الخميس، 25 يوليو 2019

الكاميرا بعد صاحبها


لم أتعلم الدرس إلا متأخرا .. فرغم قيامي برحلات كثيرة حول العالم إلا أنني أشعر حاليا بأنني لم ألتقط مايكفي من الصور حولها .. فحين أتأمل هذه الأيام ألبوماتي الخاصة لا أجد أكثر من صورة أو صورتين لرحلات قمت بها قبل خمسة عشر عاما أو أثناء تواجدي في أمريكا قبل عشرين عاما...

وما اكتشفته متأخرا أن الذكريات تتلاشى (لدرجة بدأت أتساءل ان كانت هناك رحلات لا أذكرها ولا يوجد لها صور أصلا) وأن الوقت الذي قضيته والمال الذي صرفته لايمكن تعويضه أو استعادته ؛ وبالتالي لا يبقى في النهاية غير صور قديمة تستفز الذكريات وتثير الابتسامة والحبور كلما نظرنا إليها لاحقا...

ليس هذا فحسب ؛ بل اكتشفت ان الصور الفوتوغرافية تزودنا بأسرار لا نعرفها عن أنفسنا ولا يقولها لنا معظم الناس؛ فمن خلال تعمقي في تلك الصور أدركت شخصياً كيف كنت أضحك وأمشي وألبس (وأعترف انني لم أعجب بذلك كثيرا). كما اكتشفت ان "النظارة" كانت تنزل دائما على أنفي، وان بعض الألوان لم تكن تناسبني، وان هناك بوادر "كرش" لم تتفاقم ولله الحمد بمرور الأيام.. بل واكتشفت أنني كنت أفضل - لا شعورياً - أحد الأطفال على أخوته لأنني كنت أحضنه وأضمه في كل الصور تقريبا!!

وما زاد قناعتي بهذا الأمر انني شاهدت لاحقاً برنامجاً عرضته محطة BBC عن لوحة الموناليزا التي رسمها الفنان الإيطالي ليونارد دي فنشي.. والموناليزا (وتدعى ايضا الجوكندا) رسم شخصي لأميرة إيطالية يقال ان دي فنشي رفض تسليمها لتعلقه بصاحبتها. وبقيت اللوحة بحوزته حتى توفي في فرنسا فانتقلت ملكيتها لمتحف اللوفر - وتعد الأغلى حالياً في عالم الفن.. ومن ينظر لتلك اللوحة يلاحظ الابتسامة الهادئة (والمحيرة) على وجه الموناليزا. ومنذ زمن بعيد حلل (فرويد) تلك الابتسامة على أنها معاناة دي فنشي من عقدة أوديب مدعياً ان ابتسامة موناليزا ليست سوى ابتسامة كاتارينا أم الفنان نفسه..

وبعد فرويد حاول أطباء كثر إعادة تلك الابتسامة إلى مشاكل صحية كانت تعاني منها صاحبة الصورة ليزا دي جوكندا.. فالطبيبان الفرنسيان كورتيه وجريبو مثلا استنتجا (من ورم ظهر بين إبهام اليد اليمنى وسبابتها) ان هناك اختلالاً في الشق الأيمن يسبب لها آلاماً دائمة جعلها تتجلد أمام الرسام بتلك الابتسامة المحيرة. أما الطبيب الياباني ناكامورا فاستنتج من العقدة الدهنية أسفل عينها اليسرى ان ليزا كانت تعاني من ارتفاع الكوليسترول والإصابة بمرض القلب!!

... ومحاولة تشخيص الموناليزا تذكرني بمحاولات قديمة لتشخيص حالة نابليون من خلال صوره العديدة ؛ فنابليون يظهر في معظم الصور مدخلا ًيده اليمنى تحت بزته العسكرية (بين الزرّين الثالث والرابع) واضعاً كفه فوق قلبه. ويظهر في هذه الوضعية الغريبة حتى وهو يقود فرسه مما دعا بعض الأطباء لافتراض معاناته من آلام مستمرة (تحت الجهة اليمنى من الصدر) في حين ادّعى البعض الآخر انه كان مصاباً منذ طفولته باضطرابات في نبضات القلب جعلته يرتاح لهذه الحركة!!

..... وفي الإجمال ؛ هناك بيت شعر جميل يقول فيه الشاعر:

الخط يبقى زماناً بعد صاحبه // وصاحب الخط تحت الأرض مدفونا

وهذا البيت يظل صادقاً وصحيحاً حتى بعد تحويره إلى:

الصورة تبقى زماناً بعد صاحبها // وصاحب الصورة تحت الأرض مدفونا

وكي لا أكرر غلطة الماضي اتخذت قراراً بضرورة حمل كافة أفراد العائلة كاميراتهم الخاصة في رحلتنا الأخيرة.. أما أنت فتأمل صورك القديمة مجدداً وستدهش لكم المعلومات الهائل الذي ستخبرك به بعد كل هذه السنين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...