الخميس، 12 ديسمبر 2019

نحتاج إلى قوانين صارمة للحد من النفايات العضوية


في منتصف الثمانينيات مررتُ بتجربة أكدت لي أننا شعب لا يقدر حاجته من الطعام.. كنت في معهد اللغة حيث أتناول طعامي مع طلبة جامعة منسوتا.. أتذكر جيدا أول يوم دخلت فيه المطعم وكيف سخرت من حجم الطبق الفارغ (الذي يشبه طبق الطائرة) وكنت أقول لنفسي يبدو أنني سأعود لملئه مرتين وثلاثة.. ولكنني في الحقيقة لم أعد لملئه لأي مرة طوال الستة أشهر التي قضيتها في المعهد.. في الأيام الأولى كنت أقنع نفسي بأن الغربة أثرت في شهيتي للطعام ولكنني سرعان ما اكتشفت أن حجم الطبق مصمم بحسب حاجة الانسان وما يتسع لمعدته فقط (التي لا يتجاوز حجمها قبضتي يد الانسان نفسه).

اكتشفت من يومها أننا تربينا على أن شعورنا بالشبع لا يأتي من اكتفائنا الفعلي، بل من حجم الطبق الذي يوضع أمامنا (بحيث يملأ العين والبصر) ثم نترك ثلاثة أرباعه خلفنا.. انظر الى حفلاتنا وزواجاتنا ومطابخنا؛ ثم خمن معي كم يزيد منها.. الربع، الثلث، النصف، ثلاثة أرباعها.. هذه النسب المهولة تجعلني على قناعة بأن "السعودية" يمكنها العيش بربع أو ثلث الأطعمة التي تستوردها حاليا (لو أحسنا النعمة فعلا)!

مشكلتنا الحقيقية أن الإسراف لدينا أصبح ثقافة اجتماعية والكرم منافسة غذائية.. لا يمكننا تنظيم أي حفلة (أو عزيمة) دون خلق جبال من الأرز وإزهاق عدد كبير من المواشي.. نشاهد صورا لأطباق حاتمية (بحجم المسبح) مقابل صور أخرى لرؤساء دول يتناولون سندويتش هامبرجر في ماكدونالدز.

اسأل أي مبتعث سعودي (في أي دولة) ستكتشف أنه يملك مشكلة في تصنيف نفاياته العضوية أو خفضها إلى الحد الأدنى المسموح به للفرد والعائلة.. أخبرني أحد المبتعثين أنه أنزل في أول يوم أربعة أكياس زبالة ثم فوجئ في اليوم التالي بوجود ثلاثة منها.. وحين سأل سكان المبنى أخبروه أن المسموح لكل عائلة كيس واحد فقط - وهذا ما استحال عليهم فعله طوال ثلاث سنوات على حد قوله.

وحين كنت في اليابان لاحظت قبل الشقيري عدم وجود روائح للنفايات بسبب عدم وجود بقايا عضوية أو أطعمة متحللة داخلها.. أخبرني أحد المبتعثين هناك أنهم لا يأكلون اللحوم والأسماك سوى يوم الاثنين لأن سيارة النفايات العضوية لا تمر على البيوت سوى مرة في الاسبوع وبالتالي كل من يخاطر بتناول اللحوم بعد يوم الاثنين سيبقى الفائض في منزله للأسبوع القادم.

وكل هذا بالطبع يختلف جذريا عما يحدث في مجتمعنا المحلي حيث المهدر أكثر مما يؤكل، وما يرمى أكثر مما يُحفظ، وما نلتهمه في رمضان (شهر الزهد والحرمان) يعادل شهور العام.

وما يقلقني أكثر أننا نهدر طعاماً لا نزرعه، ونسرف في نعيم لا ننتجه، ولولا العمالة المستوردة لغرقنا في نفاياتنا خلال ثلاثة أيام.. لا ندرك خطورة عيشنا في منطقة جافة وغير صالحة للزراعة وحقيقة أننا نستورد طعاما من شعوب لا تتردد في وقف تصديره لنا.

المحير فعلا أننا أكثر شعب في العالم يملك نصوصا شرعية وعِبراً محكية تنهى عن الإسراف وتحث على الزهد وتحذر من نتائج الهدر.. وأعتقد شخصيا أننا نحتاج الى وضع قوانين صارمة للحد من النفايات العضوية والأطعمة المهدرة (مثلنا مثل بقية العالم المتحضر).. نحتاج إلى إعادة تعريف للكرم وقراءة جديدة لسيرة حاتم الطائي (لعلنا نكتشف أنه لم يكن رجلا مسرفا بل كريما بأخلاقه وحسن استقباله واحترام ضيفه بصرف النظر عن أصله وفصله).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...