الاثنين، 9 ديسمبر 2019

حول العالم في 80 مقالاً


صدر لي مؤخراً كتاب بعنوان "حول العالم في 80 مقالا" جمعت فيه أفضل ما كتبته عن رحلاتي حول العالم.. وقبل دفعه للمطبعة فكرت بكتابة "خاتمة" توازي "المقدمة" وتؤكد أن العالم أصبح صغيراً بالفعل، وأن الكرة الأرضية ستتحول بمرور الأجيال إلى سجن فضائي كبير...

فحتى زمن جدي وجدك كانت المعارف محدودة، ووسائل السفر شبه معدومة، ومعظم البشر يعيشون ويموتون ضمن دائرة لا يزيد قطرها عن ثمانين كلم فقط.. كان بُعد المسافات يجعلهم يعيشون كسجناء داخل جزر برية معزولة من يغادرها لا يعود إليها غالبا إما لبعد المسافة أو لأنه هلك في الطريق.. كان أبناء البلدات المعزولة لا يدركون وجود لغة غير لغتهم، ولا يعلم أتباع الحضارات القديمة بوجود حضارات أخرى على سطح الأرض في حين كان جميع البشر لا يعلمون بوجود أربعين مليون نسمة من "الهنود الحمر" في الأمريكيتين..

طوال العشرة آلاف عام الماضية كانت خطوة الحصان أسرع وسيلة للانتقال حتى تغير كل شيء باختراع السيارة ثم القطار ثم الطائرة النفاثة.. السيارات اختصرت المسافات إلى أسابيع، والقطارات إلى أيام، والطائرات إلى ساعات نقضيها في مقعد مريح ومقصورة مكيفة.. واليوم لا تتجاوز أطول رحلة بالطائرة 18 ساعة متصلة (من سنغافورة إلى نيويورك) في حين يمكنك الانتقال أثناء "غفوتك" إلى ثقافات تختلف تماماً عن موطنك (من جزيرة العرب إلى شمال إنجلترا مثلاً)..

وإذا أضفنا للطائرات السريعة تنامي ثقافة السفر والترحال بين الأجيال الجديدة، ندرك أن كوكب الأرض ينكمش بالفعل وأن أطرافه البعيدة أصبحت أقرب من المسافات التي كانت تفصل بين القرى النجدية والواحات الصحراوية.. وكنت شخصياً قد لاحظت خلال حياتي القصيرة ارتفاعاً كبيراً في نسبة السفر بين أفراد الطبقة المتوسطة لدينا وانتقاله من خانة "الكماليات" إلى خانة "الضروريات" حتى لو اضطر البعض للاقتراض.. فحين ذهبت إلى أمريكا لأول مرة عام1986 عجزت عن الاتصال بعائلتي لأربعة أشهر، وحين عدت بعد عامين نشرت والدتي تهنئة في الجريدة.. وحين ذهبت إلى قرية انترلاخن في سويسرا عام1999 لم أشاهد سائحاً خليجياً واحداً واعتقد أهلها أنني ممثل من الهند، وحين زرت تركيا عام2003 كتبت مقالاً عن آثار الرسول في قصر توبكابي تعامل معه القراء كاكتشاف أثري وإسلامي كبير!!!

أما اليوم فأصبحت القنصليات الأمريكية في السعودية تصدر 50 ألف تأشيرة سنوية، وقرية انترلاخن تعلق يافطات باللغة العربية، وشوارع تركيا لا تكاد تخلو من رفرفة العباءة السعودية..

لهذا السبب أعتقد أننا أبناء هذا العصر محظوظون بوجود "البوينج" و"الأيرباص" التي أتاحت لنا الانتقال خلال ساعات لأبعد القارات..

محظوظون بتحول العالم إلى قرية صغيرة وصالة عرض كبيرة بعد أن كان أجدادنا يعتقدون أن أرض الله واسعة وأن السفر قطعة من جهنم..

محظوظون بشهادتنا على تقارب العالم واندماج الثقافات وتحولها إلى وجه عالمي موحد (ليس فقط بفضل البوينج بل وبفضل النت وجوجل ووسائل الاتصال الحديثة)!

ولأن خيارات السفر ستستمر بالارتفاع، ولأن الرحلات المباشرة والمخفضة ستستمر في الظهور؛ سيستمتع أبناؤنا قريباً بإمكانيات يحتكرها اليوم الأغنياء فقط..

فقريباً سيتمكنون من التسوق في باريس، وحضور المباريات في برشلونة، ومطاردة الزرافات في تنزانيا، والتمتع بالسباحة على شواطئ المالديف.. خلال "الويكند" وبعشرين دولارا للتذكرة!!

.. وكل هذا يؤكد أن أرض الله لم تعد واسعة كما كانت زمن أجدادنا، وأنها ستصبح ضيقة وسهلة المنال زمن أحفادنا.. أما في القرن القادم فسيكون المريخ وجهتنا لقضاء شهر العسل، والدوران حول زحل مجرد نزهة لتسلية الأطفال، وزيارة نبتون وبلوتو بمثابة زيارة خاطفة إلى دبي والبحرين هذه الأيام..

على أي حال؛ هذه كانت "خاتمة" ثمانين مقالاً و340 صورة التقطها المؤلف بنفسه وتؤكد أنه.. كان هناك..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...