الثلاثاء، 30 يوليو 2019

احتضار الأرشيف الرقمي


قبل فترة أجريت لقاء في إحدى القنوات السعودية طلبت في نهايته (نسخة) لنشرها على الفيسبوك واليوتيوب.. وفي القنوات الخاصة تجد اللقاء منشورا على الانترنت في اليوم التالي، ولكن في قنواتنا المحلية يتطلب معاملة رسمية بحيث وصلني بعد شهرين (شريط فيديو) لم أعرف كيف أشغله أو أحوله لصيغة الكترونية يمكن تداولها عبر النت!

وعجزي عن تشغيل "الشريط" لا يعود فقط الى اختفاء جهاز الفيدو من معظم البيوت، بل وانحسار البرامج والأنظمة المشغلة له وصعوبة تحويله لنسخة الكترونية يمكن حفظها على الكمبيوتر أو نشرها في مواقع الفيديو!!

... وهذه الظاهرة أصبحت مشكلة عالمية تعاني منها كافة المؤسسات البيروقراطية والمخضرمة .. فبرامج الكمبيوتر، وأنظمة التشغيل، ووسائط الحفظ والتنزيل ، تتغير بسرعة كبيرة لدرجة تراكم أرشيف رقمي قديم يستعصي حاليا على التشغيل..


وكما اكتشفت هذه المشكلة المؤسسات العريقة في الدول المتقدمة (تملك أرشيفا يعمل فقط على الأنظمة القديمة) اكتشفها شخصي المتواضع في السعودية على مدى 21 عاما من الكتابة الصحفية..

فمنذ عام 1991 وحتى نهاية 2011 تنقلت بين عدة وسائل للكتابة والحفظ والتحرير.

ففي أول عامين كنت أكتب مقالاتي بخط اليوم (وأستعمل السائل المبيض لتصحيح الأخطاء)..

ولفترة قصيرة لجأت لاستعمال الطابعات الكهربائية تعلمت من خلالها كيفية الطباعة على لوحة المفاتيح..

بعد ذلك تعلمت على برنامج الكتروني قديم (يدعى صخر) أتاح حفظ مقالاتي على أقراص مرنة - اختفت مثل شريط الفيديو..- .

ومنذ خمس عشرة سنة انتقلت لأستخدم برنامج "وورد" على نظام ويندوز... ومازلت أستخدمه..

وحتى بعد انتقالي لأنظمة ويندوز استمررت في استعمال الأقراص المرنة لحفظ وتخزين المقالات، قبل أن استبدلها بأقراص الليزر و"الفلاش مومري"!!

... والنتيجة اليوم، أنني فقدت كثيرا من مقالاتي القديمة إما بسبب كتابتها بخط اليوم أو اختفاء أنظمة تشغيلها، في حين أصبحت عاجزا عن فتح أو استخراج محتويات الأقراص المرنة بسبب اختفاء أجهزتها من الأسواق!! ومن هذا يتضح أن مواكبتي للتطور الإلكتروني انقلب إلى عقبة ونقمة بعد عقدين من الزمان فقط.. ونفس الظاهرة تسري على المؤسسات الكبيرة حيث يترافق تطور وسائل الحفظ الإكتروني مع ارتفاع نسبة فقدها وصعوبة استخراجها بعد جيل أو جيلين.. 


وهذا المشكلة (التي أدعوها احتضار الأرشيف الرقمي) لم تكن واضحة حتى سنوات قليلة مضت؛ ولكنها اليوم بدأت تثير القلق بسبب اختفاء أنظمة تشغيل (ووسائل حفظه وأجهزة عرض) يعتمد عليها الأرشيف الإلكتروني القديم!

.. والمشكلة الأساسية لا تكمن في عدم وجود تقنيات خاصة لفتح المحفوظات القديمة (أو تنقلها للأنظمة الجديدة) بل في أن هذه التقنيات نادرة جدا ومكلفة جدا وخاصة جدا .. ولهذا السبب تضطر المؤسسات الصغيرة والأفراد مثلي إلى تجاهل الأرشيف القديم والتركيز على ملاحقة البرامج والأنظمة الحديثة!!

والمفارقة أننا نمر هذه الأيام (رغم تطورنا التقني) بذات المشاكل التي مرت بها الحضارات القديمة:

فنحن مثلا لا نعرف شيئا عن حضارات كثيرة لم تدرك أهمية التدوين أو ظهرت (قبل التاريخ المكتوب).

كما اختفى قسم كبير من التراث الإنساني بسبب حوادث التدمير والنهب وحرق الكتب والمخطوطات.

وحتى الكتب والمخطوطات التي نجت من الحرق والتلف تتعرض بفعل الزمن للتآكل والانحلال.

وحين ظهرت وسائل الحفظ الإلكتروني (بما في ذلك شبكة الانترنت) اعتقد الخبراء أنهم توصلوا إلى "الحل النهائي" لحفظ التراث الإنساني...

ولكنهم اليوم يفاجأون بمشكلة التغير السريع لأنظمة التشغيل وصعوبة فتح أرشيف رقمي لا يتجاوز عمره عقدين أو ثلاثة فقط!!

... أعزائي ..

لست رجعياًً ولا متشائماً ؛ ولكن الفراعنة أثبتوا بُعد نظرهم حين حفروا تراثهم على الصخور والمسلات والجدران الحجرية !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...