الاثنين، 9 ديسمبر 2019

لصوص المجالس


لأن أصدقائي في "الرياض" أكثر من "المدينة" لم أعد أخبرهم بأوقات تواجدي فيها خشية دعواتهم الكريمة.. غير أن هناك صديقاً يعلم دائماً متى أحضر للرياض ولا أعرف كيف فيتواصل معي ويصر على جمع الناس للاستماع إليّ (على حد قوله).. اعتذرت كثيراً ولبيت دعوته كثيراً ولكنه في آخر مرة قال لي بصراحة: "إن ظللت صامتاً لن أدعوك مرة أخرى، فالناس تحضر من أجلك ولكنها تتفاجأ بصمتك".. ابتسمت وقلت: "المكسب معي أبا محمد لأنني حين أصمت أتعلم أنا منهم"...

لم أجامله كثيراً حين قلت له هذا.. فالله منحنا أذنين مقابل لسان واحد كي نستمع أكثر مما نتحدث.. فالحديث شهوة، والاستماع مهارة لا يحسنها معظم الناس.. فكلما استمعت أكثر كلما تعلمت أكثر وفهمت الناس أفضل ومنحت نفسك فرصة اقتباس الأفكار.. أما حين تسعى للاستئثار بالحديث (وسرقة المجلس) فتكون بذلك قد حرمت نفسك من كل هذا ويخرج الناس عنك بانطباع سيئ!!

… وهناك بطبيعة الحال فرق بين الحديث المفيد، والثرثرة لمجرد التباهي وسرقة المجلس..

فالأخيرة لا تكشف العيوب فقط، بل وتحول صاحبها لمهرج لا "يستهضمه" أحد.. فمن يستأثر بالحديث يتحول إما لرجل محبوب (تترك له المجال كي تضحك منه) أو رجل بغيض (كونه يستأثر بالحديث ويحوله إلى حيث يريد)..

ولأنك لا تعلم أي الرجلين أنت كن على ثقة بأن الناس تحب المستمع الجيد وتمنحه ثقتها وتستأمنه على أسرارها أكثر من الإنسان الثرثار بل وتقيمه في النهاية كمتحدث جيد!!!

... يقول ديل كارنيجي في كتابه كيف تؤثر على الناس (وهو من أهم الكتب التي قرأتها في سن مبكرة):

.... حتى أشد الناس جفافاً وغلظة لا يملك إلا أن يلين إزاء مستمع صبور عطوف.. ولكي تصبح محدثاً بارعاً كن أولاً مستمعاً عطوفاً.. اسأل محدثك أسئلة يسر الإجابة عنها.. شجعه على الكلام عن نفسه، وأعماله، وعن مجال تخصصه.. تذكر دائماً أنه يهتم بنفسه ومشكلاته أكثر بمئة ضعف من أي شيء آخر تعرفه.. تذكر دائماً أن حديثه عن ضرسه الذي آلمه البارحة أهم من حديثك عن مجاعة تصيب الصين أو كارثة حدثت بإفريقيا!!

... ويؤكد هذا الأديب الأميركي "وليم ليون فيلبس" الذي كتب مقالة قال فيها:

"عندما كنت في الثامنة من عمري حضر لزيارتنا رجل لم أره سوى مرة واحدة في حياتي ولكنه ترك أثراً عظيماً في نفسي.. كنت حينها

شغوفاً بالقوارب السريعة وما أن أخبرته عمتي بذلك حتى ركز حديثه عن أنواع القوارب وأيها أسرع وأفضل وقدرة على المناورة.. لم يتحدث عن نفسه أو عمله أو اهتماماته الشخصية بل صب حديثه على القوارب حتى ظننته خبيراً فيها.. فلما انصرف سألت عمتي: من هذا الرجل؟ وما سر اهتمامه بالقوارب؟ فأجابتني انه محام من نيويورك يخاف البحر ويكره الصيد ولم يركب قارباً في حياته.. فسألتها لماذا إذاً كان يحدثني عنها؟ فقالت: لأنه فقط رجل لطيف أدرك أنها تهمك أكثر من أي شيء في الدنيا!

... وفي المقابل يعتقد البعض أن التباهي وسرقة المجالس والحديث عن الذات هي ما تجعله نجماً ومحبوباً بين الناس!؟

.. تذكر فقط آخر مرة كرهت فيها إنساناً لهذا السبب...

هذا بالضبط ما أخشاه لو بدأت أنا بالثرثرة والاستئثار بالحديث!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...