الخميس، 25 يوليو 2019

قبل أن تتسع الفجوة


تتشكل كافة المجتمعات من فقراء، وأغنياء، وطبقة وسطى (مستورة الحال) ينضم تحتها معظم الناس..

ورغم أن نسبة الفقر قلت هذه الأيام في الدول المتقدمة بل وتكاد تنعدم في اليابان وكندا والدول الاسكندنافية إلا أن الفقر كان هو الحالة الشائعة على امتداد التاريخ البشري..

ففي العصور الوسطى مثلا كان 90% من الأوروبيين يعملون لدى امراء الاقطاع. وفي أزهى عصور الدولة العباسية كانت مظاهر الفقر تتضح على بعد عشرة امتار من قصر الخليفة..

ومع بداية القرن التاسع عشر بدأ قطاع كبير من الناس يكسبون رزقهم من مهن غير يدوية (مثل الموظفين والمعلمين والاطباء والكتبة وصغار التجار) فظهر في اوروبا مصطلح "الطبقة الوسطى" . وكلما زادت نسبة الطبقة الوسطى (وتقلصت أمامها نسبة الفقراء والأثرياء) كلما عد ذلك ظاهرة صحية في أي مجتمع. فأصحاب الثراء الفاحش لا يعملون في المهن المنتجة، والمعدمون لم يرتفعوا أصلا لمستوى العمل كموظفين ومعلمين وتجار..

واليوم تتصدر اليابان الدول الرأسمالية حيث نسبة الموجودين ضمن الطبقة الوسطى (حيث يكاد يختفي الفقراء في حين يعد الأرستقراطيون على أطراف الأصابع).. وفي المقابل تتسع الفجوة كثيرا في الدول الفقيرة والمتخلفة خصوصا في أفريقيا وأمريكا اللاتينية لدرجة قد يستحوذ 5% من الأثرياء على 90% من ثروة الوطن!!

وكان البنك الدولي في آخر تقرير له قد أشار إلى حقيقة أن الاغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقرا في كافة المجتمعات تقريبا.. كما اشار الى تقلص الطبقة الوسطى في كل المجتمعات لصالح الطرف الاكثر فقرا أو الاكثر ثراء .. وكانت روسيا قد مرت بحالة اضطراب اقتصادي (بعد تفكك الاتحاد السوفييتي) نجم عنه تضخم نسبة الفقراء والأثرياء بدرجة مقلقة؛ فأيام الحكم الشيوعي كان الشعب الروسي يعيش في مستوى اقتصادي واحد. ولكن بعد انهيار النظام الشيوعي انفصلت الطبقة الوسطى الى طرفي نقيض/ مجموعة ركبت قطار الانفتاح فاغتنت، ومجموعة ظلت الطريق فانحدرت.. ورغم ان الصين مازالت تحتفظ حتى اليوم بثوبها الماركسي إلا أنها أصبحت اليوم واحدة من أنجح الاقتصاديات الرأسمالية في العالم. وبعد ان كان سكانها يشبهون بعضهم في الملبس والمأكل واستعمال الدراجات بدأت الطبقة الوسطى بالانفصال الى مجموعتين؛ فقراء خرجوا من رعاية الدولة، واغنياء ركبوا المرسيدس وقطار العولمة .. وحسب قول برانكو ميلانوفيك (منظم التقرير) فإن الانفتاح والعولمة ساهما في ثراء قطاعات واسعة كانت تنتمي حتى وقت قريب الى الطبقة الوسطى . ورغم ان الدولة (في المجتمعات المتقدمة) تتكفل برعاية سيئي الحظ إلا ان 75% من فقراء العالم لا يتلقون أي رعاية ويقل دخلهم بنسبة الربع عما كان عليه قبل عشرة أعوام في حين زاد ثراء الاغنياء بنسبة 12% !!

وما يحدث هنا أن الفقراء ينفقون مداخيلهم البسيطة لقاء سلع وخدمات يقدمها الاثرياء . وهذا يعني ان المال يتسرب من جيوب الفقراء كي يتراكم في رصيد الأغنياء .. ليس هذا فحسب بل تشير مجلة "فوربس" الى أن أثرياء اليوم أصبحوا اكثر مهارة في التقاط الفرص من أي مكان في العالم. فالعولمة وخدمات الانترنت والتحويل الالكتروني تساهم بسرعة في تنقل الأموال واصطياد المداخيل البسيطة. وفي المقابل لا يجيد الفقراء استعمال تقنيات كهذه وبالتالي تبقى فرصهم ضعيفة في الظهور والمنافسة..

وفي مجتمعنا المحلي جميعنا يلمس انحدار المستوى الاقتصادي لأصحاب المداخيل المحدودة مقابل ظاهرة التضخم وتراكم المال لدى الأغنياء أصلا.. وفي حين تضم السعودية ثمانية من أغنى أغنياء العالم، تتنامى فيها نسبة التضخم والبطالة وأزمة المساكن بسرعة مقلقة (وجميعها ضغوط تجبر الناس على الركوع والقبول بمستوى معيشي أقل)!!

خطورة تقلص "الطبقة الوسطى" تكمن في حقيقة أنها المولد الأساسي للإبداعات الفكرية والمبادرات الاقتصادية والقفزات النوعية في أي مجتمع.. فالطبقة الارستقراطية طبقة مستقرة لا ترغب في تغيير وضع تستفيد منه أو تستقر في قمته.. أما الطبقة الفقيرة فمشغولة عن محاولة الإبداع والتغيير بالجري خلف لقمة العيش ومحاولة البقاء ليوم آخر...!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...