الخميس، 12 ديسمبر 2019

لماذا أصبحت تراه في كل مكان؟!


اشتريت مؤخراً حذاء رائعا للمشي من ماركة لا أعرفها.. كنت في دبي حين رأيته في واجهة المحل فأدركت (من أول نظرة) أنه الحذاء الذي أبحث عنه منذ زمن طويل.. الطريف أنني أصبحت أراه بعد ذلك في كل مكان .. في الأسواق والفنادق ومحطة الـ MBC .. بل ورأيت عائلة كاملة تلبسه في باص المطار!!

.. هذه الظاهرة مرت بك أنت من قبل .. تذكر معي آخر مرة اشتريت (أو نويت شراء) شيئا ما فأصبحت تراه في كل مكان.. هل تذكر مثلا أول سيارة نويت شراءها في سن الشباب.. هل تذكر كيف أصبحت تراها فجأة في كل مكان وكأن الشوارع أصبحت قاصرة عليها؟!

هذه الظاهرة التي لا أعلم ماذا تسمى أدعوها شخصيا حالة "التنبه المفرط".. فحين ترغب بشيء ما تصبح واعياً لوجوده وتتركز حواسك عليه فقط .. فالأشياء موجودة حولنا دائما ولكننا لا نلاحظ 99% منها كوسيلة للحد من تدفق المعلومات الواردة لأدمغتنا..

عقلنا الواعي لا يحتمل ملاحظة جميع الأشياء والوجوه والأحداث التي تمر بنا خلال اليوم.. وهكذا حين تعود لمنزلك لا تتذكر سوى الأبرز والأغرب.. وربما تتذكر وجهاً أو وجهين لفتا انتباهك في الشارع...

"حذاء المشي" مثلا كان موجودا ومنتشرا في كل مكان ولكنني ببساطة لم ألاحظ وجوده قبل شرائه.. وحين أصبحت متنبها لوجوده بدا لي وكأن الناس لا تلبس غيره.. ونفس الظاهرة تنطبق على أول سيارة اشتريتها في حياتك؛ فقد كانت موجودة دائما ولكنك ببساطة لم تلاحظ وجودها حتى قررت شرائها فأصبحت لا ترى غيرها في الشوارع!!

.. والمشكلة الحقيقية لا تتعلق بملاحظتنا المفرطة للأشياء المادية (كالأحذية والسيارات) بل في ملاحظتنا المفرطة لما يؤيد أفكارنا ومعتقداتنا وآرائنا الشخصية (فقط)..

فكما ترى سيارتك المفضلة في كل مكان؛ سترى أيضا ما يؤيد أفكارك ومعتقداتك في كل مكان.. فإن أخذت مثلا فكرة سلبية عن الإعلام الفضائي سيتولد لديك اهتمام مفرط بملاحظة ما هو سيئ وفاسد فيه فقط (متجاهلا كل البرامج الإخبارية والحوارية والوثائقية المفيدة).. وحين تأخذ فكرة مسبقة عن رجل مفكر أو مثقف (سواء سلبية أو إيجابية) ستتنبه فقط لما يؤيد رأيك فيه.. أحد الصحفيين العرب أخبرني مثلا أن مشكلة الإعلام السعودي (حسب رأيه) تكمن في أنه يحشر الدين في كل صغيرة وكبيرة. وحين سألته عما دعاه لتشكيل هذه الفكرة؛ استشهد بأن كتاب الصحف لدينا نادرا ما تخلو مقالاتهم من نصوص شرعية في قضايا لا تتطلب ذلك بالضرورة .. ابتسمت وأخبرته أن هناك في المقابل من يتهم نفس الكتاب بالعلمانية والتحرر في حين يكمن سر هذه المفارقة في أن كل طرف يلاحظ فقط ما يؤيد وجهة نظره (وينتبه لذلك بطريقة مفرطة ومبالغ فيها)!.

أما الأسوأ من ذلك فهو أن يتحول "التنبه المفرط" إلى وسواس ومقياس لما يجب أن يكون عليه الناس.. خذ كمثال لقاء الاستاذ داود الشريان الشهير مع الموقوف خالد المولد.. تلاحظ أن هذا الأخير تشكل لديه اهتمام مفرط بمسألة القبور وكأن صلاح الكون وتفوق الأمم يعتمد عليها.. بلغ به التركيز على هذه القضية حد تكفير الأمة وإباحة قتل الناس وانتقاص أئمة المذاهب (وجميعها أمور أعظم وأخطر من مسألة دخول قبر الرسول صلى الله عليه وسلم دون قصد ضمن التوسعات التاريخية للمسجد النبوي)!!

... وما يهمني اليوم هو تنبيهك أنت إلى أننا (في حياتنا العادية) لا نلاحظ ولا نهتم ب99% مما يدور حولنا ويشغل بال غيرنا .. ولكن، بمجرد أن نركز اهتمامنا على شيء واحد فقط؛ يتضخم بطريقة مشوهة لدرجة يشغل 99% من حواسنا وتفكيرنا.. ثم نستغرب كيف لا يثير اهتمام الناس مثلنا!!

.. للتو فقط تذكرت رجلاً يعتقد أن حال الأمة لن ينصلح قبل حل مشكلة العنوسة !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...