الخميس، 12 ديسمبر 2019

رباعيات الخيام


صحيح أنني أحب أديسون وباستير، وصحيح أنني معجب بأنشتاين وستيف جوبز.. ولكن لا يمكن مقارنتهم بعظماء شاملين ومتعددي المواهب مثل عمر الخيام أو ليونارد دفنشي..

فليونارد دفنشي كان فكليا وطبيبا وعالما وفنانا ومخترعا ورساما (هو من رسم الموناليزا).. حين دعاه ملك فرنسا من إيطاليا جلس معه بالساعات حتى دخل عليه الحاجب ليخبره أن نبلاء فرنسا بدؤوا يتذمرون من طول انتظارهم عند بابه، فقال بحدة: اسمع يا هذا؛ أنا من يصنع نبلاء فرنسا ويخفضهم، أما دفنشي فالله وحده قادر على صنعه.. اغرب عن وجهي حتى نهاية اليوم.

أما عمر الخيام فعالم رياضيات وفيلسوف وباحث وشاعر (غنت له أم كلثوم رباعيات الخيام).. وأول مرة أسمع عنه ليس من خلال أغنية أم كلثوم بل من خلال فيلم بريطاني يقول فيه رجل لزوجته الحزينة: هل أقرأ لك شيئا من رباعيات عمر الخيام لعلها تسعدك قليلا؟

لم أستطع نسيان هذا الاقتراح كوني تنبهت لأول مرة لوجود اسم عربي في فيلم انجليزي.

أما اسمه الكامل فهو غياث أبو الفتوح بن عمر الخيام.. ولد عام 1048م في نيسابور (في إيران) لأب عربي اشتهر بصنع الخيام.. أبدى نبوغا منذ طفولته وأبدع في الرياضيات، والفلك، واللغة، والفقه، والفلسفة.. وهو أول من اخترع حساب المثلثات وكتب معادلات الدرجة الثالثة ووضع رمز اللاشيء (المعروف في الرياضيات بالمجهول X) ومايزال المرصد الذي بناه في أصفهان موجودا حتى الآن!!

والأجمل من هذا أنه كان فيلسوفا شاعرا اشتهر بوضع رباعياته التي أصبحت إرثا عالميا بفضل جمالها وحكمتها وفلسفتها العميقة (وأيضا ترجمتها من الفارسية لأكثر من مئة لغة عالمية).. وسميت بالرباعيات لأنه لم يكن يكتبها كقصائد كاملة بل كان يضيفها بشكل أربعة أبيات كلما خطر على باله شيء منها.. وأوّل ترجمة أجنبية كانت للغة الانجليزية قام بها المستشرق فيتز جيرالد عام 1859 أحدثت انقلاباً في تجديد الشعر الأوروبي.. أما الترجمة العربية فظهرت لاحقا من خلال الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي ولكنها لم تحقق شهرة واسعة كالتي حققتها ترجمة الشاعر المصري أحمد رامي (خصوصا بعد أن تغنت بها أم كلثوم عام 1949).

وفي حين يصف البعض عمر الخيام بالحكمة والتدين، يصفه البعض الآخر بالمجون والإلحاد.. ولكن الرجل في نظري كان (تجربة إنسانية) بدأت باندفاع الشباب قبل أن يسكن للتأمل والتساؤل، وينتهي بالإيمان واليقين.. تدرك أنه كان يبحث عن الحقيقة (ليس فقط من خلال مقارنة رباعياته بمراحله العمرية) بل وأيضا من خلال ترجمة أحمد رامي الذي بدأها بقوله:

سمعت صوتا هاتفا في السحر

نادى من الغيب غفاة البشر

هبوا املؤوا كأس المنى

قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر

فما أطال النوم عمرا

ولا قصر بالأعمار طول السهر

وعيشنا طيف خيال

فنل حظك منه قبل فوت الأوان

وهي أبيات توحي باندفاع الشباب والحرص على اغتنام ربيع العمر قبل أن يدخل في مرحلة التساؤل والبحث عن الحقيقة حيث يقول:

لبست ثوب العيش لم أستشر

وحرت فيه بين شتى الفكر

وسوف أنضو الثوب عني

لماذا جئت أين المفر

القلب قد أضناه عشق الجمال

والصدر قد ضاق بما لا يقال

يارب هل يرضيك هذا الظمأ

والماء ينساب أمامي زلال

ثم تأتي مرحلة العودة واليقين حين يقول في رباعيته الأخيرة:

يا من يحار الفهم في قدرتك

وتطلب النفس حمى طاعتك

أسكرني الإثم ولكنني

صحوت بالآمال فى رحمتك

إن لم أكن أخلصت في طاعتك

فإنني أطمع في مغفرتك

وإنما يشفع لي أنني

قد عشت لا أشرك في وحدتك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...