الخميس، 12 ديسمبر 2019

الماسونية.. أين مكانها بالضبط؟


لا أستبعد وجود "مؤامرات "تحيكها الدول ضد بعضها البعض..

ولا أدعي أن تاريخنا العربي لا يتضمن مؤامرات انتهت باستعمار ومكائد وثورات..

غير أنني أرفض فكرة (اختلاق المؤامرات) ورمي أخطائنا التاريخية على أطراف خارجية وكأننا أمة من البهائم تقاد كل مرة في اتجاه..

لو قلت لي إن منح فلسطين لليهود كان نتاج مؤامرة عالمية لصدقتك لأن هناك حقائق تاريخية تؤكد هذا الادعاء؛ بما في ذلك وجود منظمة الصهيونية العالمية التي تملك مقرا وأعضاء وعقدت مؤتمرها الأول في بازل في 1897 لمناقشة هذا الهدف..

ولو قلت لي إن تقسيم الهند إلى دولة مسلمة وهندوسية مؤامرة استعمارية قادتها بريطانيا لأيدتك جزئيا (وبنسبة أقل) لأن بذور الانقسام بين المسلمين والهندوس كانت موجودة أصلا قبل الاستقلال.. وفي الحقيقة لو وافق الهندوس على اقتراح غاندي بتولي محمد جناح رئاسة الهند لما انقسمت إلى دولتين..

ولكن حين تخبرني أن الثورات العربية أو ما يحدث في سورية والعراق وليبيا مؤامرة حاكتها "الماسونية العالمية" سأرفض ذلك وأعتبره تنصلا من المسؤولية وتنزيها للحركات المتطرفة التي ظهرت هناك.. سأرفض ذلك لأنني أعتبره (ليس فقط تجاهلا لثقافة العنف والتطرف وإفرازات الأنظمة الديكتاتورية السابقة) بل ومشكلة فكرية تتعلق بتعريف المصطلحات وغياب وجوه المتآمرين علينا فعلا..

فحين نتحدث مثلا عن "الماسونية العالمية" ماذا نقصد بالضبط؟..

هل يخبرني أحدكم عن موقعها الحالي؟..

اسأل من سيتواجد بقربك على الإفطار ما هي الماسونية؟ ما أهدافها؟ من يرأسها اليوم؟.. لا أحد يعرف؛ وكأنها شماعة خلقناها لتعليق ما نرفض الاعتراف بمسؤوليته..

حين تسألني مثلا عن منظمة المؤتمر الإسلامي سأخبرك فورا أن موقعها في جدة، وأنها تأسست في الرباط عام 1969 بهدف الدفاع عن مصالح الدول الإسلامية.. وحين تسألني عن "الفيفا" سأخبرك أنها الاتحاد العالمي لكرة القدم ويوجد لها مقر في زيورخ ويترأسها رجل سويسري فاسد - نعرفه أكثر من رؤساء أفريقيا - يدعى جوزيف بلاتر..

إذاً؛ نحن نتحدث هنا عن كيانات مادية لها مواقع حقيقية ووجوه رسمية وتأثيرات فعلية.. وفي المقابل نتحدث كثيرا عن منظمات وجهات (إما وهمية أو جزئية) لنحملها كافة أخطائنا التاريخية.. وهذا للأسف جزء من التفكير التآمري الذي يزدهر في الأمم العاجزة، وبين المجتمعات التي ترفض الاعتراف بمسؤولياتها الحقيقية..

لا أنكر وجود كيانات حقيقية (مثل المخابرات الأميركية والصهيونية العالمية) لا تتردد في حياكة المؤامرات العالمية لتحقيق مصالحها الخاصة.. ولكن مشكلتنا تكمن في تحميل هذه الجهات مسؤولية كافة أخطائنا ومآسينا وأسباب تخلفنا، وهو ما يبدو في نظر العالم سخيفا كسخافة النظام السوري الذي مايزال يتهم "الاستعمار" بمشاكله الحالية!!

.. على أي حال؛ قد تختلف معي - وتصر على إعادة كل شيء الى نظرية المؤامرة - ولكنك بهذه الطريقة ستضطر للإجابة على سؤال أكثر خطورة هو:

.. كيف لأمة تتكون من 400 مليون عربي، ومليار ونصف المليار مسلم، أن تتلاعب بها شخصيات فردية ومنظمات لا تملك حتى كيانات ووجوها ومقرات؟!

.. أقترح؛ قبل أن نتحدث عن مكائد الماسونية والصهيونية وبروتوكولات حكماء صهيون، أن نتحدث أولا عن أسباب انحطاط أمة لم تكف عن التناحر والانقسام منذ موقعة الجمل.

الزواج بالقرآن


فكرة التنسك موجودة في كافة الديانات تقريبا.. الرهبان والنساك يعتزلون الحياة ومتعها ويخصصون وقتهم للصلاة والعبادة والدعاء للمؤمنين الذين يصرفون عليهم..

حتى المجتمعات الغربية - رغم ميولها المادية - ماتزال تملك أديرة خاصة بنساء ورجال يعيشون حياة التقشف ويختارون طواعية عدم الزواج وتكوين أسرة.. تراهم حتى اليوم يسيرون في شوارع فيينا وروما وباريس يلبسون الخيش ويرتدون لباس الزهد والاحتشام..

وفي المقابل؛ لا توجد رهبانية في الإسلام ولم يأمرنا الدين بالرهبنة والتنسك أو ترك الزواج والعمل المنتج.. جاء عن ابن عباس قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا صرورة في الإسلام" (والصرورة ترك الزواج)، وقوله: "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة".. وحين شاهد عمر بن الخطاب شابا لا يفارق المسجد سأله من يصرف عليك؟ قال أخي، قال: أخوك خير منك..!!

غير أن هناك دائما فرق بين ما يقوله الإسلام وما يطبقه المسلمون..

صحيح أنه لا يوجد في الإسلام رهبان ونساك (ولا حتى رجال دين) ولكن جميع البلدان الإسلامية تملك فعليا رجال دين تخصهم برواتب ومناصب ووظائف رسمية.. أما الأسوأ فهو وجود مشعوذين (يلبسون ثياب الدين) تتراوح تخصصاتهم بين تفسير الأحلام وتحضير الأرواح، إلى كشف الستر وفك السحر والدعاء بالأجر..

صحيح أننا لا نملك قساوسة نعترف أمامهم بذنوبنا وخطايانا (كما يفعل المسيحيون) ولكننا نملك في المقابل أولياء معصومين، وأضرحة لرجال صالحين، يخصها البعض بالدعاء والقرابين وقراءة قوله تعالى: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"..

صحيح أنه لا توجد راهبات في الإسلام - يمتنعن عن الزواج والإنجاب بطيب خاطر - ولكننا نملك نساء يتم حجزهن باسم الخصوصية، وعضلهن لعدم تكافؤ النسب، واضطهادهن بدعوى الستر والفضيلة..

صحيح أننا لا نملك فتيات متبتلات (كما في الكاثوليكية) أو متزوجات من تماثيل الآلهة (كما في الهندوسية) ولكن هناك مجتمعات إسلامية تملك متبتلات احتسابا أو متزوجات بالقرآن قسرا!

.. وأول مرة سمعت عن الزواج بالقرآن كانت من رجل دين باكستاني التقيته في إسلام أباد.. ففي جنوب البلاد تنتشر عادة تزويج الفتاة بالقرآن لأسباب نادرا ما يكون لها علاقة بالإيمان والتقوى.. وفي هذه الحالة تقيم عائلة الفتاة حفل زواج حقيقيا يحضره رجال دين متخصصون في هذا النوع من الزيجات، فتضع الفتاة يديها على المصحف فيعلن (أعظمهم منزله) زواجها به حتى نهاية العمر.. وهذا يعني أنها لا يحق لها الزواج من أي رجل آخر (حتى لو غيرت رأيها لاحقا كون الرجال أنفسهم يعتقدون أن الزواج بفتاة كهذه يعد خروجا عن الملة).. ولكن الحقيقة هي أن الهدف غالبا منع الفتاة من الزواج برجل غريب يستولى على ميراثها أو ينجب منها أبناء يستقطعون أملاك العائلة.. لهذا السبب تنتشر هذه الظاهرة بين الأسر الثرية والارستقراطية في مقاطعة السند على وجه الخصوص.. حيث توجد أكثر من عشرة آلاف فتاة تعاني من هذه المشكلة حسب إحصائيات الحكومة.. وكما أن دعاء الأولياء في الإسلام لا يختلف عن دعاء القديسين في المسيحية، لا يختلف الزواج بالقرآن عن الزواج بكتاب الفيدا المقدس لدى الهندوس..

.. وما نتعلمه (من هذه الجولة العالمية) أن عدالة التشريع لا تعني دائما عدالة التطبيق، وأن جمال النظرية لا يعني دائما جمال الواقع الذي تنشر فيه..

وفي حين طافت بنا الأمثلة السابقة في عالم الرهبنة والتنسك، تنطبق نفس المفارقة على أي عادات وتقاليد كثيرة تمرر تحت غطاء الدين.. ولا تختلف ممارستها بين الديانات المختلفة سوى بمسماها الخارجي.

ماذا كنا نأكل قبل عشرة آلاف عام؟


في حال اتفقنا أن عمر الإنسان على الأرض يتجاوز المليوني عام (حسب أقدم متحجرات وجدت في أثيوبيا) يحق لنا التساؤل عمّا كان يأكله قبل عشرة آلاف عام فقط!؟

فالإنسان تعلم الزراعة قبل عشرة آلاف عام كان قبلها يعتمد على تناول الفواكه والنباتات البرية ولحوم الصيد فقط.. لم يكن يعرف المعجنات والحلويات والسكريات ولا شيئا يدعى "كنافة رمضان" قبل صنع الأجبان وزراعة القمح والذرة!

فرغم ان الكربوهيدرات (ومن أبرزها القمح والأرز والنشويات والسكريات المصنعة) تشكل جزءا مهما من حاجتنا الغذائية إلا ان إفراطنا في تناولها هذه الايام أدى الى انتشار السمنة وأمراض القلب والسكر.. واليوم هناك نوع فعال من الريجيم يعتمد على محاكاة طعام الانسان البدائي القديم والاعتماد على فكرة: ما هي الأطعمة التي كان يتناولها قبل تعلمه زارعة القمح والحبوب وتناول الكربوهيدرات والسكريات المكررة.

ولتطبيق هذا الريجيم في حياتك اليومية ما عليك سوى تذكر ما كان يتوفر للإنسان البدائي من طعام؛ ففي ذلك الوقت كان طعام البشر مثلا يأتي من (التقاط) الخضراوات والفواكه والمنتجات الطبيعية، ثم (صيد) الأسماك والحيوانات وتناول البيض وصنع الألبان. أما منتجات المرحلة الثالثة (وهي الكربوهيدرات) فيجب التخفيف منها قدر الإمكان في حين يجب الامتناع نهائيا عن السكر والاستعاضة عنه بأحد المحليات الاصطناعية!

ولكن من جهة أخرى يجب ان لا يغيب عنا ان اللحوم كانت تحتل نسبة 30% من طعام رجل الكهف.. وهذه النسبة العالية من البروتين لا ينبغي الاستمرار عليها لفترة طويلة كونها قد تتسبب بمخاطر صحية حقيقية (رغم أن هناك حمية مشهورة تقتصر على تناول اللحوم فقط).. وعدم تضرر "رجل الكهف" منها يعود الى تناوله (لحوما برية نية) تضم نسبة ضئيلة من الكولسترول والدهون الضارة بالشرايين.

لهذا السبب أنصح في حال تبنيت الفكرة بإجراء التعديلات التالية:

الإكثار من الخضراوات والفواكه على حساب اللحوم (بحيث لا تتجاوز 20% من طعامك اليومي)!

وحتى في هذه الحالة أزل أكبر قدر من الشحوم وركز على اللحوم البيضاء (كالأسماك والدجاج)!

ولا يجب الاستغناء نهائيا عن الكربوهيدرات لأكثر من أسبوعين يتم بعدها إدخال العناصر الجيدة منها بالتدريج (كالفواكه والخبز الأسمر) في حين يجب الامتناع نهائيا عن السيئ منها (كالدقيق الأبيض والسكر المكرر)!

تناول يوميا كبسولة فيتامينات لتعويض أي نقص محتمل واشرب كمية كبيرة من الماء لتخفيف نسبة حامض البوليك!

.. وفي جميع الأحوال لا يجب أن تنظر لأسلوب رجل الكهف كحمية مؤقتة (وإلا ستعود لسابق وزنك حين ينتهي) بل كنظام حياة وعادة تستمر معك طوال العمر.. فالمشكلة الحقيقية لدى معظم البدناء لا تعود الى افراطهم في تناول الطعام ذاته بل الى إفراطهم في تناول الكربوهيدرات على حساب البروتينات كون الأولى (باختصار) تساهم في تخزين الدهون وتثبط من عمل هرمون يعمل على إذابة الشحوم بشكل طبيعي.

عودة التيكانانا


علم الوراثة تطور إلى مستوى سمح بظهور ما يسمى بالهندسة الوراثية..

والهندسة الوراثية سمحت بظهور محاولات استنساخ ناجحة بدأت باستنساخ النعجة دوللي في يوليو1996 واستمرت باستنساخ أجنة بشرية يتم التخلص منها قبل أن تدب فيها الحياة (بحكم القانون)..

وفكرة الاستنساخ ذاتها ليست جديدة كونها استطرقت منذ وقت طويل في أساطير الشعوب وقصص المشعوذين وروايات الخيال العلمي.. ففي الهند مثلاً توجد أسطورة تيكانانا الشيطان الذي لا يمكن قتله لأنه يعود للتخلق من جديد من أي عضو في جسده.. وفي العصر الحديث هناك رواية "أطفال البرازيل" حيث تهرب مجموعة من العلماء النازيين إلى البرازيل بعد هزيمة ألمانيا في الحرب الثانية وتستنسخ هتلر من بقايا شعر يخصه!!

... على أي حال لنتذكر دائماً وجود فرق أساسي بين "الاستنساخ" و "التهجين"..

فالاستنساخ ينبثق من مخلوق موجود سلفاً ويحاكي جزئياً آلية التخصيب التي تجري في أرحام المخلوقات.. أما التهجين فيتم بين مخلوقين متقاربين (أو شبة متقاربين كالحصان والحمار) ولكنه يستحيل تماماً بين المخلوقات المختلفة في النوع بفضل "الحاجز الوراثي"..

أنا شخصياً مازالت أذكر ذلك الخبر (الاستثنائي) الذي أتى من المغرب عام 2002 حين تناقلت المجلات العلمية خبر ولادة إحدى البغلات مهراً جميلاً في منطقة اولمس جنوب فاس. وبسرعة انتشر الخبر بين الأهالي فتقاطروا لرؤية المولود الجديد بل والتبرك به وتقديم الهدايا..

فمن المعروف أن "البغل" حيوان هجين بين الحصان والحمار.. والحيوان الهجين لا يمكن أن يلد أو تكون له ذرية أبداً. فهناك دائماً حاجز نوعي بين المخلوقات بحيث لا يمكن لصنفين مختلفين (كالجمل والبقرة أو الضبع والشمبانزي) أن ينجبا حتى في حالة تزاوجهما!

غير أن هناك استثناءات بسيطة يمكن أن تحدث بين الأنواع القريبة وراثيا (كالنمر واللبوة، والجمل واللاما) بحيث تنجب هجينا بين النوعين.. ولكن حتى هذا الهجين يولد عقيماً ولا تكون له ذرية أبداً (فالبغل، والراما، لا ينجبان مجدداً)!!

وما حصل في المغرب حالة نادرة جداً استقطبت اهتمام العلماء، فالحصان يحمل 64 كروموزوماً وراثياً، والحمار 62 وحين يتزاوجان يولد البغل بكروموزومات مفردة 63 فقط لا تنقسم بالتساوي وبالتالي لا يمكن أن ينجب أبداً (لدرجة شككت دائماً بصحة الخبر رغم نشره في مجلة Nature العلمية)!!

... ومن فوائد الحاجز الوراثي أن الأمراض الخطيرة في نوع ما يصعب انتقالها إلى نوع آخر. فكثير من الأمراض التي تصيب الحيوانات لا تضر الإنسان أبداً (والعكس صحيح).. ومع هذا قد يحدث تغير مفاجئ في البكتيريا أو الفيروس فينتقل المرض بين نوعين مختلفين؛ فجنون البقر مثلاً كان حكراً على الماعز فانتقل إلى البقر ثم إلى الإنسان. أما الإيدز فهو بعكس مانتصور مرض قديم جداً ولكنه كان حكراً على القردة حتى ثلاثين عاماً مضت، وفيروس الكورونا كان موجوداً لدى الإبل قبل فترة طويلة من تحوره وانتقاله للإنسان هذه الأيام!

ورغم هذا يحاول بعض العلماء كسر الحاجز النوعي بين المخلوقات باستعمال الهندسة الوراثية.. وفي حال نجحوا في هذا في المستقبل القريب أو البعيد لا تتوقع فقط ظهور مخلوقات غريبة وشاذة (نتيجة تهجين جينات الغوريلا مع التمساح مثلاً) بل وأيضاً ظهور أعداد لا يمكن إحصاؤها من المخلوقات الجديدة ..

حينها فقط يمكن القول إن الشيطان تيكانانا أطل علينا بمليون وجه جديد..

موجز الحروب الإلكترونية


حربنا المشرفة ضد إسرائيل حدثت عام 2006 حين تعرضت لهجمات إلكترونية من مبرمجين عرب دمروا أكثر من 700 موقع إلكتروني انتقاماً من غزوها للبنان.. وحينها أتت أكبر الهجمات من السعودية والمغرب، في حين أتت أكبر الهجمات الإسلامية من تركيا وإيران بعد ثلاثة أيام فقط من بدء الحملة العسكرية..

ومقالنا اليوم لا يتحدث عن الحروب الإلكترونية ذاتها (خصوصاً أنني سبق وتحدثت عنها في مقال تجده على الإنترنت بعنوان الجهاد الإلكتروني) بل عن تاريخها ونشأتها ومخاطرها المحتملة.. فالقرصنة الإلكترونية يقابلها في اللغة العربية هاكرز وهاكر hacker) hackers,) هي أنسب تصريف للكلمة الإنجليزية (Hack). والكلمة بمفهوم الانترنت تعني "مخترق" و"متسلل" و"عابث" يجول عبر الشبكة وينشر الفوضى في كل نظام وجهاز يستطيع اختراقه!

والقرصنة الإلكترونية إفراز طبيعي لظهور الإنترنت ذاتها.. فمن يصنعون البرامج نفسها يكونون هم الأقدر دائماً على فضحها وتدميرها. ومن يملك موهبة البرمجة لابد ويكتشف طريقة لاختراق برامج صممها غيره. وهذا يعني أن ظهور القراصنة أمر حتمي ومتوقع وبديهي في أي مجتمع توجد به خدمة إنترنت وشبكات كمبيوتر داخلية..

والطريف أن كلمة Hack تعني في الاصل (تقطيع وفرم) ولم تكن تحمل أي معنى تقني قبل ظهور الانترنت. وحتى أواخر الستينات لم تكن الكلمة تشير الى أي نشاط سيئ أو مخالف للقانون؛ فصفة الهاكرز أطلقت لأول مرة على مجموعة من الطلبة من معهد ماساتشوستس للدلالة على شبقهم في سبر أغوار الكمبيوتر. ثم في الثمانينيات التصقت بفئة من المبرمجين المخربين ممن ينشرون الفيروسات ويخترقون الأنظمة ويدمرون الملفات.. غير أن المبرمجين الشرفاء (ممن يحافظون على المفهوم الأصلي للهاكر؛ وهو حب المعرفة وسبر أغوار التقنية) أعلنوا رفضهم إطلاق صفة الهاكر على المخالفين للقانون واتهموهم بتشويه سمعتهم!!

وتعدد أنشطة المخربين على الشبكة جعل كلمة "الهاكر" لا تعبر بدقة على كل نشاط يقومون به؛ فمنهم من يكتفي بالاختراق والتلصص، ومنهم من يدمر وينشر الفيروسات، ومنهم من يسرق ويزرع المعلومات، ومنهم من يحول البيانات (والحسابات) لصالحه.. وأسوأهم؛ من يوظف مهارته لصالح جهة من الجهات!

وفي عقد التسعينيات بالذات توسعت نشاطات الهكرز وسجلوا حوادث اختراق بارزة؛ فهناك مثلا هاكر يدعى ويتنك اقتحم أنظمة البنتاغون؛ ومتسلل من روسيا اخترق ملفات المخابرات الأمريكية، ومجموعة من الصين حاولت الحصول على أسرار نووية، ومبرمج من تايوان أطلق فيروس (تشرنوبل) يدمر البيانات في موعد انفجار المفاعل من أبريل في كل عام…

وكانت الحكومات المتقدمة قد أدركت أهمية الانترنت في اختراق انظمة الدول المنافسة؛ فأمريكا مثلاً تعاونت منذ التسعينيات مع مجموعات مدنية للهكرة (كمجموعتي Noid وMilworm) لاختراق شبكات بعض الدول.. أما منظمة حقوق الإنسان في أمريكا فلم تتردد في تشويه موقع دعائي للحكومة الصينية وتربطه بأرشيف منظمة العفو الدولية. أما إسرائيل فأصبح بإمكانها مراقبة مستخدمي الشبكة العالمية بفضل برامج إسرائيلية نالت شعبية واسعة بين المستخدمين (كبرنامج الدردشة ICQ وجدران النار بمختلف إصداراتها)...

والحقيقة هي أننا في السعودية نملك أيضا مجموعات "هكرز" مدهشة وممتازة سبق لها اختراق مواقع إسرائيلية صعبة مثل سلاح الجو وشبكة الاستخبارات ووزارة الخارجية (وابحث في النت عن مجموعة أوكس عمر)!!

... وأتساءل شخصياً عن المانع من استقطاب هؤلاء القراصنة وضمهم لوزارة الدفاع أو الداخلية لإنشاء مايمكن تسميته ب"كتيبة الهجوم الإلكترونية"..

متاع الغرور


انظر حولك ستكتشف شخصيات مهزوزة تحرص على اقتناء كل ما يلفت الانتباه. هذا النوع من الناس يحرص على الظهور والتمظهر أكثر من الأغنياء أنفسهم رغم أن لا شيء يملأ جيوبهم غير بطاقات الائتمان الفارغة.. لا يكاد حديث أحدهم يخرج عن تمجيد إمكانياته وقدراته وعلاقاته مع علية القوم.. كما انه أحرص الناس على اقتناء الجديد وهجر العتيق وتعليق صوره مع المسؤولين..

وشخص كهذا لا يمكننا لومه كون البشر منذ خلقهم الله ينقسمون إلى أربعة أصناف:

الأول: فقير ومعدم..

والثاني: متوسط الحال يحاول الظهور بمظهر المكتفي (أو ربما الثري كالصنف أعلاه).

والثالث: غني ومترف ويتصرف على هذا النحو بلا تحفظ ولا جدال.

أما الرابع فمثل "الثالث" غني ومتمكن ولكنه لا يجد داعياً للتمظهر أو التباهي على "الأول" و"الثاني"..

... "الثالث" يرى أن من حقه إبداء مظاهر الغنى والثراء كون ذلك أحد المكاسب الاجتماعية المتوقعة من الثروة. وهذا التصرف هو الغريزي والمتوقع بين الأطفال وصغار السن.. فالطفل ما ان يحصل على لعبة جديدة حتى يسارع لإظهارها لأقرانه والتفضل عليهم بها ثم حبسها عنهم. وحين يكبر تكبر معه ألعابه وترتفع إلى مصاف المرسيدس والرولز رويس والطائرة الخاصة. وفي أغلب الأحيان لا تكون هناك حاجة فعلية لكل هذه المقتنيات الفخمة غير أن الرسالة التي يريد إيصالها إليك هي ببساطة: أنا أملك وأنت لا تملك أنا أستطيع وأنت لا تستطيع.. إنه ببساطة طفل كبير يتصرف بطريقة غريزية مسطحة!!

... أما "الثاني" فدخله متوسط وحاله مستور وينتهي راتبه قبل خروجه من مكينة الصراف؛ ولأنه يدرك قواعد اللعبة ويرى تأثير المال على النفوس، إما يستر على نفسه، أو يحاول الظهور بمظهر المقتدر مهما كلفه الأمر.. ولأن المسكين تتجاذبه قوتان (ضيق الحال والرغبة في التفشخر) لا يجد أمامه غير الاستدانة والسقوط في دائرة التقاسيط ومع ذلك يرفع شعار "الصيت ولا الغنى"!

أما "الرابع" فهو الأنبل أخلاقاً والأكثر نضجاً والأعلم بتقلبات الأيام؛ فهو رغم ثرائه وغناه يعلم أن الدنيا مجرد شجرة يستظل تحتها ثم يقوم لتركها. أما خبرته في الحياة فتجعله يدرك أن المال والمظهر الخارجي ليسا المقياس الحقيقي لمعادن الرجال. ولأنه رجل عصامي تعب في جمع الثروة (ولم يرثها بلا تعب) تجده معتزاً بنفسه واثقاً من قدراته ولا يفهم كيف يمكن لساعة سويسرية أو سيارة ألمانية أن ترفع من قدره أو اعتزازه بنفسه!؟

.. السؤال هو:
لماذا يحرص معظم الناس على الظهور بمظهر الوجاهة وارتفاع المنزلة!؟

.. الجواب (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد).

كن كذلك على أي حال


ستيفن كوفي كاتب ومؤلف أميركي اشتهر بعد نجاح كتابه "العادات السبع للناس الأكثر فعالية".. وسبق أن كتبت عنه مقالا بعنوان (العادة الثامنة) تطرقت فيه للجزء الثاني من كتابه الذي أضاف إليه "عادة ثامنة" تنطلق من الفعالية للإلهام..

ومن المقولات الجميلة للسيد كوفي مجموعة نصائح تنتهي بقوله (على أي حال) تستحق ان تطلع عليها وتتبناها في حياتك.. على سبيل المثال:

إن فعلت الخير سيتهمك الناس بأن لك دوافع خفية.. لا تتوقف عن فعل الخير على أي حال..

الصدق يجعلك مكروها ومعرضا للنقد .. كُن صادقا على أي حال..

الرجل الذي يحمل أفكارا عظيمة قد يعرقله أتفه الرجال.. انشر أفكارك العظيمة على أي حال..

الناس حولك غير منطقيين ولا تهمهم سوى مصالحهم الخاصة.. فأحبهم على أي حال..

عندما تحقق النجاح ستكسب أصدقاء مزيفين وأعداء حقيقيين.. اسع للنجاح على أي حال..

الصرح الذي تبنيه في سنوات قد ينهار في لحظات.. ابن صرحك على أي حال..

من يحتاج لمساعدتك سيلومك لاحقاً على تقصيرك.. ساعد المحتاجين على أي حال..

الناس يحبون الضعفاء ولكنهم يحترمون الأقوياء.. كن مع الضعفاء على أي حال..

إن أعطيت العالم أفضل ما لديك فقد يرد عليك بأسوأ ما لديه.. قدم أفضل ما لديك على أي حال..

الخير الذي تفعله اليوم سينساه الناس غداً.. افعل الخير على أي حال..

ولأن مقولات السيد كوفي انتهت (على أي حال) فقد فكرت بالسير على نفس المنوال، وإخبارك بمجموعة من تأليفي استكمل بها المقال:

وقد لا تصبح ثرياً في يوم من الأيام.. فكن سعيدا على أي حال..

ولن تحصل على كل ما ترغبه وتتمناه .. فكن شاكرا على أي حال…

والناس قد يظلمونك أو يسيئون فهمك.. فلا تهجرهم على أي حال..

وقد تفشل في تحقيق جميع أهدافك في الحياة.. فلا تتوقف على أي حال..

وستتعرض للأذى إن علقت الجرس أولا.. فبادر بفعل ذلك على أي حال..

ولن تنجح في إقناع جميع الناس بأفكارك الرائعة.. فتفهم مواقفهم على أي حال..

ورغم أن الحياة غير عادلة بطبيعتها.. كن عادلا مع غيرك على أي حال..

ورغم أن الجميع يكذب على الجميع.. كن صادقاً على أي حال..

وقد تُبتلى بمرض أو مصيبة لا تطال غيرك.. فكن متفائلا على أي حال..

صحيح أن البعض كان بخيلا في مساعدتك.. فكن كريماً على أي حال..

في حياتك أشخاص عاملوك بفوقية وكبرياء .. فكن متواضعاً على أي حال..

ما زلت تتذكر مواقف مؤذية من زوجتك (أو زوجك).. كن محباً على أي حال..

لا يمكنك منع أفراد عائلتك من ارتكاب الحماقات.. تقبل منهم ذلك على أي حال..

.. وأخيرً
جميعنا سيموت في النهاية.. فمت نظيفاً ياصاحبي قبل فوات الأوان..

يا أيها الدين كم قتلوا باسمك


في شهر رمضان من عام 40 هـ خرج الإمام علي لصلاة الفجر.. وحين سجد ضربه ابن ملجم بالسيف وهو يقول: لا حكم إلا لله ليس لك ياعلي ولا لأصحابك وجعل يتلو قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ).. كان يرى أنه على حق وأن علياً ابن عم الرسول كافر مرتد.. وبعكس ما يعتقده معظمنا لم يكن عبدالرحمن بن ملجم كافرا أو فاسقا أو ملحدا؛ بل كان صحابيا متدينا، وزاهدا متقشفا، تربى في كنف علي بن أبي طالب وقرأ القرآن على معاذ بن جبل وكان من أوائل المهاجرين للمدينة (واخترت البدء به كأقوى نموذج للخروج المتطرف والتفسير الخاطئ لنصوص الدين)!

.. وقبل مقتل علي رضي الله عنه وقعت ملاحم كبيرة باسم الدين رفع فيها جيش معاوية المصاحف على أسنة الرماح وفسره كل طرف حسب فهمه الخاص.. كانت هي ذاتها المصاحف التي رفعت في وجه الخليفة الثالث عثمان بن عفان للاحتكام إليه قبل قتله في داره وهو يقرأ القرآن الكريم..

وحين انتهى عصر الخلافة حدثت مجازر وأعمال اغتيال كثيرة باسم الدين وفسرت فيها النصوص بل ووضعت خلالها آلاف الأحاديث بحسب الهوى والمصالح السياسية.. فالأمويون مثلا أبادوا ما استطاعوا من أنصار علي وذريته الطاهرة.. وحين أتى العباسيون أبادوا بقايا الأمويين وفرغوا أجزاء كبيرة من سكانها العرب حتى أطلق على أول خليفة منهم لقب "السفاح" (ولمعرفة المزيد راجع تاريخ الطبري، أو معجم البلدان، أو مختصر تاريخ دمشق)!

وما يهمنا هو أن معظم هذه المذابح تم تمريرها باسم الدين وجهاد الكافرين وإعلاء كلمة الحق، في حين أنها من أفعال الخوارج والمارقين والطامعين في انتزاع الحكم!

ومن المؤسف أن مسلسل القتل والجزارة لم يتوقف حتى يومنا هذا.. لم يتوقف لأن التفسير المشوه للنصوص الشرعية استمر بحسب الظن والهوى (وتجاهل مغزى وظروف النص نفسه).. فتفجير المدنيين يتم اليوم بحجة "التترس".. وجز الرقاب بحجة "لقد جئتكم بالذبح".. ورفع الرؤوس على الرشاشات بحجة "جُعل رزقي تحت ظل رمحي"... وحين أحرقت داعش الطيار الأردني الكساسبة احتجت بأنه أحرقهم بالقنابل وبالتالي (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)..

السؤال هو:

هل تقف حجة التترس أمام نصوص قرآنية قوية مثل (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)...

كيف يتم الاستشهاد بحديث "لقد جئتكم بالذبح" وتجاهل آيات قرآنية أكثر عمومية مثل قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)...

ورغم أن سياق الحديث في "جعل رزقي تحت ظل رمحي" خاص بالرسول وحده؛ إلا أنه غزا تسع عشرة غزوة لم يجز فيها رقبة كافر واحد..

أما استنباط داعش لعقوبة الإحراق من الآية السابقة فليس خاطئا فقط؛ بل ويخالف قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا يعذب بالنار إلا رب النار)..

كل هذا يخبرنا بقدرة أي طرف على استنباط ما يريد من النصوص الشرعية.. يخبرنا بحتمية ظهور خوارج يفسرون أعمال القتل والسلب والنهب من خلال لي أعناق الآيات واختيار الأحاديث المناسبة - ثم يصدقون أنهم أصحاب رسالة مقدسة..

ليس أدل على هذه المفارقة من قول علي بن أبي طالب لعبدالله بن عباس حين بعثه للتفاوض مع الخوارج "لا تجادلهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه تقول ويقولون.."!

وحين تستثني القرآن من جدال الخوارج (الذين يعرفونه أفضل من غيرهم) لا يبقى لمناقشتهم سوى خيار واحد من ثلاثة:

مناقشتهم بالسنة النبوية الصحيحة..

ثم الحكمة والموعظة الحسنة..

ثم الضرب بيد من حديد.. كون لا شيء آخر سينفع بعدها..

نحتاج إلى قوانين صارمة للحد من النفايات العضوية


في منتصف الثمانينيات مررتُ بتجربة أكدت لي أننا شعب لا يقدر حاجته من الطعام.. كنت في معهد اللغة حيث أتناول طعامي مع طلبة جامعة منسوتا.. أتذكر جيدا أول يوم دخلت فيه المطعم وكيف سخرت من حجم الطبق الفارغ (الذي يشبه طبق الطائرة) وكنت أقول لنفسي يبدو أنني سأعود لملئه مرتين وثلاثة.. ولكنني في الحقيقة لم أعد لملئه لأي مرة طوال الستة أشهر التي قضيتها في المعهد.. في الأيام الأولى كنت أقنع نفسي بأن الغربة أثرت في شهيتي للطعام ولكنني سرعان ما اكتشفت أن حجم الطبق مصمم بحسب حاجة الانسان وما يتسع لمعدته فقط (التي لا يتجاوز حجمها قبضتي يد الانسان نفسه).

اكتشفت من يومها أننا تربينا على أن شعورنا بالشبع لا يأتي من اكتفائنا الفعلي، بل من حجم الطبق الذي يوضع أمامنا (بحيث يملأ العين والبصر) ثم نترك ثلاثة أرباعه خلفنا.. انظر الى حفلاتنا وزواجاتنا ومطابخنا؛ ثم خمن معي كم يزيد منها.. الربع، الثلث، النصف، ثلاثة أرباعها.. هذه النسب المهولة تجعلني على قناعة بأن "السعودية" يمكنها العيش بربع أو ثلث الأطعمة التي تستوردها حاليا (لو أحسنا النعمة فعلا)!

مشكلتنا الحقيقية أن الإسراف لدينا أصبح ثقافة اجتماعية والكرم منافسة غذائية.. لا يمكننا تنظيم أي حفلة (أو عزيمة) دون خلق جبال من الأرز وإزهاق عدد كبير من المواشي.. نشاهد صورا لأطباق حاتمية (بحجم المسبح) مقابل صور أخرى لرؤساء دول يتناولون سندويتش هامبرجر في ماكدونالدز.

اسأل أي مبتعث سعودي (في أي دولة) ستكتشف أنه يملك مشكلة في تصنيف نفاياته العضوية أو خفضها إلى الحد الأدنى المسموح به للفرد والعائلة.. أخبرني أحد المبتعثين أنه أنزل في أول يوم أربعة أكياس زبالة ثم فوجئ في اليوم التالي بوجود ثلاثة منها.. وحين سأل سكان المبنى أخبروه أن المسموح لكل عائلة كيس واحد فقط - وهذا ما استحال عليهم فعله طوال ثلاث سنوات على حد قوله.

وحين كنت في اليابان لاحظت قبل الشقيري عدم وجود روائح للنفايات بسبب عدم وجود بقايا عضوية أو أطعمة متحللة داخلها.. أخبرني أحد المبتعثين هناك أنهم لا يأكلون اللحوم والأسماك سوى يوم الاثنين لأن سيارة النفايات العضوية لا تمر على البيوت سوى مرة في الاسبوع وبالتالي كل من يخاطر بتناول اللحوم بعد يوم الاثنين سيبقى الفائض في منزله للأسبوع القادم.

وكل هذا بالطبع يختلف جذريا عما يحدث في مجتمعنا المحلي حيث المهدر أكثر مما يؤكل، وما يرمى أكثر مما يُحفظ، وما نلتهمه في رمضان (شهر الزهد والحرمان) يعادل شهور العام.

وما يقلقني أكثر أننا نهدر طعاماً لا نزرعه، ونسرف في نعيم لا ننتجه، ولولا العمالة المستوردة لغرقنا في نفاياتنا خلال ثلاثة أيام.. لا ندرك خطورة عيشنا في منطقة جافة وغير صالحة للزراعة وحقيقة أننا نستورد طعاما من شعوب لا تتردد في وقف تصديره لنا.

المحير فعلا أننا أكثر شعب في العالم يملك نصوصا شرعية وعِبراً محكية تنهى عن الإسراف وتحث على الزهد وتحذر من نتائج الهدر.. وأعتقد شخصيا أننا نحتاج الى وضع قوانين صارمة للحد من النفايات العضوية والأطعمة المهدرة (مثلنا مثل بقية العالم المتحضر).. نحتاج إلى إعادة تعريف للكرم وقراءة جديدة لسيرة حاتم الطائي (لعلنا نكتشف أنه لم يكن رجلا مسرفا بل كريما بأخلاقه وحسن استقباله واحترام ضيفه بصرف النظر عن أصله وفصله).

في رمضان ليس بالكمية وحدها يسمن الإنسان


حين نتحدث عن السمنة والبدانة نفكر غالباً بطريقة من يأكل كثيراً يصبح بديناً، ومن يأكل قليلاً يصبح رشيقاً..

غير أن هذا ليس صحيحاً بالكامل كون أسباب السمنة كثيرة ومتعددة (والأسوأ من ذلك) أنها متقاطعة ومتداخلة.. فبالإضافة لتناول كميات كبيرة من السعرات الحرارية هناك أيضا:

الاستعداد الوراثي (حيث تملك بعض العائلات استعداداً للسمنة أو النحافة).

واختلال علمية التأيض أو تمثيل الغذاء (بحيث يحرق البعض معظم مايتناولونه، في حين يخزن البعض معظم ما يتناولونه).

وهناك العامل النفسي حيث اتضح مثلاً أن مجرد قلقك واهتمامك بمسألة الحمية يرفع من نسبة اشتهائك للطعام، ويخلق لديك ردود فعل مبالغ فيها بعد كل ريجيم!

أيضاً هناك نوعية الطعام ذاته حيث تساهم الكربوهيدارات مثلاً في تخزين الشحوم والشعور بالجوع، في حين تحرق البروتينات دهون الجسم وتشعرنا بالشبع!

ومايهمني اليوم هو الرقم (4) المتعلق بدور الطعام النوعي (وليس الكمي) في حرق وتخزين الشحوم..

ففي أواسط الثمانينات قام الدكتور آلن كويك من جامعة لندن بتجربة ضمت ثلاث مجموعات من البدناء متماثلين في الوزن والسن والعرق:

المجموعة الأولى كان90% من طعامها يأتي من الكربوهيدات (كالمعجنات والحلويات والخبز والأرز والفواكة ومنتجات الدقيق)...

والمجموعة الثانية كان90% من طعامها يأتي من البروتينات الخالصة (كاللحوم والبيض والبقوليات وبعض الخضروات المختارة)...

والمجموعة الثالثة كان90% من طعامها يأتي من البروتوينات المضافة إلى منتجات الدهون والزبدة والزيوت الصحية...

وكانت المجموعات الثلاث تحصل على 1000 سعرة حرارية في اليوم بصرف النظر عن طبيعة الطعام نفسه (علماً أننا نحتاج الى 2000 سعرة في اليوم)..

وأمام دهشة الجميع ظهرت النتائج التالية:

المجموعة الأولى لم ينخفض وزنها على الإطلاق (رغم قلة السعرات التي تتناولها) كون الجسم تمسك بالشحوم مقابل إصابته بالكسل والخمول...

أما المجموعة الثانية فانخفض وزنها بمعدل 0,26 كيلوجرام في اليوم (أي بمعدل كيلو كل أربعة أيام) وشعرت بتحسن في الحركة والعضلات...

أما المجموعة الثالثة فانخفض وزنها بمعدل 0,47 كيلوجرام في اليوم (أي قرابة كيلو كل يومين) وشعرت بنشاط كبير وخفة في الحركة...

وحينها بدت تجربة الدكتور آلن مخالفة لكافة الفرضيات (التي كانت تحذر من الدهنيات على وجة الخصوص) ولكن أكثر من 33 تجربة لاحقة أثبتت صحة النتائج التي خرج بها...

وكي تفهم ماحدث؛ لاحظ أولاً أن المجموعات الثلاث كانت تتناول سعرات حراية أقل بمقدار النصف من حاجتها اليومية (وبهذا التساوي ألغى آلن دور العامل الكمي)..

غير أن تناول الكربوهيدارات لدى المجموعة الأولى رفع مستوى السكر في الدم، وأبطأ معدل التمثيل الغذائي، ومنع الجسم من حرق الدهون القديمة..

وفي المقابل لا تفعل البروتينات ذلك؛ وتعمل على استقرار هرمون الأنسولين في الدم، وتتجه غالبا لبناء الأنسجة العضلية وليس المناطق الشحمية كما تفعل الكربوهيدرات..

وحين تضاف إليها الدهون (التي يوجد منها أنواع صحية وغير صحية) تنشط عملية التمثيل الغذائي وتسحب معها المزيد من الشحوم المخزنة لإحراقها كون الألف سعرة ليست كافية أصلاً فينخفض الوزن بشكل أسرع..

كل هذا يقودنا إلى الاهتمام بنوعية الطعام (أكثر من كميته) حين نفكر بعمل حمية أو ريجيم..

يقودنا للتذكير بأن الإكثار من تناول البروتينات بنسبة أكبر (مقابل الإقلال من الكربوهيدرات والسكريات) هو الطريق الصحي والسليم للتخلص من الشحوم...

يقودنا للتنبيه إلى أن الريجيم بطبيعته فكرة موقته تعتمد على الحرمان (بل وفاشلة كون الوزن يعود بعده أسوأ مما كان) في حين أن تغيير نوعية الطعام تشبع رغبتك في الأكل وتمنحك أسلوب حياة جديداً يستمر معك طوال العمر.

ما هو احتمال عودتنا إلى عصر ما قبل النفط؟


كتبت قبل فترة بسيطة مقالاً بعنوان "لن ينضب النفط قبل مناجم النحاس".. ورغم أنني مازلت عند رأيي باستمرارية تدفقه؛ لا يعني هذا أن العالم نفسه سيستمر في استخدام النفط إلى الأبد.. ففي حين مازلت أعتقد أن النفط من مكونات الأرض الأصيلة (وهو مايعارضه خبراء النفط عطفاً على طبيعته العضوية) لن تتوقف الدول الصناعية عن البحث عن طاقة جديدة وبديلة للنفط..

وكما هو معلوم يستهلك قطاع النقل في العالم معظم الإنتاج النفطي (ويشكل 30% من استهلاكنا المحلي) وبالتالي سيصبح وضعنا محرجاً بمجرد اختراع سيارة تسير بالكهرباء أو الهيدروجين أو زيت النخيل.. حتى كلمة (اختراع) هنا غير دقيقة ولا تعبر عن الواقع.. فالسيارة الكهربائية موجودة بالفعل وظهرت قبل السيارة النفطية.. والسيارة الهيدروجينية موجودة أيضاً ولم يمنع انتشارها سوى تقنيتها المكلفة.. والسيارات التي تعمل على زيت الذرة والنخيل رأيتها بنفسي تمشي على طرقات البارجواي والبرازيل...

وماجعلني أفكر بكتابة هذا المقال اكتشافي لصورة (التقطتها في جوالي) لمجموعة سيارات كهربائية في النرويج تشحن نفسها بالكهرباء.. فبدل التوقف في محطات النفط لتعبئة الوقود؛ تقف السيارات الكهربائية أمام منازل أصحابها أو في مواقف خاصة لشحن بطارياتها طوال الليل..

وما أثار رعبي بحق أن السيارات التي رأيتها كانت من ماركات معروفة ولا يمكن تمييزها عن السيارات العادية التي نراها في شوارعنا (ولتمييز الفكرة بشكل أفضل سأضع الصورة في حسابي الشخصي على "انستغرام" بالتوافق مع هذا المقال)..

والسيارة الكهربائية بالذات ليست اختراعاً حديثاً وكانت شائعة في مطلع القرن العشرين.. كل مافي الأمر أنها اختفت بالتدريج مفسحة المجال لسيارات أكثر فعالية وأقل تكلفة تسير على النفط الرخيص.. وفي نهاية القرن العشرين بدأت الكفة تميل مجدداً للسيارات الكهربائية بسبب أسعار النفط المرتفعة وازدياد الوعي البيئي في الدول المتقدمة.

وفي أيامنا توجد في شوارع أوروبا أكثر من تسعة ملايين سيارة كهربائية أو هجينة (تعمل بالطاقة الكهربائية والنفطية).. كما ظهرت شركات متخصصة في إنتاج السيارات الكهربائية فقط لعل أكثرها شهرة ونجاحاً شركة "تسلا" الأميركية.. وبجانب هذه الشركات المتخصصة تملك شركات السيارات المعروفة كتويوتا ومرسيدس وفورد ونيسان موديلات كهربائية أو هيدروجينية لمن شاء اقتناءها بسعر مرتفع (فهي أيضاً تريد اقتسام جزءٍ من الكعكة، ولا تريد التوقف عن العمل حين يتوقف العالم عن استهلاك النفط)!!

... وبالإضافة للسيارة الكهربائية يمكن لسياراتنا أيضاً التحرك باستعمال بدائل معروفة وموجودة مثل الهيدروجين والزيوت النباتية.. وكنا قبل عشر سنوات تقريباً (قبل أن يصيبنا الرعب من تدفق البترول الصخري) أصبنا بالرعب من فكرة استخلاص وقود السيارات من محاصيل الذرة والشعير في الولايات المتحدة الأميركية (وهو بالمناسبة مايحصل منذ ثلاثين عاماً في البرازيل ودول أميركا اللاتينية).. ولكن ما يجعل البترول يتفوق في كل جولة هو سعره الزهيد وفعاليته الكبيرة مقارنة بحجمه الصغير.. أما لو نجحوا مثلاً في تصغير بطاريات السيارة الكهربائية، أو اكتشفوا وسيلة رخيصة لاستخراج الهيدروجين من الماء، أو قررت دول العالم التوسع في إنتاج الوقود النباتي.. سيتم حينها الاستغناء عن مواردنا النفطية بلا تردد!

... باختصار

السيارات البديلة ليست اختراعات جديدة وتتراجع خلف السيارة التقليدية لأسباب اقتصادية.. وهذا يعني أن أي ارتفاع مبالغ فيه في أسعار النفط، أو انخفاض تكاليف تصنيعها من شأنه إعادتنا (نحن) إلى عصر ماقبل النفط!!

ولا تعتقدوا أنني أبالغ.. فالسيارات الكهربائية التي رأيتها في شوارع النرويج بدأت في الانتشار رغم أن النرويج نفسها دولة نفطية كبيرة!

فلسفة البحث عن الفلسفة


بين العلم والتخمين، تقف الفلسفة حائرة بين الاثنين...

فالفلسفة تعني "حب الحكمة" ومنها تفرعت كل العلوم.. تهتم بطرح التساؤلات والبحث عن المعرفة فتصل لمستوى العلم الراسخ أحياناً، وتتبني أحياناً أخرى أجوبة ساذجة بمقاييس عصرنا الحديث..

لا يمكن تحديد فترة لظهورها (حسب رأيي) كونها بدأت منذ بدأ الإنسان التساؤل والتأمل فيما حوله.. فهي طريقة في التفكير ومحاولة للفهم اعتماداً على الملاحظة والتأمل والمنطق دون امتلاك أدوات التجربة والتأكد من الجواب.. لا يمكن اتهام الفلسفة ذاتها بشيء حسن أو سيئ كونها ليست علماً أو أيدلوجيا أو تشريعاً، بل مفهوم يعتمد على التساؤل والبحث فيما يشغل بال الإنسان..

ساهمت (في الماضي) في ارتقاء البشرية فوق الخرافات والأساطير، ولكنها لم تصل لمستوى العلم (في الحاضر) حيث التجربة وصياغة القوانين والنظريات والتأكد من الإجابات..

ولهذا السبب قد تجد آراء ساذجة لفلاسفة كبار ظهرت قبل اعتماد المنهج التجريبي.. فسقراط مثلاً ادعى أن وظيفة الدماغ الأساسية هي تبريد الدم، في حين خالفه ابن سينا الذي قال إن الرئتين هما المسئولتان عن ذلك بدليل دخول الهواء بارداً وخروجه ساخناً (ولاحظ هنا أنهما اعتمدا على ملاحظتين معقولتين ولكن صعوبة التحقق من الفرضية أوقعتهما في الخطأ)!!

وفي الحقيقة؛ حتى السؤال عن ماهية الفلسفة يعد بحد ذاته سؤالاً فلسفيّاً قابلاً للنقاش.. وهذا ليس عيباً كون النقاش في أي موضوع يُشكِّل أحد المظاهر الأساسية للفلسفة الميالة للبحث والتساؤل.. وحتى اليوم توصف الفلسفة بأنها "التفكير في التفكير".. كما تعرف بأنها محاولة الإجابة عن الأسئلة الأساسية التي تحيط بوجودنا وذواتنا (مثل الهدف من وجودنا؟ وماهي الحكمة من قهر الضعفاء أو موت الأطفال في سن الرضاعة؟)..

ويمكن القول إن الإغريق هم الذين أسّسوا قواعد الفلسفة كمحاولة سليمة في التفكير.. صحيح أنهم أخطئوا في كثير من الاستنتاجات؛ ولكنهم ابتعدوا قدر الإمكان عن تأثير الثقافة والدين وسلطة الموروث التي لم تسلم منها معظم الثقافات الشرقية..

وكان فيثاغورس الأغريقي أول من وصف نفسه (قبل 2520 عاماً) بأنه فيلسوف وعرَّف الفلاسفة بأنهم الباحثون عن الحقيقة من خلال التأمل والتفكير السليم.. وعبر التاريخ انفصل مفهوم العلم تدريجياً عن مفهوم الفلسفة.. فالعلم يجيب على التساؤلات بطرح الفرضيات ثم التأكد منها بالتجربة والقياس والبرهان المحسوس، في حين اعتمدت الفلسفة طوال تاريخها على التفكير والتأمل والقياس المنطقي (ولكن حتى القياس المنطقي قد يخدعنا أحياناً فيخبرنا مثلاً أن الأرض مسطحة، أو أن الجسم الأثقل يسقط بسرعة أكبر.. وهي استنتاجات لا يمكن حسمها بغير البرهان والتجربة)!!

.. ولأن الفلسفة تعتمد على الحواس والمحاكاة ولا تسلم من تأثير ثقافتها المحلية تفرعت في مجالات واتجاهات عديدة بحيث ظهرت فلسفات يونانية وإسلامية وشرقية وغربية وقديمة وحديثة وإنسانية ووجودية واجتماعية.

وحتى يومنا هذا لا يمكن القول إن الفلسفة ستتوقف عن التفرع أو تصل إلى جواب نهائي لأي شيء (بعكس العلم الذي قد يثبت عند حقائق مؤكدة لا يختلف عليها أحد).. فهي محاولة بحث دائمة في كل المجالات وقابلة للتطور بحسب التطور البشري والمعرفي وظهور أدوات استقراء جديدة.

.. باختصار شديد؛ يبقى مفهوم الفلسفة قائماً حتى تتوقف عقولنا عن التفكير، أو نعثر على جواب نهائي للمعضلات الكبرى.

القصة التي لا نمل سماعها


قد لا أكون محباً للروايات الأدبية ولكنني عاشق للأفلام السينمائية..

وهذا ليس سيئاً بحد ذاته كون الأفلام السينمائية تجمع بين الرواية والسيناريو والموسيقى ومهارة الأداء (وكافة الفنون السابقة لها) حتى دعيت بالفن السابع..

ومن خلال مشاهدتي لعدد كبير منها لاحظت اشتراك معظمها الأكشن على وجه الخصوص في وجود بطل وصاحب رسالة نتعاطف معه حتى النهاية.. نقف في صفه كونه رجلاً شريفاً ينهض من الصفر ويتغلب على أشرار أقوى منه بكثير.. نرى فيه أنفسنا دون أن نعي ذلك فعلاً ونتبنى من خلاله صفات ومهارات لا نملكها..

... وتبدأ القصة غالباً برجل شريف أو مسالم يوضع في موقف يجبر فيه على الدفاع عن نفسه أو المظلومين حوله (مثل المزارع وليام والاس في فيلم القلب الشجاع الذي قاد المقاومة الاسكتلندية ضد الاحتلال الإنجليزي).. قد يكون غاضباً أحياناً (مثل سلسلة رامبو) وحكيم أحياناً (مثل عمر المختار) ومتعجرف أحيانا أخرى (مثل أبطال جيمس بوند) ولكن جميعهم في النهاية يسعون للقضاء على رجل شرير يسعى لتدمير حياة الناس...

... قصة من هذا النوع لا نمل سماعها ورؤيتها وقراءتها وكنا نطلب من جداتنا تكرارها حين كنا أطفالاً صغاراً.. مغامرة مشوقة تعتمد على ما يسميه النقاد "رحلة البطل" يتعلم صياغتها بوجوه جديدة طلاب الآداب وكتاب هوليود..

ويعتقد علماء النفس أن مصدر التشويق في رحلة البطل تكمن في رغبتنا المسبقة في أن نكون مكانه ونفعل مثل أفعاله.. وبسبب هذه الرغبة اخترع العامة الأساطير، ودونوا المبالغات، ومجدوا شخصيات مشكوكاً بوجودها (مثل الزير سالم، والملك آرثر، وسيف بن ذي يزن).. فحين تراجع أساطير المجتمعات (رغم انعزالها الجغرافي واختلافها الثقافي) تكتشف قصصاً مشتركة تنتهي دائماً بانتصار البطل وهزيمة الشرير واستعادة المظلومين حقوقهم.. لا يهم إن كان البطل شخصية حقيقية (مثل أنبياء بني إسرائيل) أو خيالية (كالإله راما في الثقافة الهندوسية) أو خليطاً بين الحقيقة والخيال (مثل شخصيات هرقل وهيلوس وأخيل في الأساطير اليونانية).. المهم أن البطل ينتصر في النهاية ويصبح مثلاً يحتذى وأسطورة تتناقلها الأجيال!

... ولعل أفضل من حلل أسطورة البطل هو الكاتب الأميركي جوزيف كامبل في كتابه "بطل بألف وجه".. فنفس البطل يظهر بوجه جديد في أزمنة تاريخية ومواقع جغرافية مختلفة.. يبدأ متخبطاً أو تائهاً حتى يتلقى عوناً خارجياً من حكيم أو ساحر أو روح خارقة ترشده إلى هدفه الجديد.. ففي الأساطير اليونانية مثلاً يأتي الإرشاد من الإله هرمس، ولدى الفراعنة من الحكيم رع أو الإله إبيس، ولدى الرومان من الإله ميركوريوس، وفي المسيحية من الروح القدس، وفي الأساطير الآسيوية من روح الأسلاف أو التنانين المقدسة...

وغالباً ما تكون هناك مرحلة أولى يتجاوزها البطل ويتعرف من خلالها على نفسه ويصبح أكثر ثقة برسالته.. ثم تأتي المرحلة الثانية حيث تفاصيل المغامرة والتغلب على عقبات الصعود.. ثم تأتي الخاتمة حيث ينتصر الخير ويختفي الشر ويعم السلام ثم يموت البطل ويتحول إلى أسطورة تتناقلها الأجيال ويضيف إليها التاريخ المزيد من النكهات!!

... هذه هي "القصة التي لا نمل سماعها" وكل ماعليك فعله الآن هو الإمساك بالورقة والقلم ومحاولة الخروج بوجه جديد.

لماذا أصبحت تراه في كل مكان؟!


اشتريت مؤخراً حذاء رائعا للمشي من ماركة لا أعرفها.. كنت في دبي حين رأيته في واجهة المحل فأدركت (من أول نظرة) أنه الحذاء الذي أبحث عنه منذ زمن طويل.. الطريف أنني أصبحت أراه بعد ذلك في كل مكان .. في الأسواق والفنادق ومحطة الـ MBC .. بل ورأيت عائلة كاملة تلبسه في باص المطار!!

.. هذه الظاهرة مرت بك أنت من قبل .. تذكر معي آخر مرة اشتريت (أو نويت شراء) شيئا ما فأصبحت تراه في كل مكان.. هل تذكر مثلا أول سيارة نويت شراءها في سن الشباب.. هل تذكر كيف أصبحت تراها فجأة في كل مكان وكأن الشوارع أصبحت قاصرة عليها؟!

هذه الظاهرة التي لا أعلم ماذا تسمى أدعوها شخصيا حالة "التنبه المفرط".. فحين ترغب بشيء ما تصبح واعياً لوجوده وتتركز حواسك عليه فقط .. فالأشياء موجودة حولنا دائما ولكننا لا نلاحظ 99% منها كوسيلة للحد من تدفق المعلومات الواردة لأدمغتنا..

عقلنا الواعي لا يحتمل ملاحظة جميع الأشياء والوجوه والأحداث التي تمر بنا خلال اليوم.. وهكذا حين تعود لمنزلك لا تتذكر سوى الأبرز والأغرب.. وربما تتذكر وجهاً أو وجهين لفتا انتباهك في الشارع...

"حذاء المشي" مثلا كان موجودا ومنتشرا في كل مكان ولكنني ببساطة لم ألاحظ وجوده قبل شرائه.. وحين أصبحت متنبها لوجوده بدا لي وكأن الناس لا تلبس غيره.. ونفس الظاهرة تنطبق على أول سيارة اشتريتها في حياتك؛ فقد كانت موجودة دائما ولكنك ببساطة لم تلاحظ وجودها حتى قررت شرائها فأصبحت لا ترى غيرها في الشوارع!!

.. والمشكلة الحقيقية لا تتعلق بملاحظتنا المفرطة للأشياء المادية (كالأحذية والسيارات) بل في ملاحظتنا المفرطة لما يؤيد أفكارنا ومعتقداتنا وآرائنا الشخصية (فقط)..

فكما ترى سيارتك المفضلة في كل مكان؛ سترى أيضا ما يؤيد أفكارك ومعتقداتك في كل مكان.. فإن أخذت مثلا فكرة سلبية عن الإعلام الفضائي سيتولد لديك اهتمام مفرط بملاحظة ما هو سيئ وفاسد فيه فقط (متجاهلا كل البرامج الإخبارية والحوارية والوثائقية المفيدة).. وحين تأخذ فكرة مسبقة عن رجل مفكر أو مثقف (سواء سلبية أو إيجابية) ستتنبه فقط لما يؤيد رأيك فيه.. أحد الصحفيين العرب أخبرني مثلا أن مشكلة الإعلام السعودي (حسب رأيه) تكمن في أنه يحشر الدين في كل صغيرة وكبيرة. وحين سألته عما دعاه لتشكيل هذه الفكرة؛ استشهد بأن كتاب الصحف لدينا نادرا ما تخلو مقالاتهم من نصوص شرعية في قضايا لا تتطلب ذلك بالضرورة .. ابتسمت وأخبرته أن هناك في المقابل من يتهم نفس الكتاب بالعلمانية والتحرر في حين يكمن سر هذه المفارقة في أن كل طرف يلاحظ فقط ما يؤيد وجهة نظره (وينتبه لذلك بطريقة مفرطة ومبالغ فيها)!.

أما الأسوأ من ذلك فهو أن يتحول "التنبه المفرط" إلى وسواس ومقياس لما يجب أن يكون عليه الناس.. خذ كمثال لقاء الاستاذ داود الشريان الشهير مع الموقوف خالد المولد.. تلاحظ أن هذا الأخير تشكل لديه اهتمام مفرط بمسألة القبور وكأن صلاح الكون وتفوق الأمم يعتمد عليها.. بلغ به التركيز على هذه القضية حد تكفير الأمة وإباحة قتل الناس وانتقاص أئمة المذاهب (وجميعها أمور أعظم وأخطر من مسألة دخول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم دون قصد ضمن التوسعات التاريخية للمسجد النبوي)!!

... وما يهمني اليوم هو تنبيهك أنت إلى أننا (في حياتنا العادية) لا نلاحظ ولا نهتم ب99% مما يدور حولنا ويشغل بال غيرنا .. ولكن، بمجرد أن نركز اهتمامنا على شيء واحد فقط؛ يتضخم بطريقة مشوهة لدرجة يشغل 99% من حواسنا وتفكيرنا.. ثم نستغرب كيف لا يثير اهتمام الناس مثلنا!!

.. للتو فقط تذكرت رجلاً يعتقد أن حال الأمة لن ينصلح قبل حل مشكلة العنوسة !!

المعادلة الهندية


قرأت في صحيفة الشرق الأوسط تقريرا بعنوان "انتشار معاهد العباقرة في الهند وتدريبهم يبدأ في أرحام أمهاتهم"!!

ويتحدث التقرير (الذي نشر يوم الاثنين الماضي) عن قناعة الهنود بإمكانية تنمية ذكاء الطفل وتهيئته للعبقرية وهو مايزال جنينا في بطن أمه.. فرغم انتشار هذه الفكرة في المجتمعات الغربية؛ إلا أن قناعة الهنود بها تعود الى ثلاثة آلاف عام (بفضل ملحمة مهابهارتا التي تتحدث عن بطل يدعى أبهيمانيو يعرف سرا خطيرا بفضل والده أرجون الذي أخبر أمه بهذا السر وهي حامل به)!!

... ومن المعروف طبيا أن الجنين يمكنه فعلا سماع نبضات قلب والدته والأصوات المحيطة بها أثناء فترة الحمل.. كما يمكن لعينيه تمييز الأضواء والظِلال ولعضلاته التجاوب من خلال الركل والحركة.. وفي الهند توجد مراكز كثيرة (ذكر التقرير أسماءها) تعلم الزوجين كيفية حث جنينهما على التجاوب مع المؤثرات الخارجية وبطريقة تهيئه للتفوق في مجالات كثيرة، بدءا بالموسيقى والرسم وانتهاء بالرياضيات والحاسب الآلي!!

... ومن خلال هذا التقرير يمكننا الذهاب في اتجاهين لإنهاء هذا المقال:

الأول: البحث في الادعاءات القائلة بإمكانية تعليم الطفل شيئا خلال فترة الحمل (علما أن تغذية الأم خلال هذه الفترة أصبح حاسما في تحديد مستوى الإنسان الذهني من ولادته وحتى وفاته).

والاتجاه الثاني: تمتع الدول الكبيرة (كالهند والصين وأميركا واندونيسيا) بفرصة ظهور أعداد أكبر من العباقرة؛ عطفا على الأعداد الهائلة للطلاب فيها!!

... ولأن مساحة المقال لا تكفي الاثنين قررت تأجيل الفكرة الأولى الى مقال قادم؛ في حين لا أعتقد أن الهند بحاجة لتعليم أطفالها شيئا خلال مرحلة الحمل عطفا على امتلاكها أعدادا هائلة من الطلاب الصغار.

فأعداد الطلاب الهائلة في الهند تمنحها فرصة ظهور العباقرة بنسبة أكبر من دول متقدمة (ولكن صغيرة) كالسويد والنرويج والدنمرك ونيوزلندا.. فرغم الفقر الكبير بين السكان، ورغم تواضع نظامها التعليمي، ورغم النقص الحاد في المدارس والإمكانات؛ إلا أن أعداد الطلاب "المتفوقين" في الهند يفوق مجموع الطلاب "العاديين" في فرنسا وألمانيا بل ودول اليورو مجتمعة.

ويكمن السر في وجود (قانون إلهي) يمنحنا طفلا خارق الذكاء من بين كل عشرة أو عشرين أو حتى مئة مولود جديد.. فحين يولد في قرية ما 100 طفل يوضع 70 منهم تحت خانة الذكاء العام والمعتاد، في حين يعاني 15 طفلا من الغباء والتخلف، ويتمتع 15 طفلا بمظاهر الإبداع والتفوق والذكاء الخارق.

وبما أن عدد سكان الهند يفوق سكان الدول الأوروبية، وبما أن الطالب الذكي يتفوق مهما تواضعت بيئته التعليمية؛ أصبحت الهند تملك من الطلاب العباقرة (من فئة ال15 الأخيرة) ما يفوق مجموع الطلاب في الدول الأوروبية المتقدمة!!

... ولاحظ أننا نتحدث حتى الآن عن معادلة تتعلق بالتفوق الكمي أو العددي، وبالتالي تصور ماذا سيحصل في العقود القادمة حين ترتفع نوعية التعليم في الهند وتصل إلى مستوى اليابان والسويد وفنلندا (بحيث يجتمع التفوق العددي مع التفوق النوعي).

... ولفهم الفكرة بشكل أفضل دعنا نذهب إلى الصين (حيث يوجد 1,36 مليار انسان) أو أميركا (حيث يوجد 318 مليون انسان).. ففرصة ظهور العباقرة في هذين البلدين يصبح محتما (ليس لأن الله خلقهم من طينة مختلفة) ولكن بفضل اجتماع التفوق الكمي مع التفوق النوعي.. فالمعادلة الهندية تنطبق بشكل أفضل على الصين وأميركا كون النظام التعليمي فيهما أكثر تطورا من الهند وبالتالي يجمعان بين الكم والنوع وهو ما يفسر تفوق أميركا في جوائز نوبل، وكثرة العلماء الصينيين في جامعات العالم!!

... وفي حين تحول التفوق العددي في أميركا والصين (والهند قريبا) إلى تفوق نوعي وميزة نسبية، يتكاثر العرب كغُثاء السيل ويتحول تضخمهم العددي إلى تراجع نوعي وعبء تنموي وأرقام إضافية تؤجج صراعاتهم التاريخية.

شخص بمكانين


جميعنا سمع بالمثل القائل "يخلق من الشبه أربعين".. غير أن دراسة من الصين أكدت أنه يخلق من الشبه الواحد هناك 1300 شخص (في حال تحدثنا عن تطابق الملامح بنسبة 100%) ويخلق من الشبه 18 مليون نسمة (في حال تحدثنا عن تطابق الملامح بنسبة 80%) ومن الشبه مليارين أمام عجزي أنا وأنت عن التفريق بشكل دقيق بين كافة الوجوه التي قد نراها في الصين!

ومعدلات مرتفعة كهذه تجعلني أتساءل عن نسبة الشبه التي توجد بين جميع البشر على كوكب الأرض وما إن كان شبهاء رؤساء أوباما وأردوغان وبوتين يتجاوزن في الدول الكبرى كالهند والبرازيل وألمانيا سكان دولة صغيرة كالفاتيكان وموناكو وسنغافورة!!

... ورغم أنني سبق وكتبت مقالاً عن توظيف شبهاء لرؤساء الدول لدواعٍ أمنية (وضربت مثلاً بأربع شبهاء للرئيس العراقي السابق صدام حسين)؛ قد يكون وجود الشبهاء بشكل عفوي هو التفسير المناسب لظاهرة القرين الفيزيائي أو الشبيه الطيفي؛ ففي هذه الظاهرة يُشاهد الشخص في مكانين اثنين في نفس الوقت. فقد يدعي احدهم مثلاً أنه شاهد "فلاناً" في حفل زفاف فيجيبه الآخر مستغربا "ياشيخ كان معانا طول الليل في المزرعة".. وفي الغالب يتراجع الطرف الأول بسرعة لأنه غير متأكد مما رأى فعلاً!!

وأنا بدوري لست متأكداً ما إن كان لظاهرة التشابه هذه علاقة بالقصص التي تتضمن رؤية نفس الشخص في مكانين أو حتى عدة أماكن التي تزخر بها ثقافات عالمية كثيرة.. خذ كمثال الباحث الإنجليزي فريدرك مايرز الذي جمع أكثر من 141 حادثة عالمية عن أشخاص شوهدوا في نفس الوقت في أماكن مختلفة ضمن حكايات تتجاوز حدود العقل والمنطق ولكنها مقبولة ومتوقعة في ثقافات أصحابها..

ففي التيبت مثلاً يدعي الناس أن للكاهن الأعظم القدرة على إرسال روحه إلى عدة معابد متفرقة حيث يراه الناس في تلك المعابد أثناء صلواتهم.

وفي الثقافة المسيحية ينظر لهذه الظاهرة كمعجزة ربانية أو خدعة من عمل الشيطان.. ففي أكثر من مناسبة ادعى أشخاص أنهم رأوا البابا في مناطقهم وقت الكوارث في حين لم يغادر روما أبداً.. وقيل نفس الشيء عن قديس ميلانو "سانت امبروس" والقديس رافينا "سانت سيفيريوس" وسكرتير الفاتيكان "بارديو بينو" في حوادث متفرقة.. وأقدم ادعاء موثق في الثقافة المسيحية يعود إلى عام 1774 حين شوهد القس "الفونسو - ديليجوري" بقرب البابا أثناء احتضاره رغم انه كان محتجزاً في فرنسا تحت حراسة الجيش الملكي!!

أما في تراثنا الإسلامي فهناك قصة مشهورة حدثت في معركة بدر حين تمثل إبليس للمشركين بهيئة سراقة بن مالك وكان من أشراف بني كنانة. وحينها وقف فيهم خطيباً ووعدهم بالمساندة ضد المسلمين وأخبرهم أن بني كنانة قادمون لنصرتهم. ولكن ما أن شاهد الملائكة تضرب أعناق الكفار حتى هرب وهو يقول (إني أرى مالا ترون).. ويحكي الرواة أن سراقة بن مالك (الحقيقي) حين زار مكة لاحقاً تشبث به أهلها وهم يصرخون: ياسراقة خرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة وهو يهرب منهم ويردد: والله ما علمت بأمركم حتى ظهرت هزيمتكم!!!

.. عند هذا الحد أفضل التمسك بالمثل الذي بدأنا به المقال: "يخلق من الشبه أربعين"

ماذا يرى طفلك في الظلام؟


جمعية السينما الأميركية اختارت (ضمن أعظم عشر لقطات يصعب نسيانها في تاريخ السينما) لقطة الطفل كول في فيلم الحاسة السادسة وهو يقول لطبيبه النفسي: "أرى أشخاصا متوفين ".. I see dead people ..

ففي هذا الفيلم يسأله الطبيب النفسي عن سبب رعبه الدائم فيخبره أنه يرى دائما أشخاصا ميتين في أماكن وفاتهم الأولى (ثم يتضح أن الطبيب ذاته متوفى ويتحدث معه الطفل لأنه الوحيد القادر على رؤيته)!

.. وتم اختيار هذه اللقطة من خلال التصويت عبر الانترنت كونها ذكرت الناس بمخاوفهم أيام الطفولة.. فجميعنا كان يخاف من الظلام ويرى خيالات أشخاص يتواجدون معه في نفس المكان..

أنا شخصيا كنت أرى - بين الحين والآخر - امرأة ذات ابتسامة قبيحة وشعر أشعث تستقر دائما في زاوية الغرفة فأغمض عيني أو أتجاهل وجودها ببساطة..

وغالبا ما نفسر هذه الادعاءات بالوهم والخيال أو حتى كذب الأطفال؛ غير أن هناك آراء مغايرة تفسر هذه الظاهرة ك(كائنات حقيقية) يصعب علينا نحن الكبار رؤيتها أو سماعها كما يفعل الأطفال.. فمن المعروف أن حواس الأطفال تعمل على مستويات منخفضة بحيث يسمعون ذبذبات صوتية أقل، ويرون نطاقات طيفية أوسع يعجز عنها الكبار (وهذا بالمناسبة موجود لدى كثير من الحيوانات).. أضف لهذا مازالت عقولهم تعمل بعيدا عن قيود المعقول والمنطق وتبصر بالتالي ما يدخل عيون الكبار دون أن يروه فعلا - وهي حالة يثبتها قوله تعالى (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)..

وهناك طبيبة في علم نفس الأطفال تدعى كارون جودي تؤكد أن ما يراه الأطفال حقيقي وصادق بنسبة كبيرة - ومن الخطأ تفسيره كخيالات وتوهمات وخوف من الظلام.. وتقدم في كتابها "الأطفال الذين يرون الأشباح" دلائل كثيرة ترجح هذا المعنى مثل اشتراك الأطفال في رؤية شخصيات محددة تتكرر باستمرار أو تتحدث معهم بذات الموضوع..

وكثير من الأطفال يملكون حتى سن معينة ما يمكن تسميته بالصديق الخفي أو Imaginary friend دون أن يعانوا فعلا من دوافع نفسية محرضة.. ورغم ان الشخصيات الخيالية يمكن تصنيفها اليوم بحسب جنس الطفل وظروفه المعيشية، إلا أنها تختفي غالبا بمجرد تغيير موقع المنزل أو غرفة الطفل (كدليل على ارتباطها بالمكان أكثر من الانسان).. وتقول جودي في كتابها "Kids Who See Ghosts" إن الأطفال حتى سن الرابعة لا يستطيعون تمييز الشخصيات الشبحية (حسب تعبيرها) فيتكلمون معها دون خوف ويتحدثون عنها كشخصيات حقيقية.. ولكن بعد ذلك السن يبدأون بفهم الفرق بين الشخصيات الحقيقية والشبحية فتبدأ مخاوفهم بالتشكل بين سن الخامسة والتاسعة.. وبعد سن التاسعة تبدأ موهبة رؤيتهم للأشياء الخفية تتضاءل، وحينها فقط قد يبقى خوفهم من الظلام لأسباب نفسية..

وبحسب الكتاب تأتي الشخصيات الشبحية بأشكال مختلفة أكثرها انتشارا شخصيات لطيفة بعمر الطفل نفسه (فيتخذها كصديق خفي يتحدث معه حين يخلو بنفسه).. أما أسوأها فشخصيات مخيفة تتضمن أشخاصا متوفين أو مشوهين (وهو الأمر الذي أثار ذكريات كثير من الناس حين اختاروا اللقطة السابقة من فيلم الحاسة السادسة)!

.. المطمئن في كلام الطبيبة جودي (التي كانت بدورها ترى رجلا صالحا يزورها كلما فعلت شيئا جميلا) هو تأكيدها بأن الطفل لا يصاب غالبا بأذى جسدي بسبب هذه الكائنات الخفية - كما نرى في أفلام الرعب..

فهي في النهاية كائنات شبحية غير مادية لا يمكنها التأثير علينا بطريقة فيزيائية - ولكن يبقى التأثير النفسي الذي يتطلب حنان الوالدين وتفهم الأطباء المتخصصين!

.. وكلامها هذا ذكّرني بمقال قديم تساءلت فيه كيف يمكن لمخلوقات خفية (خلقت من طاقة غير محسوسة أو مرئية) التأثير فيزيائياً على أجساد مادية صلبة وغليظة.. مثلي ومثلك!؟

بقعة أنشتاين


كما أن الظلام هو الأصل والنور هو الحالة الطارئة.. وكما أن الزمهرير هو الأصل والدفء هو الحالة المصطنعة.. فالجهل أيضا هو الأصل، والمعرفة هي الحالة الاستثنائية.. الغرور هو الأصل، والاعتراف بالنقص هو طريق المعرفة والحل الناجح..

أذكر أنني قرأت عن لص غبي حاول سرقة بنك في أميركا ولكن الحراس تمكنوا من التغلب عليه وتسليمه للشرطة.. نجحوا في ذلك لأنه كان يغطي وجهه بعصير الليمون الذي تسرب لعينيه فلم يعد يرى شيئا؛ فقد سمع أن عصير الليمون يستعمل كحبر خفي فاعتقد أنه بهذه الطريقة سيصبح خفياً على كاميرات البنك!

المشكلة هنا ليست في جهل اللص بكيفية عمل الكاميرات والأحبار الخفية (فمعظمنا لا يعرف ذلك أيضا) بل في أنه كان جاهلا بحقيقة أنه جاهل (وهذا هو موضوعنا اليوم)!

.. ذات يوم بعث الكاتب الساخر برنارد شو برسالة الى عالم الفيزياء ألبرت أنشتاين ادعى فيها أن العلم زاد حياتنا تعقيدا كونه حين يحل مشكلة يخلق مقابلها عشر مشكلات جديدة.. رد عليه أنشتاين برسالة لم ينكر فيها هذه الحقيقة ولكنه قال - مامعناه - إن العلم بمثابة بقعة ضوء صغيرة مسلطة على مساحة لانهائية من ظلام موجود أصلا (والظلام كناية عن الجهل).. وكلما كبرت بقعة الضوء كبر محيطها وكشف عن قدر أكبر من الظلمة والسواد.. وهذا يعني أن العلم لا يخلق بذاته المزيد من المعضلات - كونها موجودة منذ الأزل - بل يكشفها من خلال اتساعه وارتفاع مستوى معارفنا واحتكاكنا بالمجهول واللامعروف..

.. المدهش أن هذه الظاهرة (ارتفاع نسبة الجهل بارتفاع نسبة العلم) عبر عنها الإمام الشافعي قبل أنشتاين بعدة قرون حين قال:

كلما أدبني الدهر أراني نقصَ عقلي

وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي

وكان الباحثان دايفيد داننج، وجاستن كروجر من جامعة كورنيل قد أثبتا بالأرقام والرسوم البيانية أن جميع الناس يعرفون أقل مما يعرفون فعلا - ولكن معظمهم يرفض الاعتراف بهذه الحقيقة..

وسبب هذا الغرور (في تصوري) أن لكل منا حصيلة معرفية تعد بمثابة نقطة ضوء خاصة به وحده.. وحين يراها كاملة يتملكه شعور بالاطلاع على كل شيء وفهم كل شيء فيرضى بحالة - دون أن يتخيل أصلا مساحة الظلام المحيطة به..

مثل هذا الغرور المعرفي تلاحظه لدى أصحاب الثقافات الوحيدة (ممن ولدوا وشاخوا داخل بقعة ضوء خاصة بهم) فتتملكهم ثقة كبيرة بالعلم والمعرفة ويرفضون (بمرور العمر) توسيع دائرتهم الخاصة أو تقبل فكرة وجود دوائر مضيئة أخرى!

... مشكلتنا الحقيقية لا تأتي من العقول العظيمة مثل أنشتاين والإمام الشافعي (فهم أدرى الناس بمساحة جهلهم) بل من العقول الساذجة التي تعتقد أنها تعرف كل شيء دون أن تدرك جهلها بكل شيء - وبالتالي لا تختلف عن اللص أعلاه!

ابحث عن خلطتك السرية


في عام 1886 ابتكر الصيدلي جون بمبرتون مشروباً غازياً لذيذاً نعرفه اليوم باسم "كوكا كولا".. حضره في الأصل كمشروب منشط وخاص بعسر الهضم دون أن يبوح بمكوناته الرئيسية. حاول عدد من الصيادلة تقليده إلا أنهم فشلوا واستمر الناس في الإقبال على صيدليته فقط.. وبفضل المبيعات الكبيرة تم تأسيس شركة كوكاكولا التي احتفظت (حتى يومنا هذا) بسرية الوصفة التي ابتكرها بمبرتون رغم معرفتنا بمكوناتها الرئيسية وأن نبتة "الكوكا" المخدرة أزيلت منها عام 1903...

... وكان أقرب منافسي بمبرتون صيدلي من نورث كارولينا يدعى كاليب برادهام أعلن بعد اثني عشر عاماً عن تحضير مشروب مشابه نعرفه اليوم باسم "بيبسي كولا" دون أن يبيح بدوره عن وصفته الحقيقية رغم اختلافها منذ البداية عن مشروب الكوكاكولا بإضافة مادة الكافيين...

... أيضاً هناك مطاعم كنتاكي التي اشتهرت بخلطتها السرية وتميزها على تسعة ملايين مطعم مماثل في أميركا.. وهي بدورها "خلطة سرية" رغم علمنا بأنها مكونة من 11 نوعاً من التوابل والبهارات كتبها الكولونيل المتقاعد هارلاند ساندورز بقلم رصاص على ورقة صفراء (تقبع اليوم في قبو حصين أسفل مقر الشركة الرئيسي في مدينة لويسفيل في ولاية كنتاكي)...

... حتى مطاعم ماكدونالد لبيع الهامبرجر تملك 17 وصفة سرية لصلصات وإضافات محضرة بطريقة تداعب مراكز التذوق في الفم واللسان.

وهي تصل من أميركا إلى 18000 مطعم حول العالم دون أن يعرف سرها حتى العاملون في المطاعم نفسها.. ورغم تخمين مكوناتها الأساسية يبقى السر في نسب الإضافة وطريقة التحضير ومستوى التغيرات التي تنتهي بظهور نكهات تضمن إقبال الناس عليها!!

... وفي حين يمكن تطبيق مبدأ "الخلطة السرية" على المشروبات والصناعات الغذائية (وأيضاً العطور الفرنسية) يصعب فعل ذلك في عالم الصناعة والتكنولوجيا والابتكارات الجديدة.. فالأجهزة والتقنيات الحديثة فيزيائية مادية يمكن تفكيكها وإعادة تقليدها، في حين تتداخل مكونات الطعام والشراب على مستوى الجزيئات ويصعب فصلها أو عكسها "كيميائياً" .. لهذا السبب يسهل مثلاً تقليد الساعات والأجهزة والهواتف الذكية في شرق آسيا، في حين لا يمكن لأحد تقليد منتجات كنتاكي أو بيتزاهت أو ماكدونالد التي تملك نفس الطعم والنكهة حول العالم..

لهذا السبب يتم حماية الابتكارات المادية ببراءات اختراع تمنع تقليدها (أو هكذا يفترض) أو تصنيعها لمدة عشرين عاماً (تدعى فترة الحماية)..

وخلال هذه الفترة يحقق صاحب الاختراع أرباحاً طائلة في حال نجح تجارياً كونه اللاعب الوحيد في السوق والمتحكم الأساسي في سعر السلعة (في حين يهبط السعر بنسبة كبيرة بعد انتهاء فترة الحماية ودخول عدد كبير من المصنعين الذين لا يتحملون تكاليف البحث والتطوير)!!

.. ورغم أن جميع هذه المعلومات (عن براءات الاختراع، والخلطات السرية) مفيدة للبدء بمشروع جديد، إلا أنني في الحقيقة بدأت المقال بنية "تطوير الذات" والحديث عن ضرورة امتلاك كل إنسان "خلطة سرية" خاصة به تمنحه التميز لأطول فترة ممكنه في الحياة..

ولأنني لست مسؤولاً عن ابتكار خلطتك السرية أرجو أن تخترعها بنفسك وتوجهها لأي هدف يناسب متطلباتك سواء لبدء مشروعك الخاص أو علاقتك بالناس أو التخطيط لتقاعدك المبكر.. لا تستسلم للأفكار التقليدية أو تتبع النصائح المكررة (ليس لأنها سيئة بالضرورة) بل لأن آلاف الناس جربوها قبلك وأصبحت مثل المنتج الذي انتهت براءة اختراعه وأصبح مزدحماً ومتاحاً لمن "هب ودب"!

.. إن لم تفهم قصدي فكر بمحل "كنتاكي".

دول بلا حدود


الحدود السياسية من العلامات السيادية لأي دولة.. غير أن مستوى حراستها بين الدول قد يرتفع أو ينخفض تبعاًَ لأسباب سياسية واقتصادية وأيدلوجية وأمنية مختلفة.. فالحدود بين كوريا الشمالية والجنوبية مثلاً تعد الأكثر حراسة في العالم لأسباب أيدلوجية بحته -لدرجة توجد مساحة عازلة كبيرة بين الطرفين تمتلئ بشتى أنواع الألغام.. وفي المقابل قد تنعدم كافة الفوارق بين الدولتين لدرجة فتح الحدود بشكل كامل (كالحدود الفاصلة بين فيتنام وكمبوديا أو أمريكا وكندا التي تعد أطول حدود غير محروسة في العالم).

وحين أعود إلى تجاربي في هذا المجال أتذكر أنني زرت دولاً لم أفكر بزيارتها أصلاً لمجرد أن حدودها كانت مفتوحة أمامي.. فقد دخلت مثلا كمبوديا من تايلند، والبارجواي من البرازيل، وفنلندا من السويد -قبل فيزا شنجن- لمجرد أنني وجدت أمامي حدوداً مفتوحة لا تتطلب فيزا مسبقة.

ورغم أننا تعلمنا في المدارس أن كل العرب إخوة في الدين والدم واللغة والتاريخ؛ ولكن الحقيقة هي أن الحدود السياسية بين الدول العربية لم تكن يوماً مفتوحة بقدر الدول الأوروبية التي خاضت حربين عالميتين وتملك لغات وعرقيات يصعب حصرها.. فاليوم يمكنك التنقل في الاتحاد الأوروبي دون المرور بأي حدود أو معابر أو مراكز تفتيش -خصوصا بعد ظهور العملة الموحدة "اليورو" والفيزا المشتركة "شنجن".. وفي حين يزداد العالم العربي تفتتاً وانقساماً، يسير الاتحاد الأوروبي بخطى ثابتة نحو الاندماج في دولة عظمى موحدة تدعى "الولايات المتحدة الأوروبية".

ولأنني لست رجلاً حالماً لا أعتقد أن دولنا العربية وصلت لمستوى يسمح بفتح حدودها بشكل كامل -ناهيك عن اتحادها تحت مظلة سياسية واحدة.. فكي تفتح الحدود مع أي دولة مجاورة يجب أن يتساوى الشعبان (أولاً) في المستوى الاقتصادي، وتتمتع الدولتان (ثانياً) بالسلم والاستقرار السياسي، وأن يتناسى الجميع (ثالثاً) أي تاريخ دموي أو صراع ديني حصل في الماضي كما فعلت أوروبا التي طوت بسرعة صفحتي الحربين العالميتين.

ورغم أنني أتفهم سبب عدم فتح حدودنا -هذه الأيام- مع سورية والعراق واليمن، أتساءل عن سبب عدم فتحها -بشكل كامل- بين دول خليجية متساوية اقتصادياً، ومتماثلة اجتماعياً، ومتوافقة سياسياً.. يخطر ببالي هذا التساؤل كلما شاهدت مظاهر الازدحام فوق جسر البحرين أو طوابير المسافرين في المطارات تحت لوحة "دول مجلس التعاون الخليجي".. ماذا سيحدث لو أصبح سفرنا إلى البحرين والكويت والإمارات وعمان بسهولة سفرنا إلى القصيم وعرعر وجازان وتبوك؟

ماذا سيحدث في حال دخل مواطنو هذه الدول إلى السعودية دون المرور بأي إجراءات رسمية؟

.. صدقوني لن يحدث شيء -خصوصا بوجود اتفاقيات أمنية وجمركية موحدة- وسرعان ما نكتشف أننا لم نكن بحاجة لكل هذا الجهد والهدر في الوقت والمال وجمع بيانات المسافرين من كلتا الجهتين.

قوقعة الخرافة


أسباب كثيرة تدفعنا الى "إغلاق أدمغتنا" وعدم رؤية الحقائق والوقائع التي يمكن لحواسنا الخمس إدراكها!

خرافات موروثة كثيرة تجعلنا متمسكين بالتفكير الفلكلوري والأسطوري مهما نلنا من شهادات عليا وتخصصات أكاديمية محترمة.

ضغوط اجتماعية كثيرة تدفع عقولنا الى حشد طاقتها لتكذيب الآراء المعارضة بدل حشدها للتفكير بطريقة محايدة!

سطحية التفكير تجعلنا نرجح دائماً كفة القصص الفلكلورية والأفكار المتوارثة على الحقائق الملموسة والوقائع المشاهدة!

وكي لا ينهار بناؤنا الذاتي - والأفكار التي تبنيناها منذ الصغر - نستميت لتأكيدها والترويج لها (رغم شكوكنا الداخلية حيالها) أكثر من سعينا لنقدها أو مراجعتها أو الحد من انتشارها!

.. وهذه كلها مجرد نماذج على عيوب العقل البشري وعدم قدرتنا على التفكير بشكل سليم ومنطقي ومستقل عن تربيتنا والبيئة التي نشأنا فيها!

وهذه العيوب قد لا تكون واضحة بالنسبة إليك (كونك ولدت داخل الأسطورة) ولكنها تكون واضحة بجلاء لمن ولد خارجها ويحكم عليها بطريقة مجردة او من خلال ثقافة مختلفة.. وفي المقابل؛ حتى أنا وأنت؛ حين نطلع على خرافات الشعوب الأخرى نشعر أننا محصنون ضد موروثاتها الغريبة ومعتقداتها الساذجة (ونراها على حقيقتها لأننا ببساطة لم ننشأ داخلها ولم نتربّ مثل أتباعها على إغلاق عقولنا حيالها)!

.. وحين أتأمل شخصياً شعوب العالم أجدها قد تزيد أو تنقص في سلم الخرافات والأساطير - ولكن أي منها لا يسلم من تبنيها بنسب مختلفة.. فقد تكون نسبة الخرافات في اليابان أقل منها في نيجيريا، وقد تكون نسبة الأساطير في البيرو أكثر منها في روسيا، وقد تكون نسبة التصديق بالسحر في فرنسا أقل منها في أندونيسيا - ولكن الجميع يملكون نصيبهم الخاص من لوثة العقل وتغييب المنطق!!

.. الانسان بدون شك ليس مخلوقاً "عاقلا" بل مخلوق "مؤمن" يصعب فصله عما تبناه ونشأ عليه.. ولهذا السبب يتمتع جميعنا بعقلين مختلفين ومسارين منفصلين في التفكير والاستنتاج وتبني النتائج.. العقل الأول مؤمن (تغلب عليه العاطفة والولاء للموروث ومسايرة المجتمع)، والثاني عقل ناقد (يغلب عليه التفكير المنطقي والاستنتاج العقلاني والحكم المجرد).. وهذه العقلية المزدوجة تجدها في كافة المجتمعات بحيث يجتمع في ذات المواطن العلم والثقافة والشهادات الاكاديمية، مع التصديق بخرافات وخزعبلات لا تصح بالعقل ولا تجوز بالمنطق - ناهيك عن عدم وجودها أصلا على أرض الواقع.. وحالة مزدوجة كهذه لا يدركها غير شخص خرج بجهده الخاص من قوقعة المجتمع، أو غريب نشأ في بيئة مختلفة يحكم على أفكارك بشكل سليم ومحايد!

.. الإنسان بكل بساطة ابن بيئته، وحارس معتقداته، ويتشرب منذ طفولته التصورات السائدة حوله.. وحين يكبر لا يتبناها فقط بل ويستميت في الدفاع عنها وتقديمها على أي تفكير منطقي أو تحليل مجرد، ولهذا السبب يستحيل إقناع رجل مؤمن بأي نقاشات منطقية أو براهين خارجية أو حتى دلائل حسية.

والمحظوظ وحده من ينجح بنفسه - وبمجهوده الذاتي - في كسر قوقعة الخرافة فيرتفع فوق الجميع ويرى الجميع بمنظار لم يصنعه رجل آخر!

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...