو نسي الوالد وضع هدية ابنه في تلك الليلة؟.. في هذه الحالة ليس عليه سوى الدفع لموقع SantaMail الذي يبعث للطفل رسالة من القطب الشمالي (موطن بابا نويل) تتضمن اعتذاره الشخصي او هدية بديلة بالبريد المستعجل!

وهذا الموقع البريء يذكرني بموقع خبيث لن أتحمل وزر رابطه يرسل هدايا وإيميلات وزهورا من كافة الدول لإقناع ربات البيوت بوجود أزواجهن في رحلة عمل بعيدة (قد تكون في اليابان أو النمسا أو جنوب أفريقيا) في حين يتسكع حضرته في لاس فيغاس، أو يلعب بذيله في فندق قريب.. وفاق عدد المتعاملين معه 30 مليون زوج في أمريكا وحدها!

وكل ما سبق مجرد نماذج قليلة لأفكار كثيرة (قد تبدو غريبة وغير معقولة ل90% من الناس)، ولكنها حققت لأصحابها ثروة كبيرة بسبب تجاوب 10% من السذج معها!!

(الله يستر).. بدأت أفكر بإنشاء موقع خاص ببيع تراب البقيع وحجارة أحد!!

أغلى ما اشتريت في حياتك


يحكى أن رجلا كريما اشترى فرسا أصيلا بمبلغ زهيد.. ومن أمانته عاد للبائع في اليوم التالي ومنحه مبلغا اضافيا حين اكتشف أن الفرس أفضل مما تصور.. تقبل البائع المبلغ بامتنان واعتقد في سره أنه مجرد ثري ساذج لا يعرف قيمة المال. غير أن الرجل الكريم عاد في اليوم الثالث ودفع مبلغا اضافيا حين اكتشف مزايا جديدة في الفرس.. ثم عاد في اليوم الرابع والخامس والسادس حتى خجل البائع (وأقسم) ألا يأخذ مبلغا آخر.. فما كان من الرجل إلا أن قال: والله لأبعثن قومي غدا لشراء كل خيولك!!

هذه القصة تخالف ما يحدث معنا هذه الأيام حيث نعود لبيوتنا فنكتشف أن ما اشتريناه لا يستحق المبلغ الذي دفعناه، وبدل أن نبعث قومنا للشراء من البائع نحذرهم منه فيخسر بسبب غبائه وقلة أمانته!

ورغم أن جميعنا يملك قائمة طويلة بسلع وخدمات تورط بشرائها؛ إلا أنني سأحدثكم اليوم عن الجانب النادر والنوع الفريد الذي - بعد دفع قيمته واستعماله - تشعرون أنه يستحق أكثر من قيمته!

وحين أراجع آخر سلعة اشتريتها من هذا النوع يظهر في المقدمة جهاز (الآيفون).

صحيح أنه بالنسبة لكثير من الناس مجرد جهاز مُسل يتضمن العديد من الألعاب والبرامج، ولكنه بالنسبة لي بمثابة مكتب متكامل أحمله في جيبي ولا أكاد أستغني عنه.. خصوصا أثناء سفري في الخارج.. فلأنني لا أتقيد بدوام رسمي أو موقع ثابت أصبح بالنسبة لي ضرورة لا أستغني عنها لانجاز أعمالي وكتابة مقالاتي وبعثها للصحيفة.. أصبحت أراه كعلبة سحرية صغيرة حين أفتحها أجد فيها تلفونا، وكمبيوترا، وخريطة، وفيديو، وتلفزيونا، وراديو، وطابعة، وكاميرا، ودفتر ملاحظات، وصندوق بريد، وشبكة انترنت متنقلة، ناهيك عن نصف مليون برنامج آخر يمكن تحميلها فيه.

وكل هذه المزايا تجعلني أرغب بالتوقف كلما مررت بجانب المحل الذي اشتريته منه ومنح البائع مبلغا اضافيا - لولا خوفي من اعتقاده بأنني مجرد ثري ساذج لا يشعر بقيمة المال!

أيضا أيها السادة هناك شيء ثمين جدا ادفع فيه كل شهر 500 دولار (وسأستمر بدفعها حتى لو انخفض دخلي الشهري الى 500 دولار).

فكما أنه لا إسراف في شراء الطيب - كما ورد عن بعض السلف - يعتقد شخصي المتواضع أنه لا إسراف في شراء الكتب حتى لو كان الرجل فقيرا يكتفي بأكل الشعير.. فمنذ طفولتي كنت أجمع مصروفي البسيط لشراء الكتب وأشعر بعدها أنني الرابح الأكبر (ولمزيد من المعلومات حول هذه الحالة الغريبة ابحث في الانترنت عن مقال بعنوان: مريض بالببلومانيا).. وحين كبرت وأصبحت مقتدرا أضفت لعادتي القديمة تخصيص 500 دولار لشراء الكتب عبر البريد من امريكا وبريطانيا!!

والكتب بالذات تستحق دائما أكثر مما دفع فيها (حتى السيئ والمُسيء منها).. فمن واقع تجربة اكتشفت أنها مثل مناجم الذهب كلما تعمقت فيها كلما فهمت أكثر وتعلمت أكثر وكسبت أضعاف ما دفعت.. حتى السيئ والمُسيء منها لا يخلو من معلومة جديدة أو رأي مفيد - وفي أسوأ الأحوال - تكون أقل مكاسبنا التعرف على أخطائها وتحذير الآخرين منها!!

على أي حال.. قد لا يكون الآيفون بالنسبة للبعض أكثر من جهاز للعب والتسلية.. وقد لا تكون الكتب أكثر من أوراق كثيرة يرصها البعض بين ورقتين أكثر سُمكا.. ومع هذا؛ أرغب بسماع تجاربكم (على موقع الصحيفة الإلكتروني) حول شيء اشتريتموه سابقا ثم اكتشفتم لاحقا أنه يستحق أكثر مما دفع فيه.. شيء مفيد جدا جدا لدرجة فكرتم بالعودة للبائع - ليس لإعادته أو إصلاحه على الضمان - بل لتكرار قصة الكريم مع بائع الخيول!!

كلام وزنه.. ذهب


سألني والدي مؤخرا: "المحاضرات التي تلقيها بين فترة وأخرى، هل تأخذ عليها شيئا؟".. احترت بماذا أجيبه لأنني لن أكون صادقا إن أجبت بالنفي أو الاثبات.. فالجواب (لا) لأنني بالفعل لا أطلب شيئا ولا أضع شروطا مقدمة، و(نعم) في حال تفهم الطرف الآخر حاجتي للسكن والتذكرة - وربما مصروف الجيب - وهو ما قد يحدث ولا يحدث في مناسبات كثيرة.

وهذه المساحة الرمادية تعود إلى عدم تبلور إلقاء الخطب - في مجتمعنا المحلي - كمهنة أو مبادرة يستحق صاحبها مقابلا ماديا.. أما في أوروبا والولايات المتحدة فوصل الأمر (هذه الأيام) درجة تحولها لمصدر دخل رئيسي للمشاهير ورجال السياسة.. وأقول (هذه الأيام) لأن الأمور لم تكن بهذه السخاء حتى في الدول الغربية.. فخطباء عظام مثل لينكولن وتشرشل وهتلر ولوثر كنج لم يكونوا يستلمون شيئا مقابل خطب بليغة تحرك الملايين. ولكن منذ عقد السبعينيات بدأت تتبلور ظاهرة المؤتمرات ودفع مقابل مادي لاستقطاب المشاهر إليها.. ويمكن القول ان هنري كيسنجر (وزير خارجية أمريكا السابق) أول من رسم الخطوط العريضة لهذه الصناعة. فخبرته السياسية والاكاديمية (كأستاذ في العلوم السياسية) اتاحت له الحصول على 80000 دولار مقابل كل محاضرة يلقيها. أما في اوروبا فكان الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان يتقاضى 75 ألف دولار لتلبية أي دعوة من هذا النوع.. أما في ألمانيا فكان المستشار السابق كوول يتقاضى 50 ألف دولار عن كل محاضرة يلقيها داخل أوروبا و100 الف خارجها.. وبعد انتهاء حرب الخليج الأولى كانت وسائل الاعلام قد سوقت بشكل جيد لنورمان شوارتسكوف (قائد قوات التحالف) بحيث رفع سعر محاضراته من خمسة آلاف دولار الى 210 آلاف بعد انتهاء الحرب!!

وفي العقود الأخيرة أصبح الساسة المتقاعدون (أمثال ريغان وبلير وكلينتون وتاتشر وجالجيني وجريسبان) نجوما يستلمون مبالغ خيالية مقابل إلقاء "كلمة" لا تستغرق أكثر من ساعة.. ومع هذا يأتي في مقدمة الجميع رجل الاقتصاد المعروف دونالد ترمب (الذي لا يملك شيئا من أصول البلاغة والأدب) كونه استلم 1,5 مليون دولار من مؤسسة ليرنينج أنكس نظير خطبتين ألقاهما في ملتقى العقار والأعمال عامي 2006 و2007!!

أما في عالم السياسة فلا أعرف أحدا نال أكثر من الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان الذي استلم عام 1989 مليوني دولار نظير جولة في اليابان تضمنت خطبتين نظمتها شركة الاتصالات العملاقة Fujisankei.. ويأتي بعده رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي استلم نصف مليون دولار عام 2007 نظير محاضرة نظمتها مؤسسةGuangda Group.

أما المراكز التالية فيحتلها الرئيس السابق بيل كلينتون الذي استلم (نظير خُطب وحيدة) 450 ألف دولار عام 2006، و400 ألف دولار عام 2002، و350 ألف دولار عام 2005، و300 ألف دولار بين عامي 2002 و2005 (ومجموع هذه المبالغ يساوي 5,625,000 ريال سعودي)!!

ولاحظ أننا نتحدث هنا عن "أرقام قياسية"؛ حيث نالت الأسماء السابقة مبالغ أقل - أو غير معلنة - تشكل في مجموعها ثروة كبيرة؛ فالرئيس كلينتون مثلا كسب منذ اعتزاله وحتى اليوم أكثر من 10 ملايين دولار نظير الكلمات التي ألقاها في المؤتمرات (وكي أزيدكم غيظا، أعترف بأنني نمت خلال المحاضرة التي ألقاها قبل سنوات في منتدى جدة الاقتصادي واستلم مقابلها مليون ريال كاش)!!

وكي لا نخلط بين "الكاش" و"البلاغة" أشير مجددا إلى أننا نتحدث عن ظاهرة حديثة (بحداثة انتقال لاعبي الاتحاد بملايين الريالات) ولا تعني اطلاقا أن كلينتون أو بلير أكثر بلاغة من لينكولن وتشرشل أو أي خطيب مفوه لم يتصور إمكانية كسب المال ب تحريك اللسان!!

أما بخصوص شخصي المتواضع؛ فما يشغل بالي حاليا - ليس وجود أو عدم وجود مقابل مادي - بل حتمية توقفي عن كتابة مقالاتي (التي تساوي الكثير) حين أضطر للسفر وترك صومعتي الخاصة!

تعارفوا..


كما تتفاوت شعوب العالم بين غني وفقير، ومتقدم ومتخلف.. تتفاوت أيضا بين منفتح ومغلق، ومتحفظ وسهل المعشر.. ولو طلبت مني وضع قائمة لأكثر الشعوب لطافة (وسرعة تعارف مع الآخرين) وقائمة أخرى لأكثرها تحفظا (وانغلاقا ضد الأجانب والسائحين) لوضعت الأمريكان والتايلنديين والاستراليين في مقدمة القائمة الأولى، ووضعت اليابانيين والانجليز والسعوديين في مقدمة القائمة الثانية.

فكل من درس في أمريكا يعرف "لقافة" الأمريكان وسرعة تداخلهم مع الأجانب دون مقدمات (بحيث يمكن لمن يقف قربك بالمصعد أن يسألك دون تحية أو سابق معرفة: وااااو من أين اشتريت هذه الساعة الجميلة؟).

أما في تايلند فتدرك بسرعة كيف يمكن للابتسامة أن تتسع وتتنوع لتصبح لغة عالمية تشمل كافة المعاني والكلمات (ولهذا السبب تلقب بعاصمة الابتسامات في العالم).

أما على الطرف الآخر (وأقول هذا من واقع خبرة) فيصل خجل اليابانيين الى حد الريبة والشك والهرب حتى قبل أن تكمل سؤالك (ممكن لو سمحت..؟).

أما الانجليز فيشتهرون بالتحفظ الشديد حتى مع بعضهم البعض بحيث لا تسمع في القطارات والباصات غير كلمتي "شكرا" و"لوسمحت" (حتى بدأت أشك بأن كافة المنفتحين هاجروا الى أمريكا وأستراليا).

أما الغريب فعلا فهو ما يحدث لدينا في السعودية حيث التحفظ تجاه الأغراب، والريبة ضد الأجانب، والارتياح لقوقعة القبيلة والأسرة الكبيرة.. ولا تحتاجون لضرب أمثلة..!!

وأقول (غريب) لأننا أمة تملك نصوصا ومبادئ تحث على التعارف والتواصل وتبليغ دين الله.. الذي تحملنا أمانته بعد اكتمال الدين وانقطاع وحي السماء.. وهذا بدون شك لم يكن حالنا في الماضي حيث نشر أجدادنا الاسلام في أفريقيا واندونيسيا وشرق آسيا بفضل مهارتهم في التواصل، واحتكاكهم بالثقافات الغريبة، وجراءتهم في التعامل مع الشعوب البعيدة (ولا تحتاجون للتذكير بدور التجار الحضارم في نشر الاسلام في اندونيسيا وماليزيا وعموم الملايو)!!

وكان صديقنا متعدد المواهب سعود المصيبيح قد لاحظ أن معظمنا لا يتصرف وفق الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذكر وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتعَارَفُوا فسارع لتأليف رسالة مطبوعة بهذا الشأن تحمل اسم "تعارفوا".. وكان قد كتبها أثناء تواجده في جده وبقائه وحيدا في الفندق - رغم كثرة أصدقائه هناك - فأخذ يقلب قنوات التلفزيون لطرد الملل ومشاعر الوحدة.. وفي احدى المحطات صادف الآية السابقة فتأمل في معناها وحثها على التعارف بين الناس فقرر النزول الى بوفيه الفندق للتعارف على أول شخص يصادفه هناك.. وكان هذا الشخص "كابتن طيار" يحمل الجنسية الكندية تقدم منه الدكتور سعود وطلب منه التعارف كتطبيق عملي للآية الكريمة.. وهكذا جلس مع الرجل لتبادل الأحاديث - وتقابلا مرة أخرى مساء وذهبا سويا لزيارة جدة القديمة - حتى حانت اللحظة التي اعترف فيها الضيف بأنه يتردد على السعودية منذ عشر سنوات شعر خلالها أن السعوديين يحيطون أنفسهم بسياج يصعب اختراقه وأنه لأول مرة يقابل مواطنا يتصرف معه بهذه الجراءة والانفتاح.. وخلال الأيام التالية تعرف بنفس الطريقة على عشرة أشخاص جدد.

ولأن المصيبيح أخبرني بتجربته قبل أن أقرأ رسالته اقترحت عليه تحويل الفكرة الى موقع إلكتروني فابتسم وقال: أزيدك من الشعر بيت، ابنتي إيثار (التي شاركته في كتابة الرسالة) قررت تحويل الفكرة الى مقهى لا يدخله سوى أفراد يرغبون في التعارف على أشخاص جدد..!!

على أي حال.. الآية الكريمة تتسع للجميع - ويفترض تطبيقها من قبل الجميع - حتى تصبح عادة يومية وطبيعة شخصية تكسر حاجز التحفظ وتراكم الظنون مع الآخرين.. وبهذه الطريقة يتحول "الانفتاح" لطابع اجتماعي عام، و"التعارف" لمزاج محلي خاص يرفعنا لمقدمة "القائمة الأولى".. وحينها فقط لن نهتم بتحيز وسائل الاعلام الأجنبية ضدنا كون (التواصل الشخصي) أقوى وأسرع من أي لوبي ووسيلة اعلامية تتعمد الإساءة إلينا.

وأكاد أجزم بأن "الكندي" كان سيدخل الاسلام لو بقي المصيبيح في الفندق لفترة أطول!!

لماذا لا نسمع بفضائح الدول الفاسدة ؟؟؟


الفساد المالي ظاهرة عالمية موجودة في كل مجتمع ودولة لدرجة لم نعد نهمس بوجوده وبدأنا نكتب ونتحدث عنه علنية هذه الأيام..

الفرق الحقيقي بين الدول يكمن في وجود أو عدم وجود آلية تكافح هذا الفساد وتتمتع هي ذاتها بالنزاهة والاستقلالية الكافية.. ففي فنلندا ونيوزلندا والسويد (وهي من الدول التي تحتل المراكز الأولى في قائمة النزاهة الدولية) تتوفر آليات فعالة وشفافية مطلقة تكفل فضح مظاهر الفساد ومكافحة أسباب ظهوره ، أما في الدول الأكثر فساداً فنلاحظ ضعف أو غياب الأجهزة الرقابية واحتكار السلطتين التشريعية والتنفيذية وانتشار ثقافة المحسوبية (وشد لي واقطع لك) !!

حتى قضايا الفساد المالي التي نسمعها بين الحين والآخر في (الدول النزيهة) هي في الحقيقة مجرد "غسيل قذر" لابد من فضحه في جميع الأحوال بسبب وجود هيئات رقابية مستقلة وفصل حقيقي بين سلطات المجتمع ذاته .. وفي المقابل لا يتمتع العالم الثالث ولا حتى الانظمة الاشتراكية السابقة بمثل هذه الميزة وبالتالي ينتشر فيها الفساد كالفطريات ويصبح بالتدريج جزءا من طريقة الإدارة نفسها (لدرجة أن منظمة الشفافية الدولية قالت في آخر تقرير لها إن تسعة من بين كل عشر دول نامية لا تملك آليات حقيقية لكبح فساد المسؤولين المستشري فيها) ...

لهذا السبب بالذات لا نسمع إلا بفضائح الدول المتقدمة كونها تكشف بصفة دورية وتتعلق غالباً بعدد نادر من المسؤولين وحالات شذت من قاعدة ضخمة .. وفي المقابل تبدو الأمور هادئة ومستقرة في المجتمعات المتخلفة لوجود اتفاق غير مكتوب بين أعضاء المجموعة على الصمت والمحاباة وغض الطرف!!

وفي الحقيقة يمكن القول إن الفساد واستغلال السلطة هو الطبيعة المتوقعة (لأي مجموعة بشرية) تترك بلا رقيب أو حسيب. وكان المؤرخ العربي ابن خلدون أول من نبه لهذه الحقيقة العجيبة وحذر من طغيان واستشراء الفساد في حال بقي المسؤولون لفترة طويلة في مناصبهم وترابطت مصالحهم بمرور الزمن .. ففي بيئة مغلقة كهذه تتشكل بنية فساد صامتة ولوبي مصالح يصعب اختراقه أو كشفه من الخارج ويقاوم أي محاولة لتغييره أو فضحه أو إعادة هيكلته ..

واليوم تؤكد نظريات الإدارة مقولة ابن خلدون وتشير إلى أن السرية منبت الفساد ، والاستمرار في المنصب يرسخ الصلاحيات الفردية ويغلب المصالح الشخصية على الرسالة الاجتماعية .. !!

... وفي المقابل ، لا ننسى التذكير بالدور الخفي لأخلاقيات المجتمع وموقفه من مفهوم الفساد ذاته .. ففي المجتمعات النامية يُحصر الفساد غالباً في مفهوم جنسي ضيق في حين يُنظر للتجاوزات المالية والإدارية كشر لا بد منه وقدر لا يجب الاعتراض عليه .. بل لاحظ ان معظم الدول النامية وضعت (أسوة بالدول المتقدمة) أنظمة لمكافحة فساد الوزراء والمسؤولين ،ولكن المسؤولين عن تنفيذ هذه الأنظمة يميلون لتجاهلها والقفز فوقها واعتماد مبدأ "الستر" و "عفا الله عما سلف" و " يابخت مين نفع واستنفع" !!

... ولكن الحقيقة هي ان المجتمع الصامت، المغلق، الذي لا يطهر نفسه بصفة دورية ولا ينشر غسيله القذر بصفة يومية يتآكل من الداخل وينهار بطريقة بطيئة وصامتة ..

ومشكلة الفساد يمكن اختصارها بجملتين فقط :

ما يحدث في الخفاء يجنح للفساد ، ومن يسعى للستر شريك في المؤامرة !!

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...