الخميس، 12 ديسمبر 2019

بقعة أنشتاين


كما أن الظلام هو الأصل والنور هو الحالة الطارئة.. وكما أن الزمهرير هو الأصل والدفء هو الحالة المصطنعة.. فالجهل أيضا هو الأصل، والمعرفة هي الحالة الاستثنائية.. الغرور هو الأصل، والاعتراف بالنقص هو طريق المعرفة والحل الناجح..

أذكر أنني قرأت عن لص غبي حاول سرقة بنك في أميركا ولكن الحراس تمكنوا من التغلب عليه وتسليمه للشرطة.. نجحوا في ذلك لأنه كان يغطي وجهه بعصير الليمون الذي تسرب لعينيه فلم يعد يرى شيئا؛ فقد سمع أن عصير الليمون يستعمل كحبر خفي فاعتقد أنه بهذه الطريقة سيصبح خفياً على كاميرات البنك!

المشكلة هنا ليست في جهل اللص بكيفية عمل الكاميرات والأحبار الخفية (فمعظمنا لا يعرف ذلك أيضا) بل في أنه كان جاهلا بحقيقة أنه جاهل (وهذا هو موضوعنا اليوم)!

.. ذات يوم بعث الكاتب الساخر برنارد شو برسالة الى عالم الفيزياء ألبرت أنشتاين ادعى فيها أن العلم زاد حياتنا تعقيدا كونه حين يحل مشكلة يخلق مقابلها عشر مشكلات جديدة.. رد عليه أنشتاين برسالة لم ينكر فيها هذه الحقيقة ولكنه قال - مامعناه - إن العلم بمثابة بقعة ضوء صغيرة مسلطة على مساحة لانهائية من ظلام موجود أصلا (والظلام كناية عن الجهل).. وكلما كبرت بقعة الضوء كبر محيطها وكشف عن قدر أكبر من الظلمة والسواد.. وهذا يعني أن العلم لا يخلق بذاته المزيد من المعضلات - كونها موجودة منذ الأزل - بل يكشفها من خلال اتساعه وارتفاع مستوى معارفنا واحتكاكنا بالمجهول واللامعروف..

.. المدهش أن هذه الظاهرة (ارتفاع نسبة الجهل بارتفاع نسبة العلم) عبر عنها الإمام الشافعي قبل أنشتاين بعدة قرون حين قال:

كلما أدبني الدهر أراني نقصَ عقلي

وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي

وكان الباحثان دايفيد داننج، وجاستن كروجر من جامعة كورنيل قد أثبتا بالأرقام والرسوم البيانية أن جميع الناس يعرفون أقل مما يعرفون فعلا - ولكن معظمهم يرفض الاعتراف بهذه الحقيقة..

وسبب هذا الغرور (في تصوري) أن لكل منا حصيلة معرفية تعد بمثابة نقطة ضوء خاصة به وحده.. وحين يراها كاملة يتملكه شعور بالاطلاع على كل شيء وفهم كل شيء فيرضى بحالة - دون أن يتخيل أصلا مساحة الظلام المحيطة به..

مثل هذا الغرور المعرفي تلاحظه لدى أصحاب الثقافات الوحيدة (ممن ولدوا وشاخوا داخل بقعة ضوء خاصة بهم) فتتملكهم ثقة كبيرة بالعلم والمعرفة ويرفضون (بمرور العمر) توسيع دائرتهم الخاصة أو تقبل فكرة وجود دوائر مضيئة أخرى!

... مشكلتنا الحقيقية لا تأتي من العقول العظيمة مثل أنشتاين والإمام الشافعي (فهم أدرى الناس بمساحة جهلهم) بل من العقول الساذجة التي تعتقد أنها تعرف كل شيء دون أن تدرك جهلها بكل شيء - وبالتالي لا تختلف عن اللص أعلاه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...