الاثنين، 9 ديسمبر 2019

لماذا يضطر بعض فقهائنا لتغيير آرائهم؟


الفقية الذي يغير رأيه حين يتضح له الحق يستحق الاحترام والتقدير.. فالعلماء والفقهاء في النهاية بشر - وليسوا أنبياء معصومين - والصحابة والتابعون تراجعوا عن فتاوى كثيرة حين تبين لهم الحق.. ففي أكثر من مسألة اختلف عمر مع علي فيعود عمر لرأي علي أمام الناس.. أما مالك فقال كلمة تعادل نصف الفقة: "كل كلام الرجال يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر".. كما تراجع الشافعي عن بعض فتاويه في العراق حين استقر في مصر.. أما الإمام أحمد ابن حنبل فترك فتاوى لكبار الصحابة بعدما اطلع على أحاديث صحيحة تخالفها (مثل عدم أخذه بفتوى عمر في المبتوتة بعدما صح لديه حديث فاطمة بنت قيس: ان الرسول لم يجعل لها نفقة ولا سكنى وهي مبتوتة).

إذاً؛ العيب ليس في تغيير الرأي حين يتبين الحق، بل في تغييره بعدما يتفق مع الحق (بسبب الضغط أو مسايرة التيار السائد حول الفقيه) فخلال العشرين عاماً الماضية فقط عرفت تراجعات عن فتاوى كثيرة (ليس بسبب تبين الحق) بل بسبب ضغوط تعرض لها بعض المشايخ من التيار المحافظ حولهم.

خذ كمثال الضغوط التي تعرض لها الشيخ الألباني حين أجاز كشف وجه المرأة، وتراجع الكلباني عن فتواه بعدم وجود أدلة تحرم الغناء، والتشكيك بدوافع الشيخ العمري حين اعترف (بعد سنوات طويلة من أخذ أموال الناس بدعوى التلبس) بعدم إمكانية دخول الجن في الإنسان، وتراجعَ آخرون عن تحليل اكتتاب ما... الخ.

أما الأسوأ من ضغوط التيار المحافظ فصمت (بعض المشايخ) حيال مسائل يعرفون أن الأصل فيها الإباحة، أو أنها تتضمن مدارس وآراء فقهية تُيسر على المجتمع.. يصمتون لأنهم يدركون عواقب مخالفة السائد وما يتبعه من أذية الأتباع وتطاول العوام (وما قضية الشيخ الغامدي عنا ببعيد).

وفي المقابل يصبح مرضياً عليه من يساير التيار المتشدد أو يزايد عليه مستعيناً بكل ما أوتي من فصاحة لغوية وسعة معرفية تسمح له بتقديم واصطفاء ما يؤيد رأيه - واختيار ما يشاء من أدلة وشواهد - ولكن دون إخبارنا فعلاً بما قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم.. خذ كمثال مسألة النقاب حيث تُقدم دائماً الآراء المتوافقة مع ثقافتنا المحلية وأعرافنا الاجتماعية دون إخبار الناس بأحاديث صحيحة تؤكد جواز كشف الوجة (مثل حديث أسماء، وسعفاء الخدين، والفضل ابن العباس، وضرورة كشف وجهها في الصلاة والإحرام)!

والعجيب أن من يقدم فتاويه بهذه الطريقة يكون في الغالب أدرى الناس بوجود الأحاديث الصحيحة والنصوص القاطعة، ولكنه للأسف يخفيها أو يضعفها أو يقدم عليها آراء فقهية فضفاضة يظنها الناس دليلاً ملزماً.. يخبرك مثلاً بأن المقصود بلهو الحديث في سورة لقمان هو الغناء، ويتجاهل تفسيرات أخرى أعم وأشمل تقول بأن لهو الحديث هو كل ما يلهي عن ذكر الله سواء كان غناء أو شعراً أو ندوة ومحاضرة/ وبوجود شرط مسبق هو: ليضل عن سبيل الله.. (وبطبيعة الحال ستخاطر بإخراجك من الملة تماماً لو أجزت الغناء في المساجد مستشهداً بسماح الرسول الكريم- عليه الصلاة والسلام - للأحباش بفعل ذلك في مسجده بالمدينة حيث كانت عائشة تنظر من فوق كتفه الكريم)!!

أيها السادة:

حين شاركت في مؤتمر التطرف (الذي أقامه مركز الملك عبدالعزيز في المدينة المنورة) ذكرت أحد عشر سبباً لظهور التطرف في مجتمعنا كان من بينها:

سكوت العلماء المعتدلين، وتحرجهم من مخالفة التيار الفقهي السائد، وتقصيرهم في تصحيح الآراء والفتاوى المتشددة!

وفي الجلسة الثانية ذكرت مجموعة حلول كان من بينها:

عدم التمسك بتيار فقهي واحد وتشجيع التعددية والعودة للمدارس الفقية السائدة سابقاً في كل منطقة.

والآن؛ يمكنك انتقادي بقولك "من تحدث في غير فنه أتى بالعجائب" ولكن تجاهل موضوعنا الأساسي سيواجهك قريباً بأحد رجلين:

إما مساير للتشدد سرعان ما يتحول الى متطرف أو داعية للإرهاب.

أو يائس فقد الثقة بالجميع وضاق بكل الآراء المتشددة فيصبح أقرب للإلحاد وخلع عباءة الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...