الأربعاء، 27 يناير 2021

المجتمع المسطح

 هل تذكر أول مرة ارتعبت فيها بشكل كبير؟

أنا أذكر ذلك لأنه كان ببساطة موقفا لا يُنسى..

كنت في الخامسة من عمري حين بُنيت قرب منزل جدتي عمارة من ستة طوابق.. وفي ذلك الوقت كان حدثا خارقا أن يرتفع أي شيء لهذا المستوى.. وذات صباح صعدت خلسة سلم العمارة حتى وصلت الى السطح.. وما ان اقتربت من حافة السور حتى شاهدت المدينة بأكملها من الأعلى، فيما بدت لي الأرض على بعد سحيق ومخيف.. ارتعبت من المنظر لدرجة جلست على ركبتي وبدأت أزحف على أطرافي الأربعة عائدا الى باب السطح.. وحين نزلت الى الشارع جلست على الأرض أتلمسها وكأني أحاول الاطمئنان إلى التصاقي بها وعدم تركي لها مجددا..

الغريب أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي أرتعب فيها من الأماكن المرتفعة، ولم يترتب على هذه الحادثة إصابتي مثلا بفوبيا المرتفعات.. (فما الذي حدث بالضبط؟).

.. رغم أنني لست طبيب أعصاب ولا عالم نفس إلا أنني أفترض أن جهازي العصبي لم يكن مهيئا لاستقبال هذا المنظر، في حين كانت خبرتي البصرية "مسطحة" وتعتمد على رؤية العالم من خلال بعدين أفقيين فقط.. وحين رأيت العالم من الأعلى - لأول مرة - شكل ذلك صدمة لدماغي، وربكة لأرشيفي البصري واضطرابا لحواسي وقدرتي على الاستيعاب (رغم أن ما رأيته حينها لا يقارن بصعودي لاحقا فوق أعلى مباني العالم وتعلقي بأكثر من براشوت وطائرة شراعية ومنطاد هواء ساخن).

.. على أي حال.. دعونا الآن نستعير هذه الحادثة لتفسير ظاهرة ذهنية موازية:

فحين تولد في ثقافة محلية منغلقة فأنت كمن يعيش على سطح الأرض ويرى الدنيا بطريقة مسطحة (بالطول والعرض فقط).. أما حين تسافر الى بيئة مختلفة أو تقرأ كتبا مختلفة، فترتفع فوق بيئتك المسطحة، وتراها من الأعلى وتضيف لإرشيفك الذهني بعدا جديدا (يضمن ارتفاعك فوق الجميع).

فقراءة كتاب جديد تضمن ارتفاعك درجة في سلم العلم والمعرفة، وتواصلت مع ثقافة مختلفة يعني ارتفاعك في "بناية" التسامح والفهم، وجلوسك مع عالم أو خبير يعني توقفك عند بداية أفق جديد.

فكلما ارتفعت "درجة" كلما رأيت لمسافة أبعد.. وكلما ارتقيت "دورا" كلما شاهدت أفقا أوسع.. وكلما تسلقت هرم المعرفة كلما استوعبت حواسك محيطا أكبر.

صحيح أنك ستصاب في البداية بالرعب وارتباك الحواس (كطفل ينظر لأول مرة من فوق ناطحة سحاب) ولكنها بمثابة الصدمة الأولى التي تهيئك لاحقا للصعود ورؤية الدنيا من زاوية مختلفة.

قد لا يصدقك الآخرون حين تخبرهم أنك رأيت (كذا وكذا) لأنهم مايزالون يعيشون على أرض مسطحة تحيطها العوائق بمستوى واحد.. لن يؤمنوا بكلامك وأفكارك لأنهم لم يشاهدوا ما شاهدت ولن يفهموا ما أصبح جليا أمام ناظريك.. أما المصيبة الحقيقية فهي ثقتهم العمياء بواقعهم المسطح لأنه الوحيد الذي عرفوه وألفوه وشاهدوه طوال حياتهم!!

ورغم أنهم الفئة الغالبة في كل مجتمع إلا أنك لست فريدا بينهم.. فهناك أشخاص مثلك أصبحوا طوال القامة، إما لأنهم صعدوا فوق الكتب، أو تسلقوا على أكتاف العظماء، أو حلقوا فوق مجتمعاتهم المسطحة..

ولكن يعاب عليهم الخوف من التصريح بكل ما شاهدوه أو عرفوه أو استنتجوه أو رأوه قادما من بعيد.

فهم في النهاية بشر يخشون مصير زرقاء اليمامة التي رأت الأعداء قادمين (من مسيرة أيام) فكانت النتيجة قلع عينيها وصلبها أمام الجميع..

حبيب قلبي :

لا تخبرني عن أول مرة ارتعبت فيها بشكل كبير، بل عن آخر مرة نظرت فيها لأبعد من أنفك الصغير!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...