لفت العنوان انتباهي لأن ما أعرفه جيداً أن الأئمة الأربعة لم يتحدثوا أصلاً في هذه المسألة واقتصر كلامهم على لزوم التغطية المتعلقة بـالصلاة والإحرام والظهار بدليل قول الموزعي الشافعي: «الأئمة كمالك والشافعيِّ وأبي حنيفة لم يتكلموا إلا في عورة الصلاة»..

وحين انتهيت من قراءة الموضوع أدركت أن الكاتب اعتمد على طريقة شائعة في استخراج الأجوبة التي يرغب فيها وتطابق البيئة التي نشأ داخلها:

  • فهو يملك من البداية رأياً جاهزاً ومحسوماً في المسألة (وهذا حكم استباقي ينهي القضية قبل بدايتها)..

  • ولأن الأمر محسوم بالنسبة له لا يحتاج لأدلة تثبته (ولا يقبل أدلة تنقضه) ولكنه فقط يحاول تقديمها كـ»دراسة علمية» أو»بحث فقهي» يضفي عليها وزناً ومصداقية..

  • فأي إنسان يملك حكماً جاهزاً أو رأياً مسبقاً لا يمكنه البحث بطريقة محايدة ويتجه تلقائياً للبحث عما يؤيد وجهة نظره والاستخفاف بمن يختلف معه..

  • وحين أكملت قراءة الموضوع لم أجد آراء مباشرة للأئمة الأربعة، بــل وجدت حالات اقتطاع من كلام تلاميذهم وأتباعهم ممن ولدوا بعدهم (بطريقة: قال فلان الحنبلي أو قال فلان المالكي أو فلان الحنفي)..

  • أما الأخطر من هذا (وهذا موضوع مقالنا اليوم) فهو أن الكاتب لم يراع ترتيب مصادر التشريع حين بحث في هذه المسألة.. فقد تجاوز القرآن والسنة وإجماع الفقهاء وقفز مباشرة إلى ما يناسبه من أقوال التلاميذ والأتباع الذين ظهروا في عصور متأخرة (ويا ليته أوردها كلها)!.

  • فـحتى حين فعل هذا تجاهل أقوال تلاميذ وأتباع آخرين خالفوه في هذا الرأي.. فقد تجاهل مثلاً رأي الطحاوي والجصاص والكاساني (من الأحناف) والبغدادي القيرواني والمازري (المالكية) والرافعي والنووي والموزعي أعلاه (الشافعية) في مسألة كشف الوجه...

.. ومرة أخرى، لم أكتب هذا المقال لمناقشة حكم كشف المرأة لوجهها.. ولكنني أقدم فقط هذه المسألة كنموذج لآراء وفتاوى لا تراعي ترتيب مصادر الدين، وتعمد لأساليب ملتوية وركيكة لاستخراج ما يناسبها من أحكام..

يفعلون ذلك من خلال التقديم والتأخير، والاصطفاء والحذف، والناسخ والمنسوخ، والاجتزاء من آراء الفقهاء، والتنقل بين الصحيح والضعيف، والاتكاء على قاعدة سـد الذرائع، وجميعها طرق ملتوية لم يكونوا ليلجؤوا إليها لو كان للمسألة أدلة شرعية صريحة وقاطعة كتحريم الزنا والخمر ولحم الخنزير..

ما يهمني في هذا المقال هو ضرورة (ترتيب الأخذ من المصادر) في المسائل التي نود مناقشتها أو الافتاء فيها.. ضرورة أن نبدأ أولاً بالقرآن الكريم ثم السنة النبوية الصحيحة ثم ما فعله الخلفاء الراشدون.. وحتى حين نفعل هذا لا يجب أن نقدم الأحاديث على الآيـات، أو قول الصحابي فلان على قول خير الأنام، أو أقوال التلاميذ والمتأخرين على أقوال الصحابة والتابعين.. ناهيك عن التنقل بينها كالنحلة..

حين تريد إخباري بفتوى أو حكم ابدأ معي بالقرآن، ثم السنة، ثـم فـقـه الواقع، ثم انتقل لقاعدة فتح الذرائع (قبل قاعدة غلق الذرائع) تيسيراً على الناس ومراعاه لمتغيرات العصر..

الإخلال بمصادر الدين أوصلنا اليوم إلى مرحلة تجاوزنا فيها (أهم مصادر الدين) وأصبحت معظم فتاوانا تخلو من قال الله وقال الرسول وتستعيض عنها بالرأي الشخصي والفهم الخاص وما قاله الوعاظ والأتباع.

بصراحة، حين تخلو أي فتوى من أهم مصدرين للتشريع (القرآن الكريم والسنة الصحيحة) تصبح مجرد رأي فـردي من حقي أن أقبله أو أرفضه..