الثلاثاء، 30 يوليو 2019

تعارفوا..


كما تتفاوت شعوب العالم بين غني وفقير، ومتقدم ومتخلف.. تتفاوت أيضا بين منفتح ومغلق، ومتحفظ وسهل المعشر.. ولو طلبت مني وضع قائمة لأكثر الشعوب لطافة (وسرعة تعارف مع الآخرين) وقائمة أخرى لأكثرها تحفظا (وانغلاقا ضد الأجانب والسائحين) لوضعت الأمريكان والتايلنديين والاستراليين في مقدمة القائمة الأولى، ووضعت اليابانيين والانجليز والسعوديين في مقدمة القائمة الثانية.

فكل من درس في أمريكا يعرف "لقافة" الأمريكان وسرعة تداخلهم مع الأجانب دون مقدمات (بحيث يمكن لمن يقف قربك بالمصعد أن يسألك دون تحية أو سابق معرفة: وااااو من أين اشتريت هذه الساعة الجميلة؟).

أما في تايلند فتدرك بسرعة كيف يمكن للابتسامة أن تتسع وتتنوع لتصبح لغة عالمية تشمل كافة المعاني والكلمات (ولهذا السبب تلقب بعاصمة الابتسامات في العالم).

أما على الطرف الآخر (وأقول هذا من واقع خبرة) فيصل خجل اليابانيين الى حد الريبة والشك والهرب حتى قبل أن تكمل سؤالك (ممكن لو سمحت..؟).

أما الانجليز فيشتهرون بالتحفظ الشديد حتى مع بعضهم البعض بحيث لا تسمع في القطارات والباصات غير كلمتي "شكرا" و"لوسمحت" (حتى بدأت أشك بأن كافة المنفتحين هاجروا الى أمريكا وأستراليا).

أما الغريب فعلا فهو ما يحدث لدينا في السعودية حيث التحفظ تجاه الأغراب، والريبة ضد الأجانب، والارتياح لقوقعة القبيلة والأسرة الكبيرة.. ولا تحتاجون لضرب أمثلة..!!

وأقول (غريب) لأننا أمة تملك نصوصا ومبادئ تحث على التعارف والتواصل وتبليغ دين الله.. الذي تحملنا أمانته بعد اكتمال الدين وانقطاع وحي السماء.. وهذا بدون شك لم يكن حالنا في الماضي حيث نشر أجدادنا الاسلام في أفريقيا واندونيسيا وشرق آسيا بفضل مهارتهم في التواصل، واحتكاكهم بالثقافات الغريبة، وجراءتهم في التعامل مع الشعوب البعيدة (ولا تحتاجون للتذكير بدور التجار الحضارم في نشر الاسلام في اندونيسيا وماليزيا وعموم الملايو)!!

وكان صديقنا متعدد المواهب سعود المصيبيح قد لاحظ أن معظمنا لا يتصرف وفق الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذكر وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتعَارَفُوا فسارع لتأليف رسالة مطبوعة بهذا الشأن تحمل اسم "تعارفوا".. وكان قد كتبها أثناء تواجده في جده وبقائه وحيدا في الفندق - رغم كثرة أصدقائه هناك - فأخذ يقلب قنوات التلفزيون لطرد الملل ومشاعر الوحدة.. وفي احدى المحطات صادف الآية السابقة فتأمل في معناها وحثها على التعارف بين الناس فقرر النزول الى بوفيه الفندق للتعارف على أول شخص يصادفه هناك.. وكان هذا الشخص "كابتن طيار" يحمل الجنسية الكندية تقدم منه الدكتور سعود وطلب منه التعارف كتطبيق عملي للآية الكريمة.. وهكذا جلس مع الرجل لتبادل الأحاديث - وتقابلا مرة أخرى مساء وذهبا سويا لزيارة جدة القديمة - حتى حانت اللحظة التي اعترف فيها الضيف بأنه يتردد على السعودية منذ عشر سنوات شعر خلالها أن السعوديين يحيطون أنفسهم بسياج يصعب اختراقه وأنه لأول مرة يقابل مواطنا يتصرف معه بهذه الجراءة والانفتاح.. وخلال الأيام التالية تعرف بنفس الطريقة على عشرة أشخاص جدد.

ولأن المصيبيح أخبرني بتجربته قبل أن أقرأ رسالته اقترحت عليه تحويل الفكرة الى موقع إلكتروني فابتسم وقال: أزيدك من الشعر بيت، ابنتي إيثار (التي شاركته في كتابة الرسالة) قررت تحويل الفكرة الى مقهى لا يدخله سوى أفراد يرغبون في التعارف على أشخاص جدد..!!

على أي حال.. الآية الكريمة تتسع للجميع - ويفترض تطبيقها من قبل الجميع - حتى تصبح عادة يومية وطبيعة شخصية تكسر حاجز التحفظ وتراكم الظنون مع الآخرين.. وبهذه الطريقة يتحول "الانفتاح" لطابع اجتماعي عام، و"التعارف" لمزاج محلي خاص يرفعنا لمقدمة "القائمة الأولى".. وحينها فقط لن نهتم بتحيز وسائل الاعلام الأجنبية ضدنا كون (التواصل الشخصي) أقوى وأسرع من أي لوبي ووسيلة اعلامية تتعمد الإساءة إلينا.

وأكاد أجزم بأن "الكندي" كان سيدخل الاسلام لو بقي المصيبيح في الفندق لفترة أطول!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...