الخميس، 12 ديسمبر 2019

فلسفة البحث عن الفلسفة


بين العلم والتخمين، تقف الفلسفة حائرة بين الاثنين...

فالفلسفة تعني "حب الحكمة" ومنها تفرعت كل العلوم.. تهتم بطرح التساؤلات والبحث عن المعرفة فتصل لمستوى العلم الراسخ أحياناً، وتتبني أحياناً أخرى أجوبة ساذجة بمقاييس عصرنا الحديث..

لا يمكن تحديد فترة لظهورها (حسب رأيي) كونها بدأت منذ بدأ الإنسان التساؤل والتأمل فيما حوله.. فهي طريقة في التفكير ومحاولة للفهم اعتماداً على الملاحظة والتأمل والمنطق دون امتلاك أدوات التجربة والتأكد من الجواب.. لا يمكن اتهام الفلسفة ذاتها بشيء حسن أو سيئ كونها ليست علماً أو أيدلوجيا أو تشريعاً، بل مفهوم يعتمد على التساؤل والبحث فيما يشغل بال الإنسان..

ساهمت (في الماضي) في ارتقاء البشرية فوق الخرافات والأساطير، ولكنها لم تصل لمستوى العلم (في الحاضر) حيث التجربة وصياغة القوانين والنظريات والتأكد من الإجابات..

ولهذا السبب قد تجد آراء ساذجة لفلاسفة كبار ظهرت قبل اعتماد المنهج التجريبي.. فسقراط مثلاً ادعى أن وظيفة الدماغ الأساسية هي تبريد الدم، في حين خالفه ابن سينا الذي قال إن الرئتين هما المسئولتان عن ذلك بدليل دخول الهواء بارداً وخروجه ساخناً (ولاحظ هنا أنهما اعتمدا على ملاحظتين معقولتين ولكن صعوبة التحقق من الفرضية أوقعتهما في الخطأ)!!

وفي الحقيقة؛ حتى السؤال عن ماهية الفلسفة يعد بحد ذاته سؤالاً فلسفيّاً قابلاً للنقاش.. وهذا ليس عيباً كون النقاش في أي موضوع يُشكِّل أحد المظاهر الأساسية للفلسفة الميالة للبحث والتساؤل.. وحتى اليوم توصف الفلسفة بأنها "التفكير في التفكير".. كما تعرف بأنها محاولة الإجابة عن الأسئلة الأساسية التي تحيط بوجودنا وذواتنا (مثل الهدف من وجودنا؟ وماهي الحكمة من قهر الضعفاء أو موت الأطفال في سن الرضاعة؟)..

ويمكن القول إن الإغريق هم الذين أسّسوا قواعد الفلسفة كمحاولة سليمة في التفكير.. صحيح أنهم أخطئوا في كثير من الاستنتاجات؛ ولكنهم ابتعدوا قدر الإمكان عن تأثير الثقافة والدين وسلطة الموروث التي لم تسلم منها معظم الثقافات الشرقية..

وكان فيثاغورس الأغريقي أول من وصف نفسه (قبل 2520 عاماً) بأنه فيلسوف وعرَّف الفلاسفة بأنهم الباحثون عن الحقيقة من خلال التأمل والتفكير السليم.. وعبر التاريخ انفصل مفهوم العلم تدريجياً عن مفهوم الفلسفة.. فالعلم يجيب على التساؤلات بطرح الفرضيات ثم التأكد منها بالتجربة والقياس والبرهان المحسوس، في حين اعتمدت الفلسفة طوال تاريخها على التفكير والتأمل والقياس المنطقي (ولكن حتى القياس المنطقي قد يخدعنا أحياناً فيخبرنا مثلاً أن الأرض مسطحة، أو أن الجسم الأثقل يسقط بسرعة أكبر.. وهي استنتاجات لا يمكن حسمها بغير البرهان والتجربة)!!

.. ولأن الفلسفة تعتمد على الحواس والمحاكاة ولا تسلم من تأثير ثقافتها المحلية تفرعت في مجالات واتجاهات عديدة بحيث ظهرت فلسفات يونانية وإسلامية وشرقية وغربية وقديمة وحديثة وإنسانية ووجودية واجتماعية.

وحتى يومنا هذا لا يمكن القول إن الفلسفة ستتوقف عن التفرع أو تصل إلى جواب نهائي لأي شيء (بعكس العلم الذي قد يثبت عند حقائق مؤكدة لا يختلف عليها أحد).. فهي محاولة بحث دائمة في كل المجالات وقابلة للتطور بحسب التطور البشري والمعرفي وظهور أدوات استقراء جديدة.

.. باختصار شديد؛ يبقى مفهوم الفلسفة قائماً حتى تتوقف عقولنا عن التفكير، أو نعثر على جواب نهائي للمعضلات الكبرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...