الأحد، 27 أكتوبر 2019

أزمات غير سلبية


لكل مجتمع أزماته ومشاكله الخاصة.. فالهند مشكلتها المزمنة كثرة المواليد، واليمن انتشار الأسلحة، والعراق الصراعات المذهبية، والصومال غياب الدولة، ونيجيريا سرقة الثروة، والأرجنتين تراكم الديون، والصين الخوف من كثرة النسل -وفي نفس الوقت- من قلة الأطفال!!

وحين نتحدث عن الأزمات العالمية، نتحدث غالبا عن جانب سلبي سيئ، دون أن يخطر ببالنا وجود مجتمعات ودول تعاني من أزمات إيجابية جميلة..

خذ كمثال سويسرا التي تعاني من كثرة الكاش والتمتع برصيد مالي هائل واقتصاد أفضل من الممتاز -لدرجة أصدرت مؤخراً بخفض الفائدة لصفر للتخفيف من تدفق الثروات العالمية إليها-، فالعالم ببساطة يثق في البنوك السويسرية ولم يكف يوماً عن ملئها بالمال والثروات والأرصدة الهاربة.. أضف لذلك يتمتع السويسريون بمهارة اقتصادية واستقلالية مالية أتاحت لهم النجاة من أزمات تتكرر كل حين.. ففي حين عانى العالم من أزمة 2008 وعانت أوروبا من انحدار اليورو وانهيار الاقتصاد اليوناني، كان الاقتصاد السويسري يعيش أفضل أيامه الأمر الذي رفع سعر صرف عملته 30% مقارنة باليورو والدولار. وهكذا وقع السويسريون ضحية نجاحهم كون ارتفاع قيمة الفرنك السويسري رفع قيمة السلع المصدرة للخارج.. الأمر الذي حدَّ بدوره من قدرة شعوب "الخارج" على شرائها بسبب سعرها المرتفع!!

خذ كمثال آخر النرويج.. فسكان هذا البلد يأتون في المركز الأول من حيث الدخل (أكثر من 55 ألف دولار للفرد) ويملكون صندوقا للأجيال تراكمت فيه الأموال لدرجة أصبح نصيب كل مواطن فيه يزيد عن المليون دولار، وكأن هذا لا يكفي حتى تدفق بقربهم "نفط الشمال" الأمر الذي أضاف لخزينة النرويج مليارات إضافية لا تعرف ماذا تفعل بها (خصوصا أن عدد الشعب كله لا يتجاوز الخمسة ملايين)، وهكذا؛ في حين عانى العالم خلال السنوات الأخيرة من أزمات اقتصادية، وحروب سياسية، وصراعات دينية ومذهبية، كانت الأزمة الوحيدة التي عانى منها النرويجيون هي انخفاض إمدادات الزبدة عام 2011 الأمر الذي استدعى عدة جلسات في البرلمان (ماسويناها نحن حين ارتفع سعر الأزر وأصبح مستقبل الكبسة في خطر)!!

.. وبطبيعة الحال الأزمات الإيجابية لا تتعلق بالمال والاقتصاد فقط؛ فهناك أزمات إيجابية تشي بالمستوى العلمي والطبي والبحثي في الدول المتقدمة.. ففي عام 2010 مثلاً ناقش البرلمان الألماني أسباب تراجع نصيب ألمانيا من جوائز نوبل في العلوم والفيزياء.. كما ناقش الهولنديون أسباب تخليهم عن المركز الأول عالمياً في الأبحاث العلمية مقارنة بعدد الشعب.. أما اليابانيون فيفكرون جدياً في (تصعيب) إجراءات نيل براءات الاختراع -كونه لا يعقل أن ينال كل مواطن براءتي اختراع أو ثلاثة-، أما في أمريكا فعانت الجامعات، ومراكز البحث، وشركات الأدوية من أزمة شهيرة بسبب النقص الحاد في فئران التجارب -حيث شب حريق هائل عام 1989 في مركز استيلاد الفئران في ولاية ميين تسبب في قتل 400 ألف فأر معدل جينياً أو مهيأً مخبرياً الأمر الذي تسبب في إيقاف عمل 6500 مختبر، و77 شركة أدوية، و92000 ألف باحث طبي.!!

لماذا أكره الخبراء..؟


يقول عالم النفس مالكولم جلادويل في كتاب القيم المتطرفة Outliers:

"يحتاج الإنسان إلى 10,000 ساعة عمل وقراءة وتجربة كي يصبح خبيراً في مجال معين"، وهذا يعني ضرورة ممارسة نفس العمل لثلاث ساعات في اليوم، ولمدة عشرة سنوات متواصلة، كي تصبح "خبيراً" في مجالك.. وفي المقابل يعتقد معظمنا أنه أصبح (خبيراً) بمجرد أنه قرأ أو شاهد أو جرب شيئا لمرة أو مرتين.

تنتشر هذه الظاهرة في مجتمعنا بدليل أنك ما أن تخبر أحداً بشيء حتى يقاطعك "أنا عااااارف بس أنت ما فهمتني.."، ولكن الحقيقة هي أنك لن تتعلم شيئاً جديداً حين تعتقد أنك تعرف كل شيء أو أصبحت خبيراً لدرجة لا يمكنك الصمت لسماع الآخرين.

لا أدعي عدم امتلاك البعض خبرات مميزة، ولكنني أعترض على منح "الخبرة" كلقب يضفيه الإنسان لنفسه.. يمكن لمصطلح "الخبرة" أن يظل قابلاً للمنح، ولكن فقط من خلال اعتراف (عامة الناس) الذين يملكون حق إضفائه على من يشعرون أنه يتميز عنهم بالفعل!!

.. حتى المعادلة التي بدأنا بها المقال (بخصوص العشرة آلاف ساعة) أصبحت أشك فيها كون المعرفة (لا نهائية)، وبالتالي لا يوجد سقف أعلى لشيء يدعى "خبرة".. فنحن نعيش حالة تعلم دائمة لا يمكنها أن تكتمل في سن معينة، وبالتالي من الطبيعي أن نولد جاهلين ونموت عاجزين عن الفهم، فنحن ببساطة نملك أعماراً قصيرة لا تسمح بأن نصبح خبراء بشكل مطلق ونهائي.

أنا شخصياً على قناعة بأن زمن الأستاذية والخبرة انتهى، رغم أنني أعمل في مجالي منذ 23 عاماً.

.. وحتى بعد 23 عاماً من الآن سأظل على قناعة بأن أي كاتب أو واعظ يتحدث من موقع الأستاذية يجازف بانحدار مستواه، وفقد ثقة الناس به.. لم أفترض يوماً أنني أفضل من غيري، ولطالما نظرت لنفسي كرجل يفكر بصوت مسموع، ويساعد القارئ فقط على استنتاج فكرته الخاصة.. في أكثر من مقال اعترفت بأن لدي أفكاراً تراجعت عنها، وعبرت عن قناعتي بعدم وجود مثقف أو فقيه في عصر "جوجل" (في مقال يحمل هذا الإسم).

يستحسن أن نسلك هذا الدرب بدل أن ندعيّ "الخبرة"، كون من يتحدث من برج عاجي يجازف ليس فقط بعزوف الناس عنه، بل وانكشاف عورته المعرفية، خصوصاً في زمن الشيخ "جوجل".. فحتى وقت قريب كان هناك حاجز يفصل المتحدث عن المستمع، والكاتب عن القارئ؛ غير أن هذا الحاجز انهار تماماً بظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت للمستمعين والقرّاء ميزة التواصل والتعديل والمشاركة، تمكنت صناديق الرد الإلكترونية من هدم الأبراج العاجية وإلغاء كرسي الأستاذية وحولت "الكاتب" و"الواعظ"، إلى "عامل معرفة" يكون محظوظاً لو امتلك فقط أسبقية الفكرة.. صحيح أن وسائل التواصل الإلكترونية يتم تحجيمها -والتقليل من تأثيرها- في وسائل الإعلام الرسمية، ولكن لاحظ أيضا أن المتلقين لم يعودوا يثقون أصلاً بأي وسيلة إعلامية رسمية لا تتيح لهم فرصة الرد أو المشاركة أو مناقشة المتحدث، وتغير العلاقة بين المزود والمتلقي يضيف عقبة جديدة أمام ادعاء الخبرة في أي مجال (فبالإضافة لقصر العمر ووجود الشيخ "جوجل" كيف تدعي الخبرة في زمن يرد عليك فيه آلاف الناس أو يصححون ويضيفون لفكرتك بمجرد خروجها في النت)!!

.. وقبل أن نختم المقال اسمحوا لي بإخباركم عن سبب إضافي أكبر يجعلني أكره الخبراء:

فالخبراء أبعد الناس عن الإبداع والتجديد والابتكار.. فهم بحكم المهنة يقدمون نصائح جامدة، ونماذج جاهزة، وقوالب مسبقة الصب يعتقدون أنها "تنفع" لجميع الحالات، ولكن الإبداع والتجديد والابتكار يتطلب في المقابل كسر القواعد، ومخالفة المألوف، والتمرد على المعتاد، وتطبيق أفكار لم تُجرب من قبل.. وجميعها أمور يرتعبون من مجرد التفكير فيها.!!

وبصراحة؛ لا يمكن للخبراء والمبدعين العمل في مجلس واحد.!

الإلهام لحظة يسبقها عمرٌ


نتحدث دائما عن "لحظة الإلهام" وكأنها حدث مفاجئ أو هبة غير منتظرة.. ولكنها في نظري (لحظة إعلان النتائج) التي يسبقها كثير من الجهد والتحضير والاستعداد الطويل.. فهي لحظة الحقيقة التي تأتي فقط للعقول المستعدة، وتخرج للوجود بعد مخاض فكري طويل يبذله الفائز بالجائزة.

تحدث نزار قباني في أحد لقاءاته عن قصيدة بعنوان (حبلى) تخمرت في رأسه لسنوات طويلة حتى كان ذات يوم ينزل درج إحدى البنايات فقرر فجأة الجلوس على آخر درجة لكتابتها في دقائق.

وكان الموسيقار الألماني بيتهوفن قد اعتزل الناس في آخر حياته حتى ظنوا أنه مات.. أما جيرانه فكانوا على قناعة بأنه أصيب بالجنون كونه كان دائما يردد نغمة واحدة لم تفارق شفتيه طوال سبع سنوات، وفجأة قرر كتابة هذه النغمة كقطعة موسيقية فغدت اليوم أعظم معزوفة عالمية (تدعى السيمفونية التاسعة).

وكان آينشتاين يفكر طوال سنوات في كيفية التوفيق بين طبيعة الزمن وعلاقته بالكتلة والفضاء (وهي معضلة حيرت علماء كثيرين قبله).. وذات يوم، وبينما كان يمشي تحت برج الساعة (في مدينة بيرن السويسرية) أدرك في لحظة إلهام أن الزمن مجرد شعور نسبي يتغير بتغير الكتلة والسرعة وموقع من يرصد الوقت!!

وكانت رواية مئة عام من العزلة (التي ترجمت لأكثر من ثلاثين لغة عالمية) تلح في ذهن الأديب الكولمبي غابرييل ماركيز طوال خمسة عشر عاما حتى قرر فجأة ترك عمله ومدينته وعائلته للتفرغ لكتابها عام 1965 في وقت قياسي!!

… إذاً؛ صحيح أن الإلهام يأتي فجأة، ولكنه محصلة نهائية لانشغال مستمر وقديم بالفكرة.. فعقلنا الباطن لايتوقف أبداً عن التفكير حتى أثناء النوم والاسترخاء.. وهو عنيد لا ينسى أصل المشكلة حتى إن اعتقدنا نحن نسيانها، وحين ينتهي من إنجازها يبرز الحل في رؤوسنا بلا مقدمات.. أثناء النوم أو الجلوس في الحمام أو التوقف عند إشارة المرور!!

ولو أتيحت لك اليوم فرصة سؤال أحد الأدباء أو المفكرين سيخبرك أن لحظات الإلهام هبطت عليه (صحيح في لحظة)، ولكن بعد وقت طويل من الاهتمام والتفكير وإلحاح الفكرة..

والآن أيها السادة..

ماذا نتعلم من كل هذه القصص والنماذج؟

… أن الإلهام "لحظة" يسبقها إلحاح قديم واهتمام طويل.. نتعلم أن مجرد اهتمامنا بالأفكار الرائدة سيتمخض ذات يوم عن "لحظة إلهام" نكتشف فيها الحل فجأة، وكأنه فتح رباني لم يأت لسوانا، وحين يحدث معك ذلك لا تتردد في تنفيذها على أرض الواقع -ليس فقط لأنك تأخرت بما فيه الكفاية- بل لأن عقلك الباطن يكون قد أنهى المهمة التي كلفته بها منذ وقت طويل -دون أن تدري- ولن يمنحك لحظة إلهام أخرى مشابهة.

العلوم الوهمية


العلوم في نظري تنقسم الى ثلاثة أقسام رئيسية:

تطبيقية مفيدة.. وتنظيرية ممتعة.. ووهمية كاذبة.

تطبيقية مفيدة كالطب والجيولوجيا والزراعة كونها تقدم نتائج ملموسة وخدمات محسوسة ترى أثرها على حياة الناس.. وتنظيرية ممتعة كالآداب والفنون والفلسفة التي - وإن كانت لا تقدم منافع مادية ملموسة - تمنحنا متعة فكرية راقية.. أما النوع الثالث (موضوعنا اليوم) فعلوم وهمية فارغة لا تؤثر ولا تقدم كونها لا تشفي من مرض، ولا تخدم مجتمعا، ولا تقدم متعة حقيقية للعقل والروح والجسد.

لا أتوقع أن توافقني الرأي إن كنت أحد خريجيها أو العاملين فيها، ولكن قد يهمك معرفة أن هناك ما يسمى فعلا بالعلوم الكاذبة لدى خبراء البحث العلمي (وقد يطلق عليها أيضا اسم العلوم الوهمية أو الزائفة أو الهامشية وتدعى بالانجليزية Pseudo-science)!

والعلوم الكاذبة تبدو في ظاهرها كعلوم حقيقية، ولكنها في داخلها ومخرجاتها الواقعية مجرد انجازات هامشية لا تزدهر في غير بيئتها المحلية (مثل كوريا الشمالية التي تمنح شهادات دكتوراة في أقوال الزعيم كيم ايل سونج)! ويتضح زيف العلوم الوهمية أو الكاذبة، بمجرد مقارنتها بالعلوم الحقيقية أو الصادقة.

فالعلوم الحقيقية مثلا لا تجزم بوجود الأشياء قبل توثيقها ورصدها وتجربتها من خلال منهج علمي يتفق عليه الباحثون (في العالم أجمع).. وفي المقابل تجزم العلوم الكاذبة بالحقيقة التي تريدها (أولا ومقدما) ثم تختلق حولها أبحاثا ودراسات مزيفة لا يعترف بنتائجها ودرجاتها الأكاديمية غير مجتمعها المحلي.

أيضا العلوم الحقيقية تبحث عن الحقيقة بطريقة نزيهة ومحايدة لتحقيق المزيد من الفهم والمنفعة لجميع البشر.. وفي المقابل؛ الدافع غالبا وراء العلوم المزيفة يكون إما ثقافيا أو محليا أو أيدلوجيا (مثل إنشاء معهد خاص بمخ لينين في موسكو زمن العهد الماركسي)!

والعلوم الحقيقية تنطلق من فرضية خجولة (ولا تصبح نظرية) قبل أن تثبتها التجارب أو تؤكدها الدراسات.. وفي المقابل تقفز العلوم الزائفة لتقديم نظريات واثقة وجازمة (بل وخارقة للعادة مثل اكتشاف عشبة تعالج الإيدز) دون المرور بمرحلة الفرضية أو البحث أو تقديم دراسة أو تجربة فعلية...

والعاملون في العلوم الحقيقية يرحبون بتعديل النتائج والإضافة إليها وحتى إلغائها (ولا يعادونك أو يغضبون منك حين تفعل ذلك كونك تخدم البحث ذاته).. وفي المقابل يرفض العاملون في العلوم الهامشية أي تعديل أو حذف أو حتى تقديم دليل ينفي ما يعتبرونه حقيقة نهائية ومطلقة!

وفي حين تتغير النظريات العلمية وتتطور (وأحيانا تختفي لصالح حقيقة أكبر) تبقى الادعاءات المزيفة على حالها لا تنمو ولا تتطور ولا تختفي ولا يمَل أصحابها من تكرارها ومحاولة تعزيزها مهما أثبت الزمن عجزها وقصورها.

وغالبا ما تتحدث العلوم الحقيقية عن إنجاز وحيد ومستقل وصريح (كأن تعلن ناسا عن اكتشاف قمر جديد للمشتري) في حين تحشر العلوم الوهمية عشرات الادعاءات المبهمة لصالحها (كادعاء وجود خمسين دراسة عالمية تؤكد نجاحها) ولكن دون تقديم دليل واحد أو مصدر واضح تتأكد منه!

والعلوم الحقيقية تنشر أدلتها بشكل علني ودقيق ومفصل وموثق.. وفي المقابل تتهرب العلوم المزيفة من فعل ذلك وتحاول شغلك بادعاء يدغدغ عواطفك أو يناسب اعتقاداتك.. والأسوأ.. حين تربطه بمرجع عالمي يصعب تأكدك منه (كادعاء أحدهم بوجود دراسات من جامعة أدنبرة تؤكد وجود مكة في مركز الكون)!

والعلوم الحقيقية يغلب عليها طابع التعقيد وصعوبة فهمها من غير المتخصصين فيها (كتقنية النانو، والتفاعل الكيميائي، والمعادلات الإنشائية) في حين تتميز العلوم الكاذبة بالشعبية والسطحية وسهولة الفهم (بل وتلاحظ أنها ممتعة للعقل الجماعي كالتنجيم والكائنات الفضائية والخوارق النفسية والادعاءات الفلكلورية)!

وكما قلت في مقدمة المقال؛ العلوم الحقيقية تقدم نتائج فعلية وواقعية يمكن لجميع الناس رؤيتها والإحساس بها والاستفادة منها (كدور الطب في شفائنا، والهندسة في حياتنا، والتنقيب في اقتصادنا) في حين لا تقدم العلوم الوهمية إنجازات حقيقية ولا فوائد ملموسة ولا منفعة (لغير العاملين فيها)!

.. أيها السادة:

:علم لا ينفع: من الأمور التي استعاذ منها نبينا الكريم.. وفي حين لن يتراجع مستوى اليابان وألمانيا وكوريا لو أغلقت كلياتها النظرية وتخصصاتها الوهمية (وهي قليلة على أي حال) نملك نحن أعدادا من الكليات الهامشية والتخصصات الوهمية والدرجات الأكاديمية المتخفية تحتها!

وبصراحة.. الوضع لا يحتمل التأخير عطفا على آلاف الخريجين الذين يحملون هذه الأيام شهادات "هامشية" ولا يملكون وظائف "حقيقية" ويحتاجون الى إعادة تأهيل بعد تخرجهم في الجامعة.

أهم مشكلة طبية لا تحظى بتغطية إعلامية!


حين تتناول دواء عبر الفم أو الوريد لا يذهب فقط إلى موضع المشكلة ومكان المرض، بل ينتشر في كامل الجسم ويذهب لكافة الأعضاء من خلال الدورة الدموية.

وهذا يعني أن الحبة التي تأخذها للصداع ستذهب للكبد والكلى والقلب والغدة الكظرية وووو وتتسبب بآثار جانبية غير مطلوبة.

والحقيقة هي أن لجميع الأدوية مضاعفات وآثاراً جانبية حتى حين تؤخذ بحسب تعليمات الطبيب أو الجرعات الموصى بها.. ومن الأقوال التي تختصر هذه المفارقة قول عالم الصيدلة الألماني غوستاف كوشينسكي:"حين يدّعي أحدهم أن دواءً ما لا يملك آثار جانبية ضارة، تأكد أنه لا يملك آثار علاجية نافعة"...

وفي بلد متقدم مثل بريطانيا تقتل الآثار الجانبية للأدوية عشرة آلاف شخص كل عام (حسب محطة الBBC). ويقدر أن شخصاً من بين 16 يدخل المستشفى بسبب التأثيرات الجانبية الضارة وأن 28 على الأقل يموتون سنوياً بسبب ردود فعل سيئة لعقارات بسيطة كالأسبرين (في حين كان نزيف جدار المعدة أكثر المسببات انتشاراً). ويقدر الباحثون أن 70% من الحالات كان يمكن تلافيها لو كان الأطباء أكثر حذراً في اختيار الأدوية وأكثر مراعاة لسن المريض وتاريخه المرضي (ولاحظ يتحدثون عن أطباء بريطانيا!)

أما حول العالم فيقدر أن 240000 يموتون سنوياً بسبب مضاعفات الأدوية وردود فعلها القاتلة. وهذا الرقم لا يتضمن ردود الفعل المعيقة وغير المميتة (كالعمى والشلل وضعف الكبد ومشاكل التنفس) كما لا يتضمن الآثار القاتلة للعقاقير المزورة أو التي أسيء استعمالها!

والحقيقة هي أن التأثيرات الجانبية للأدوية من تحسس وتسمم وتسرطن وأعراض مختلفة أصبحت هي المشكلة الصحية الأولى في عالم اليوم (وليس الإيبولا أو فيروس الخنازير والطيور وووو التي تحظى دائماً بتغطية إعلامية واسعة رغم أنها لا تقتل مايقتله الإسهال كل عام)!

أما المضحك المبكي فهو أن كثيراً من الأدوية التي تنتجها الشركات الكبرى غير فعالة بشكل كامل أو جزئي ومع هذا تتضمن آثاراً جانبية سيئة.. فعقاقير الزهايمر مثلاً لا تفيد سوى واحد من كل ثلاثة مرضى، وأدوية السرطان والإيدز لا تنفع إلا ربع المرضى، وأدوية الصداع النصفي والتهاب المفاصل والتهابات الأذن ومعظم المضادات الحيوية التي لا تفيد سوى نصف المرضى.

والسبب الأساسي يعود إلى اختلاف المورثات بين البشر وحقيقة أنها تتداخل لدى البعض بطريقة تقلل أو تلغي فعالية بعض الأدوية.. وفي المقابل؛ قد تفسر هذه الحقيقة أيضا لماذا تتحول بعض الأدوية المسالمة والموثوقة الى أدوية خطيرة وقاتلة عند بعض المرضى حيث يمكن أن تتسبب حبة اسبيرين أو بنادول في نزيف حاد أو غيبوبة قاضية!

كنت أتمنى امتلاكي نصيحة ناجعة أقدمها لكم قبل انتهاء المقال؛ ولكن الحقيقية هي أن الآثار الجانبية للأدوية ظاهرة يصعب تجاوزها بسبب التركيبة المعقدة لجسم الإنسان ذاته وترابط أعضائه من خلال الدورة الدموية.. أقرب نصيحة مفيدة هي محاولة التقليل منها قدر الإمكان، ثم المقارنة بين محاسن ومساوئ أخذها حين تضطر إليها!

وفي جميع الأحوال لا غنى عن استشارة الطبيب.

خرافة الـ ١٠٪


حتى وقت قريب كنت أصدق فعلاً بأن الإنسان لا يستعمل سوى ١٠٪ من قدراته الذهنية (ولعلك مثلي صادفت هذا الادعاء السخيف في الصحف والمراجع النفسية الرصينة)!!

وفي البداية كانت تروقني هذه الفكرة كونها تعطيني الأمل باستغلال ال٩٠٪ المتبقية ذات يوم والتحول إلى عبقري «ما حصلش». غير أن سنيناً مرت ولم ألمس طفرة في قدراتي العقلية ولا مواهبي الذهنية.. سنين مرت ومازلت أرى الأحمق أحمقاً، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم، وجميع البشر أنهم أذكى ما خلق الله بين البشر..

وما جعلني أصدق هذه الفكرة أعواماً طويلة أنني كنت أصادفها دائماً في مراجع علمية محترمة فأقول لنفسي «وهل أنت أدرى من الاخصائيين وعلماء النفس والأعصاب»!؟

غير أن التصديق بأن الإنسان لا يستعمل إلا ١٠٪ من قدراته العقلية أمر تناقضه حقائق كثيرة - من أكثرها غباء الاعتقاد بأن جماجمنا الضخمة ليست سوى تجويف أحمق:

فلو اقتصر استخدامنا على هذه النسبة لكنا أقل مستوى من حيوانات ذكية تالية لنا كالدولفين والشمبانزي والفيل!

ثم إن عدم الاستفادة من ٩٠٪ من مادة الدماغ يجعلنا نتساءل عن الحكمة من وجودها أصلا!

ورغم ان التاريخ يحفل بالعباقرة، إلا أن أيا منهم لم يبلغ قدراً من الذكاء يتناسب مع ال٩٠٪ المتبقية!

اضف لذلك ان تكنولوجيا تصوير المخ الحديثة (مثل الPET وMRI) اثبتت ان جميع أجزاء المخ تستعمل لغرض ما.. صحيح انها قد لا تعمل في نفس الوقت.. ولكن من قال إن عضلاتنا تستعمل أيضاً لكل الوقت؟!

الدليل الخامس ان من يصاب بارتجاج في المخ أو يضطر لاستئصال شيء من دماغه يظهر عليه تدهور مواز في قدراته العقلية.. ولو كان لدينا احتياط بمقدار ٩٠٪ لما رأينا ضرراً موازياً في تلك القدرات (بكلام آخر هل سمعت طبيباً قال يوماً لمريضه: جات سليمة؛ لقد أصبت في ال٩٠٪ غير المستخدمة)!

ما يبدو لي أن من حاك هذه الأسطورة لم يكن مهتماً بحقيقة ال١٠٪ بقدر اهتمامه بترك المساحة المتبقية لتفسير قدرات العقل الغامضة.. فالتخاطر والرؤى والإلهام والابداع وقراءة الأفكار جميعها مواهب غامضة لا يوجد لها تفسير شاف.. وعليه قد يرتاح البعض حين ينسبها ل٩٠٪ من قدرات العقل غير المكتشفة.. كإجراء مؤقت..

غير أنني لا أرى ما يمنع تفسير المواهب النفسية الخارقة كنتيجة لتعاون ملكات العقل المعروفة لدينا بالفعل.. فمن المعروف ان طريقة التفكير (لا حجم المخ) هي الفيصل في رقي الملكات العقلية وظهور الابداع والعبقرية؛ وبناءً عليه فإن إخلاء ٩٠٪ من مساحة المخ ليس شرطاً لتفسير أي مواهب جديدة أو غامضة!

.. ما تأكد لي أن تبني المعلومات بدون نقدها، وترديد المقولات بطريقة الببغاء عادة لا يقتصران على العامة فقط بل يشيعان أيضاً في الوسط العلمي وأشهر المراجع الرصينة!! وبهذا الخصوص أحيلكم إلى مقال أقدم ابحثوا عنه في النت بعنوان: «خمسون كذبة في علم النفس»!

فرّغوا المبدعين وأصحاب المواهب


قبل 1200 عام وضع الإمام الشافعي ستة شروط لطلب العلم اختصرها في بيتين جميلين:

لن تنال العلم إلا بستة

سأنبئك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبُلغة

وصحبة أستاذ وطول زمان

وفي حين لا تحتاج خمسة منها لتفسير؛ تعني كلمة "بُلغة" الاكتفاء المادي وعدم الحاجة لطلب الرزق (وبالتالي التفرغ للبحث وطلب العلم).. وشرط كهذا يشعر بأهميته كل مبدع وموهوب يتمنى "التفرغ" لأفكاره الخاصة ولكنه يخشى في المقابل الفقر والحاجة وانقطاع "الراتب".. فمن مفارقات الدنيا الأزلية أن "الإبداع" لا يحقق مردوداً مادياً (على الأقل خلال فترة إنجازه) لدرجة كانت العرب تصف من يصاب بالفقر والفاقة بقولهم: "أصابته حرفة الأدب".

لهذا السبب أتمنى من الوزارات والجهات المعنية تبني برامج وطنية لتفريغ الموهوبين من منسوبيها.. يفترض أن تفعل ذلك من خلال معايير نزيهة ومجردة تحدد من يستحق فعلاً "التفرغ" لمصلحة الوطن ورفع نسبة مساهمتنا في الإبداع العالمي.. يجب أن تمنحه ذات الراتب والترقيات لمدة تناسب طبيعة الإنجاز ذاته وتكون قابلة للتمديد إن تطلب الأمر ذلك.. يجب أن تكفيه عناء الهم المادي وتحصيل الرزق طالما ثبت لها تقدمه في المشروع وإمكانية انتهائه إلى نتيجة مميزة ومفيدة.

لا أفهم كيف نمنح لاعبي كرة القدم واليد والسلة إجازات مدفوعة الثمن (بل وأعذاراً رسمية للتغيب وتأجيل الامتحانات من خلال الرئاسة العامة لرعاية الشباب) في حين لا نفعل ذلك مع مؤلفين ومخترعين وموهوبين يخشون انقطاع الراتب في حال تفرغوا لأفكارهم المميزة.

أنا شخصياً لم أكتب هذا المقال من فراغ وأملك تجربتين بهذا الخصوص (واحدة سلبية والأخرى إيجابية).. التجربة السلبية تكمن في امتلاكي اختراعات مؤجلة وكتباً لا يمكنني إنجازها بسبب انشغالي في كتابة المقالات اليومية.. مازلت أملك من أيام الطفولة كراساً يضم "خربشات" لأكثر من 48 اختراعاً؛ في حين يمكنني نشر مئة كتاب لو تفرغت اليوم لهذه المهمة (عطفاً على امتلاكي 8280 مقالاً في ارشيفي الشخصي).

أما التجربة الإيجابية فهي أن سياسة صحيفة الرياض في تفريغ الكتّاب والصحفيين المميزين (بل ومنحهم أسهماً في مؤسسة اليمامة) أتاحت لي ترك وظيفتي الحكومية، وفتح كراستي مجدداً، والتفرغ نسبياً للكتابة والتأليف.

وكان الفيلسوف والشاعر المعروف عمر الخيام (صاحب رباعيات الخيام التي شدت بها أم كلثوم) قد نشأ مع صديقين مخلصين فتعاهد ثلاثتهم على أن من يصبح منهما ثرياً أو صاحب منزلة يساعد صديقيه الآخرين.. وكان عمر الخيام محظوظاً من الطرفين كون صديقه الأول (نظام الملك) أصبح وزيراً للسلطان ألب أرسلان ثم لحفيده ملكشاه فخصِّصَ له كل عام مئتي ألف دينار ذهبي ضمنت له التفرغ والتنقل بين مراكز العلم الكبرى مثل بخارى وبلخ وأصفهان للتزود بالعلم وتبادل الأفكار مع العلماء.. أما صديقه الثاني فكان الشاعر حسن الصباح الذي اغتنى بدوره (من خلال تزعمه للطائفة الإسماعيلية وتأسيسه لمنظمة الحشاشين) ومع هذا لم ينس صديق طفولته القديم عمر الخيام.
نعود لموضوعنا الأساسي ونقول:

يُفترض أن تملك كل وزارة، وجامعة، وجهة حكومية، برامج وطنية لتفريغ المبدعين وأصحاب المواهب الخلاقة (على الأقل لفترة كافية لإنجاز أفكارهم الخاصة).. فمن مفارقات الدنيا الأزلية أن كليات الأدب لا تخلق الشعراء والمؤلفين، وكليات الهندسة لا تخلق المخترعين والمبتكرين، والشهادات الجامعية ليس لها علاقة بالإبداع والعبقرية.. فمواهب كهذه حالات استثنائية نادرة (الله وحده قادر على صنعها) وكل مايمكننا فعله هو تفريغها وضمان سلامتها من "حرفة الأدب"!

أكثر الشعوب ثرثرة!


هل هناك شعوب ثرثارة وشعوب عملية؟

هل هناك أمم تعشق الجدل وأخرى يشغلها العمل؟

شركات الاتصالات العالمية تملك إحصائيات دقيقة عن أكثر الشعوب ثرثرة وحديثا عبر الهاتف (من حيث متوسط الوقت لكل مستخدم).. ادخل عنوان المقال ذاته في جوجل لتكتشف أن العرب والأفارقة يأتون دائما في المركز الأول، في حين تأتي الشعوب الصناعية في المركز الأخير في نسبة الثرثرة والحديث عبر الهاتف.

غير أن حديثي اليوم لا يتعلق بالإحصائيات بقدر مساوئ الثرثرة ودلالاتها الشخصية والاجتماعية.. فمن المؤكد أن ضعف الزاد وقلة الانجاز يُعوضان دائما بالثرثرة الفارغة والتباهي الكذاب.. انظر حولك لن تجد أكثر ثرثرة من شباب عاطلين، أو شيبان متقاعدين، أو عجائز انفض عنهن الأقارب "وقال يا كثر هرج البدو، قلت من كثر ترديده".. ليس أكثر ثرثرة من الشخصية العربية التي اتخذت من الكلام حرفة، ومن الشعر صنعة، ومن المديح رزقا، ومن الهجاء خصومة، وكنا بالفعل "ظاهرة صوتية".. لم نكن يوما أمة بناء وصناعة وأبحاث جادة، فعوضنا ذلك بكم هائل من القصائد والدواوين والحكايات الخرافية - بل وصنعنا سوقا للشعر (نتعاكظ) فيه قديما وحديثا!

لم نتغير كثيرا هذه الأيام رغم تغير وسائل الثرثرة ذاتها.. فما زلنا أكثر الأمم ثرثرة عبر الهاتف، والواتساب، وتويتر، وكل وسيلة تقنية تحمل كلامنا لأكبر قدر ممكن من الناس.. لم نحتل فقط المركز الأول في تناقل الشائعات وإعادة التغريدات، بل وأصبحنا ننتج 90 تغريدة إرهابية بالدقيقة و129 ألف تغريدة مسيئة في اليوم (حسب عبدالمنعم المشوح رئيس حملة السكينة)!!

هناك مقال جميل للدكتور عبدالله الطاير (نشر في صحيفة الرياض في 25 نوفمبر2014 تحت عنوان السعوديون الأول عالميا في الإشاعة) جاء فيه:

.. تصدر ميري ميكر Mary Meeker تقريرا سنويا حول نزعات مستخدمي الإنترنت واتجاهاتهم.. وفي تقريرها لعام 2013 تصدر السعوديون المشهد حيث عمد 60% منهم إلى مشاركة ما يصلهم مع الآخرين من خلال إعادة الإرسال... وكانت هذه النتيجة هي الوحيدة في التقريرالتي بدأت بكلمة wow واو حيث اتضح أن معظم السعوديين يُشركون الآخرين فيما يصلهم - في حين اتضح أن الأمريكان متحفظون... وربما لا تعلم السيدة ميري (وما يزال الكلام للطاير) أن كل رسالة تصلنا تذيل باستحلافنا بالأيمان المغلظة وتهديدنا بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم نُعد توجيهها!!

وفي حين تأتي بعدنا الهند واندونيسيا وتركيا (في نسبة إعادة الإرسال) هناك في المقابل شعوب شغلها العمل والانجاز عن الثرثرة وتناقل الكلام.. ففي ذيل القائمة يأتي اليابانيون (بنسبة 5%) ثم الألمان (9%) ثم الفرنسيون والبريطانيون (10%) ثم الأمريكان (15%) من حيث نسبة إعادة الإرسال!!!

المشكلة أننا نفعل ذلك رغم امتلاكنا رصيدا هائلا من النصوص والأحاديث التي تحذر من القيل والقال وتناقل الكلام.. خذ كمثال حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" وقوله "بئس مطية الرجل زعموا" وكذلك "كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"..

نتحدث دائما عن ضرورة وجود "ضوابط شرعية" في كل شيء - رغم أن الأصل في الأشياء الإباحة - ونتجاهل ضرورة وجود "ضوابط شرعية" في وسائل الكترونية من طبيعتها الغمز واللمز والغيبة والنميمة!!

يأخذ العالم عنا فكرة خاطئة بأننا شعب خجول ومتحفظ؛ ولكن الحقيقة هي أننا لسنا متحفظين حين يتعلق الأمر بالثرثرة وصنع الضجيج وإعادة تصدير الشائعات.. فهل يكمن السبب في موروثنا العربي القديم، أم في فراغنا العملي الحديث؟

هل يكمن في امتلاكنا ثقافة كلام وأدب وتنظير، أم لأن من لا يراقب الناس في مجتمعنا ويعلق على تصرفاتهم ونواياهم يموت "طفشا" قبل أن يموت "همّا"!؟

أترك لك حرية الثرثرة على هذا السؤال.

هل نملك سقفاً أعلى من التفكير؟


كتبت قبل فترة مقالاً أشرت فيه إلى توقف "متوسط الذكاء العام" في الدول المتقدمة واستشهدت بإرشيف اختبارات الذكاء في اليابان والدنمرك وفنلندا وإيرلندا وألمانيا.. غير أن الحديث عن (توقف مستوى الذكاء) لا يعني حتمية الغباء والتخلف لأن هناك شعوباً لم يرتفع فيها متوسط الذكاء أصلاً، في حين يبقى احتمال وصول الشعوب المتقدمة إلى "سقف أعلى" يصعب على الدماغ البشري تجاوزه أصلاً! والحقيقية هي أن علماء النفس والأعصاب لا يعلمون إلى اليوم إلى أي حدّ يمكن لذكاء الإنسان أن يرتفع.. فمن الملاحظ عموماً أن ارتفاع مستوى التعليم والمعرفة (ناهيك عن التعقيد التقني والانفتاح والعولمة) ترفع كلها من متوسط ذكاء المجتمع.. فمستويات الذكاء ارتفعت بين الأجيال الأوروبية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بشكل واضح ومؤكد. وهي ظاهرة لوحظت في دول مثل بريطانيا التي سجل فيها ذكاء الأطفال ارتفاعًا قدره 27 نقطة منذ عام 1942 وفي أمريكا 24 نقطة منذ عام 1918 والأرجنتين وأوروبا واليابان وكندا والصين وأستراليا ونيوزيلندا (بمتوسط20 نقطة) منذ عام1950.

وهذه الظاهرة غير المسبوقة في التاريخ تم التأكد منها لأول مرة بفضل أبحاث البروفيسور جيمس فلاين من جامعة أوتاجو (في نيوزلندا) الذي اختبر عام 1987 متوسط ذكاء الأطفال في 14 بلداً ثم قارنها بالنتائج المتوفرة منذ عام 1950 فوجد طفرة حقيقية في المتوسط العام.. كما راجع سجلات الجيش في هولندا وبلجيكا والدنمرك (حيث يخضع المجندون الجدد لاختبارات الذكاء) فوجد أن متوسط الذكاء ارتفع لدى الجيل الجديد بمعدل 25 نقطة!!

أيضا درس هذه الظاهرة البروفيسور روبرت هوارد من جامعة نيوساوث ويلز في استراليا وتوصل لنتائج مشابهة وجمع أدلته من امتحانات الذكاء، والألعاب الذهنية (كالشطرنج والبريج) وقدرة الأطفال على الاستنباط والتحليل؛ وأتت النتائج إيجابية وحقق الأطفال من كل الدول مستويات أعلى من آبائهم وأجدادهم! فأطفال اليوم يملكون ميزة نوعية تتمثل في ارتفاع مستويات التعليم والثقافة والانفتاح والاطلاع وتمازج الأفكار أكثر من آبائهم وأجدادهم. وهذه الميزة ساهمت في رفع متوسط ذكائهم مقارنة بأقرانهم في الأجيال الماضية ليس بسبب تغير مادة الدماغ ذاتها بل بسبب توسع المدارك وتراكم المعارف الجديدة.. وكي تفهم الفكرة بشكل أفضل تخيل مستوى فهم رجل يعيش في جزيرة العرب قبل 500 عام فقط ومدى معرفته بالجغرافيا والتاريخ والفلسفة ووجود شعوب تعيش على بعد ألف كيلومتر فقط ناهيك عن وجود فنزويلا والأرجنتين وحلقات زحل وتقنية النانو والوجة المظلم للقمر...!

لهذا السبب لا تستغرب إن أخبرتك أن ذكاء أطفال اليوم أصبح يضاهي عبقرية الأفراد قبل قرنين من الزمان.. بل لاحظ كيف أن ذكاء الأطفال (حتى على مستوى العائلة الواحدة) أصبح واضحاً من خلال تفوق الأبناء على آبائهم في استعمال الكمبيوتر وألعاب الفيدو وتعلم القيادة وإتقان اللغات الأجنبية بسرعة مدهشة! وحين يبدي الخبراء اليوم خشيتهم من توقف متوسط الذكاء في الدول المتقدمة؛ فلأن الدول المتقدمة هي الأقدر على أخذ أجيال المستقبل لمستويات جديدة من الذكاء لا نعرفها حاليا (وبالتالي الاطمئنان إلى تمتعنا بعقول يمكنها اختراق كافة الأسقف المفترضة للفهم والمعرفة)!!

أنا شخصياً على قناعة بأنه كما توجد في مملكة الحيوانات مخلوقات لا يمكنها الارتفاع بتفكيرها وفهمها فوق سقف معين، نملك نحن البشر أيضاً سقفاً أعلى من الذكاء لا يمكننا تجاوزه أو الارتفاع فوقه (أو حتى تخيل وجوده)!!

وهذا أيها السادة يعني حتمية وصول جميع البشر (في المستقبل البعيد) إلى سقف موحد من الذكاء ومتوسط مشترك من الفهم يتساوى عنده الجميع..

حينها فقط يمكن القول إننا أصبحنا رأساً برأس مع الجابانيز!

ماذا عن رأي المجتمع والمرأة نفسها؟


اتصل بي أحد الأصدقاء ليخبرني أنه بالإضافة للشيخ الغامدي جدد الشيخ عايض القرني فتواه بجواز كشف المرأة لوجهها (في قناة اقرأ).. لم أشاركه الحماس وقلت: لم يأتيا بشيء جديد (وأعجب كيف يأتي أحد بشيء جديد بعد اكتمال الدين ووفاة نبينا الكريم) حيث سبقهم في ذلك المالكية والأحناف والشافعية وفقهاء الأزهر والعراق والمغرب والشيخ الألباني في المدينة المنورة (الذي قال عنه الشيخ ابن باز لا أعلم أحداً أفقه بحديث رسول الله بعد البخاري من الألباني).. وسبق كل هؤلاء رسول الله نفسه الذي قال لأسماء: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يري منها إلا هذا وهذا" يعني الوجه والكفين.

غير أن التأثير المغيب والحقيقة التي نغفل عنها دائماً هو دور الأعراف والتقاليد والمرأة ذاتها في قضايا كهذه.. هل نعتقد مثلاً أنها ستكشف (أو تغطي) لمجرد أن الشيخ الفلاني قال ذلك.. فهناك أعراف وتقاليد وقناعات فردية يجب أخذها بعين الاعتبار حتى إن تجاوزنا مسألة الحلال والحرام.. لا تتوقع من كل الناس فعل الأشياء لمجرد أنها حلال (فأكل الأخطبوط حلال أيضاً) كون هناك من لا يريد أو لا يستسيغ ذلك بكل بساطة.

خذني أنا كمثال حيث أملك (وبكل وضوح وصراحة) قناعة تامة بأن وجه المرأة ليس عورة، وقيادتها للسيارة ليست محرمة، وعملها في الأماكن المفتوحة جائز شرعا.. ولكن.. ماذا عن رأي المرأة نفسها؟.. ماذا عن رأي عائلتها ومجتمعها؟.. لم أحاول إقناع نساء عائلتي بكشف وجوههن لأنهن ببساطة يعرفن ذلك (ولا يُفتى ومالك في المدينة) ولكن المدينة نفسها تغيرت (رغم بقاء الفقة المالكي) وأصبحت تتبنى النقاب ضمن مجتمع أكبر يساند وجوده.

كان الشيخ الألباني مرضياً عليه حتى نشر كتابه (جلباب المرأة المسلمة) فقيل له: كيف تقول بجواز كشف الوجة وبناتك منتقبات؟ فقال: بناتي تربين في المدينة ونشأن على ماهو سائد بين الناس.

من هذا الجواب نتعلم ضرورة التفريق بين المحرم الديني والمحرم الاجتماعي.. فمن غير اللائق (ولا حتى من الذكاء) صدم المجتمع حتى في مباحات يرفضها.. يمكنك أن تعلم بناتك القيادة إن شئت، أو تتفق مع زوجتك على كشف وجهها إن أرادت، ولكن لا يمكنك أن تصدم الناس بفعل ذلك علنا على التلفزيون أو تخرج بمظاهرة تطالب المرأة بقيادة السيارة.. الأسلوب الصادم والمباشر يرفضه الناس قبل الدولة، ويصده المجتمع قبل وزارة الداخلية.. لا يمكنك أن تتصور اقتناع المجتمع برأيك في التحليل والتحريم فور انتهاء الحلقة.. وتكون واهماً إن اعتقدت أن نساءنا سيخرجن في اليوم التالي لقيادة سياراتهن (من أجل عينيك) كونهن نشأن في سياق اجتماعي يرفض التغيير المفاجئ.

أنا شخصياً لا أعتقد أن للدولة شأناً خاصاً بمن تكشف عن وجهها أو تقود سيارة والدها (فهذه تصرفات شخصية تنأى بنفسها عنها) ولكنها بدون شك تهتم بالنتائج المترتبة على فعل ذلك بصورة صادمة للمجتمع أو معارضة للسائد المحافظ.. تجاربنا السابقة تثبت أن مجتمعنا يرفض قبل الدولة القرارات الصادمة ومطالب التغيير المفاجئة.. ولكنه في المقابل يتقبل التغييرات التدريجية والبطيئة التي لا تخلّ بنسيجه الثقافي أو بنائه الاجتماعي.. خذ كمثال تعليم البنات الذي تطلب عقوداً كي ينتشر ويخرج عن عباءة التيار المتشدد.. أو بطاقة أحوال المرأة التي كانت عيباً وخروجاً عن التقاليد واليوم غدت ضرورة يطالب بها حتى القضاة.. أو عملها في المستشفيات والأماكن المفتوحة الذي كان عيباً وفضيحة وغدا اليوم مطلباً وتنافساً على الوظيفة... وجميعها تغيرات لم تأت بعد مظاهرة أو فتوى أو ظهور إعلامي، بل من خلال تطور اجتماعي، وانفتاح فقهي، وتغير تدريجي يراعي مشاعر الجميع.

ما أود قوله باختصار:

قبل أن تحدثونا عن رأي الشيخ فلان وعلان، يجب ألا يغيب عنكم رأي المرأة نفسها في هذا الفعل أو ذاك.. وقبل أن تتوقعوا حسم الأمور بفتاوى متضاربة تذكروا وجود تقاليد ثابتة تملك تأثيرها الخاص.. وقبل أن يحاول أي تيار فرض وصايته على المجتمع يجب أن يدرك أن المجتمع يتغير (بمزاجه الخاص) وبطريقة متدرجة ومسالمة.. لا تلعبوا على مشاعره كونه سيرفضكم ويغضب منكم ويزداد تصلبا على موقفه.. وقبل أن تنشروا أي فتوى متشددة أو دعوة متحررة تذكروا أن قانون نيوتن في الفيزياء ينطبق أيضاً على المجتمعات البشرية حيث "لكل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة.. ومضاد له في الاتجاه".

قراءة الكفين.. هل أصبحت تخصصاً طبياً جديداً؟


قبل عشرة أعوام تقريبا اكتشفت طالبتان كنديتان طريقة غريبة لترجيح الإصابة بسرطان الثدي عن طريقة بصمة الإبهام.. فخلال عملها كمتدربة في مستشفى جامعة كالاجاري اكتشف كيتلين هيكز أن النساء اللواتي يملكن (حلقة بصمة) تتجه نحو اليمين أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي من اللواتي يملكن بصمة تلتف نحو اليسار.. وحين أبدت هذه الملاحظة لزميلتها ليندا بلندتاون قررت الاثنتان إجراء مسح ميداني بين مريضات السرطان وكانت دهشتهن كبيرة حين اكتشفن وجود هذه العلاقة بنسبة يصعب إنكارها.

وكان أطباء أمريكان قد أيدوا في عام 2002 فكرة الكشف عن أمراض القلب ونسبة الكلسترول من خلال راحة اليد (وأقول أيدوا لأن الفكرة خرجت أولا من روسيا) وتعتمد الطريقة على غسل اليدين جيدا ثم دهنها بسائل يتفاعل مع الكلسترول ثم رؤيتها تحت ضوء أزرق في غرفة مظلمة.. وكما ازدادت زرقة الشعيرات الدموية الموجودة على سطح الكف كلما أكد ذلك ارتفاع نسبة الكولسترول في الدم (وبالتالي إمكانية إصابة صاحبه مستقبلا بجلطات ومشاكل قلبية خطيرة)!

وهاتان الطريقتان مجرد نموذج لإمكانية الكشف عن بعض الأمراض من خلال مراقبة الكفين فقط.. فبعد أن كانت "قراءة الكفين" خاصة بالمشعوذين والعرافين؛ أصبح لها أساس طبي وبيولوجي لا يمكن إنكاره.. وأقدم دراسة موثقة أعرفها ظهرت عام 1950 حين ثبت أن الحالات المنغولية تصاحب دائما بوجود خط إضافي في أعلى الكف يدعى "خط سيميان كريس".

وفى عام 1960 أثبت الطبيبان روث اكس وريتا هاربر من مستشفى جامعة نيويورك أن جميع من ولدوا أثناء تفشى الحصبة الألمانية كبروا ولديهم بصمات وخطوط كف غير طبيعية.. وفي السنة التالية حاول علماء من مستشفى اوساكا فى اليابان تقييم تلك المعلومة فاكتشفوا بالصدفة إمكانية التنبؤ بمشاكل الدورة الدموية من خلال التغيرات فى بصمات الأصابع.. وكنت شخصيا قد كتبت مقالا خاصا عن وجود علاقة بين طول أصبع البنصر والإصابة بأمراض القلب؛ فالوضع الطبيعي هو ان يكون البنصر (ثاني أصبع من اليسار) اطول من السبابة بنسبة 10 بالمائة.. أما إن كان البنصر مساويا للسبابة أو أقصر منه فان احتمال الإصابة بالقلب يعظم بعد سن الخمسين (ويكمن السر هنا في وجود علاقة حقيقية بين إطراف الانسان ومستوى الهرمون الجنسي لدى الرجال الذي يرفع من احتمال الإصابة بإمراض القلب)!

وبالإضافة لاختبار الكولسترول الذي بدأنا به المقال أصبح ممكنا اليوم تشخيص أمراض عديدة من خلال لون الكف (وردي، ازرق، اصفر، شاحب) أو من خلال طبيعة الأظافر وملمس الأصابع (كالأصابع اليابسة والمنتفخة والأظافر المتآكلة أو الجافة) أو من خلال حركات واهتزازات الكفين (كالشلل الرعاشي مثلا).

وكل هذا أيها السادة يذكرنا بنوع قديم من المعالجة الطبية يدعى الريفوكسولوجي تعتمد فكرته على تدليك نهايات الأعصاب والعروق في باطن الكفين والقدم لتخفيف الألم وتنشيط الجسم وإعادة التوازن للأعضاء الضعيفة (وتذكر مدى شعورك بالراحة حين تمرر يديك او قدميك على حافة حادة).

على أية حال؛ الحديث يطول حول هذا الموضوع ولو أردنا استعراض جميع الأعراض (التي تبدو على الكفين وتدل على ما يقابلها من الأمراض الباطنية) لاحتجنا إلى أكثر من ثلاث مقالات.. المؤكد أن "قراءة الكفين" لم يعد لها اليوم علاقة بالعرافة وأصبحت تخصصا طبيا (يُفترض) أن يدرس لطلاب الطب.

الفيل في الغرفة


قبل أيام كنتُ في معرض للسيارات حين دخل رجل وسألني بارتباك: "هل هذا معرض السيارات؟" لم أستطع كتم ضحكتي وكدت أقول له: وهل هناك أوضح من وجود الفيل في الغرفة؟! والجملة الأخيرة جملة مجازية تنتشر في انجلترا "Like Elephant in the room"للرد على أي سؤال أو نقاش تكون معرفته بدهية وواضحة (مثل عين الشمس)، وطالما ذكرنا الشمس؛ خذ كمثال قصة الإمام أبي حنيفة الذي كان ماداً رجليه فدخل عليه رجل طويل اللحية نظيف الهندام، تبدو عليه ملامح العلم والصلاح، فلما رآه اعتدل في جلسته وكف رجليه، ثم تكلم الرجل وقال: متى يحين موعد الإفطار؟ قال أبو حنيفة: إذا غربت الشمس. قال الرجل: فإن لم تغرب إلا منتصف الليل؟ فقال: "حان لأبي حنيفة أن يمد رجليه".

أيضا هناك الإمام الشعبي الذي عرف بأجوبته المتهكمة على الأسئلة الغبية والمتنطعة (وأعذره في ذلك كون بعض المستفتين لا يتركون مجالا غير الإجابة عنهم بهذه الطريقة) فقد سأله أحدهم مثلا كيف أمسح لحيتي؛ فرد عليه: خللها بأصابعك.. فعاد وسأله: ولكن أخاف ألا تبتل! فقال: انقعها من أول الليل!

وخذ كمثال ثالث قصة بني اسرائيل حين أمرهم الله أن يذبحوا بقرة.. أي بقرة.. ولكنهم ظلوا يجادلون ويماطلون ويسألون عن لونها وعمرها ونوعها (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ولم يكسبوا غير التشديد على أنفسهم في طلب كان بسيطا وواضحا منذ البداية!

تذكر أنت معي؛ كم مرة اضطررت للدخول في نقاشات وجدليات تخص قضايا كنت تعتقد أنها محسومة وواضحة بطبيعتها.. كم مرة اضطررت للإجابة عن مسائل بدهية أو الدفاع عن قضايا هي أصلها جميلة ومباحة (حسب قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة).. حين تتأمل مجتمعنا ككل تكتشف أننا كثيرا ما ننشغل بقضايا لا يفترض أصلا أن نختلف أو نتناقش حولها.. قضايا نخلقها من العدم - أو تتضمن احتمالا بعيدا - فنحولها لقضية مصيرية تستهلك طاقتنا وتعيق تنميتنا وتدور فينا في حلقات مفرغة..

وبدل أن نعمل بقاعدة "فتح الذرائع" أو الأصل في الأشياء الإباحة، نتمسك بقاعدة "سد الذرائع" ونسأل عما لم يرد فيها نص صريح - وبالتالي نلزم أنفسنا بفتاوى متشددة لم تكن لتظهر لو تقيدنا بقوله تعالى (لَاتسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لكُمْ تسُؤْكُم) أو قول رسوله الكريم (إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم..).

أصادف دائما جدليات ومعوقات كهذه في الصحف ووسائل الإعلام وتصريحات المسؤولين.. خذ كمثال من حاول تعطيل قانون التحرش الجنسي بقوله "هذا المصطلح ليس معروفا في قاموس الفقهاء"، أو من عارض عمل المرأة بحجج افتراضية (ليست فقط بعيدة الاحتمال بل وتلغي إرادة المرأة في الفعل ذاته).. وحين نشرت احدى الصحف قبل فترة خبرا بعنوان: "افتتاح السينما في السعودية معلق بموافقة أربع جهات حكومية" قلت لنفسي: "صح النوم، نحن أكثر شعب يملك قنوات سينمائية ويشاهد أفلاما داخل المنزل"!!

على أي حال؛ سنتجاهل الآن المسؤول عن إدخال الفيل للغرفة، ونتحدث عن وجوه أخرى للمشكلة تظهر بسبب حجم الفيل نفسه: فحين يتواجد معك في نفس الغرفة سيكتم بالتأكيد على أنفاسك، ويضيق عليك حياتك وبالتالي يصبح من الغباء تجاهله أو إنكار وجوده.. وتصبح المشكلة أكبر حين يكون معك في الغرفة منذ ولادتك فتتعود على وجوده ولا تشعر أنه (يكتم على أنفاسك ويضيق عليك حياتك) حتى تجرب غرفة أخرى فارغة.

أما المصيبة الأعظم فهي أن يكون الفيل أكبر وأضخم من أن تراه كاملا - وبالتالي لا تعرف منه غير خرطومه الطويل، أو قدمه الضخمة، أو أذنه الكبيرة.. وهذه حالة طارئة تتطلب خروجك فورا من الغرفة كي تراه من بعيد فتدرك حجمه كاملاً وخطورة التواجد معه في نفس المكان!

من مقدمات الكتاب (2-2)


سنتابع في هذا الجزء بعضاً من المقولات الافتتاحية في كتاب (من يعرف جنياً يتلبسني؟) الذي صدر لي مؤخراً.. وهي بمثابة جمل وأفكار مختصرة أتت ضمن "مستطيل" يسبق كل مقال ويعبر عن فكرته باختصار.. وفي حين يتجاوز عددها الثمانين مقولة، سأكتفي بالنماذج التالية كمثال:

لو اكتشف الفراعنة الثورة الصناعية لكنا اليوم نتنزه بين النجوم (من مقال: لماذا فشلنا في اكتشاف العلوم الحديثة).

الأمم العريقة قد تدخل في غيبوبة طويلة ولكنها لا تموت في النهاية (من مقال: هل يعيش العرب في العصور المظلمة!؟).

منح الله جميع الأمم ثروة طبيعة ما ولكنه ترك لهم مهارة استغلالها (من مقال: ثمن الجهل).

الحقيقة التي يصعب الالتفاف عليها هي أن معظم قوائم التنمية الدولية تضم في آخرها دولاً إسلامية (من مقال: لماذا في مجتمعاتنا الإسلامية فقط).

ليس أخطر من كتاب تافه يحظى بمصداقية كبيرة (من مقال: لا تصدقوا أكاذيب التراث).

يفسر البشر حوادث الدنيا بطرق كثيرة.. ولأن أقلها تعقيداً يبدو كمكعب يملك ستة أوجه، يصبح من الخطأ النظر لوجه واحد فقط (من مقال: لماذا سقطت المروحة).

تفهم عقولنا الأفكار الناقصة والحقائق المشوهة بطريقة تعزز معتقداتنا الخاصة وآراءنا المسبقة عنها (من مقال: الصورة في عين المؤمن).

كيف نصدق بقدرة مشعوذ أو ساحر على تسخير الجن والشياطين في حين كان نبي الله سليمان آخر إنسان سخرت له بدليل قوله تعالى "وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" (من مقال: من يدعي ذلك بعد سليمان).

الجنس البشري لا يمكنه العيش بدون فكرة وجود كائنات خفية يحملها مسؤولية أخطائه ومآسيه والذنوب التي اقترفها في حياته (من مقال: كائناتنا الخفية).

المجهول واللاشيء أعظم ما لم يكتشفه الإنسان حتى الآن (من مقال: أعظم مالم يكتشف).

هناك نوعان فقط من العلماء؛ الأول مؤدلج يتبنى موقفاً مسبقاً ويقدم معطيات تؤكد نتيجته هو.. والثاني نزيه ومحايد يعمل من خلال منهج بحثي مجرد ويسعى لنتيجة لا يعرفها ولم يقررها سلفاً (من مقال: العالِم النزيه والعالِم المؤدلج).

يفضل معظمنا نيل رضا المجتمع على الاستقلال والتفرد ومعارضة السائد.. وخيار كهذا يعني انضمامنا تلقائياً لنادي القطيع دون الحاجة لإبراز بطاقة الهوية (من مقال: كم يتطلب الأمر كي تؤجر عقلك).

نستحق نحن السعوديين كأس العالم في "القفز الإلكتروني" خارج حدود الوطن وقيود المجتمع ثم العودة قبل خط النهاية "بطقة زر".. (من مقال: الوصاية الفكرية مهمة فاشلة منذ البداية).

قد أختلف معك ولكن لماذا أعاديك!؟ وقد أسعى لتذكيرك ولكن لا أملك حق إجبارك أو السيطرة عليك..(من مقال: هل نفتقد لأدب الحوار).

وأخيراً:

لا يمكنك الحكم على شعب من خلال فرد يصرخ بأعلى صوته (من مقال: إذا سمعوا اللَّغو).

من مقدمات الكتاب (1-2)


صدرت مؤخراً الطبعة الثالثة من كتاب (من يعرف جنياً يتلبسني؟).. وهو كتاب يتضمن المقالات التي حققت وقت نشرها أكبر نسبة من تعليقات وردود القراء إما لطبيعتها الجريئة أو مواضيعها التي تناقش الاحتمال الآخر وغير المتوقع في أكثر من 80 موضوعاً وقضية يهمك معرفتها.. ولأن ذاكرة الإنسان تنسى التفاصيل ولا تحتفظ سوى بالأفكار والمقولات المختصرة - وهذا بالمناسبة سر نجاح تويتر - عمدت في هذا الكتاب إلى اختصار كل مقال بجملة واحدة فقط وضعتها في بدايته (ضمن مستطيل خاص).. ... ومن هذه الجُمل أو المقدمات اخترت لكم التالي:

جمال وعبقرية العقل البشري لا تكمن في عثوره على الأجوبة الشافية بل في طرحه للأسئلة المعلقة (من مقال: أعظم الأسئلة في التاريخ).

(وَإِنّ يوْماً عِند ربكَ كأَلْفِ سنةٍ مّمّا تعُدّون) أول إشارة لنسبية الزمن في التاريخ(من مقال: التاريخ في سنة).

لا يوجد زمن حقيقي بل إحساس بشري يصنف الأحداث بطريقة متوالية بحيث يتوقف الزمن لكل إنسان لحظة وفاتنا(من مقال: معضلة الوقت).

مشكلة التاريخ أنه لا يكتب كما حدث بل كما نرغب نحن بحدوثه (من مقال: التاريخ كيف سنكتبه هذه المرة).

من اللؤم والخداع محاورة الآخرين من خلال المقارنة بين عصرين متباعدين، أو ثقافتين مختلفتين، أو حدثين لا نعرف خلفياتهما (من مقال: بخصوص عائشة).

القول بأمية الرسول لا تتفق مع آيات كثيرة توحي بقدرته على القراءة والتلاوة، ووصفه ب(الرسول الأمي) لا يعني الأمية الكتابية بدليل اقرأ ويتلو صُحفاً مطهرة (من مقال: هل كان الرسول أمياً لا يقرأ ولا يكتب).

الانتقام من طبيعة البشر أما العفو فمن شيم العظماء (من مقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).

تدمير موقع العيش، ثم البحث عن موقع جديد؛ تصرف لا يمارسه سوى نوعين من المخلوقات.. الفيروسات.. والإنسان (من مقال: الإنسان الفيروس).

حجم الكون لا يقاس بالسنوات الضوئية بل بقوة تلسكوباتنا الفلكية(من مقال: الكون حطم غرور الإنسان).

لا يحتاج الدين لدليل إثبات، ولا يصدق المؤمنون بدليل نفي (من مقال: مكة ليست مركزاً للكون).

المتطرف شخصية نرجسية انشغلت عن نقصها بتصيد نزوات البشر وترصد أخطاء المجتمع (من مقال: تشريح المتطرف).

فرضية داروين استغلت منذ ظهورها كساحة للمتعصبين من كلا الطرفين.. فالعلمانيون تبنوها كبديل للخالق، والمتدينون رفضوها بالكامل، والحقيقة هي أن مبدأ التطور ذاته واقع ومشاهد تثبته الأحافير ولا يخرج عن مشيئة لله (من مقال: الدارونية هل تتعارض مع الفكرة الإلهية).

وأخيراً وجهت رسالة إلى ابن المقفع قلت فيها:

رحمك الله يا أبا عبدالله؛ أعماك حب العرب عن شر قد اقترب.. فرغم أعدادنا الهائلة انتقلنا بعد وفاتك من خانة "العرب العاربة" إلى "العرب البائدة" ونحن بين الأمم أحياء.

من يتحكم بعالمنا؟


السيطرة على الإعلام تعني السيطرة على العقول .. وفي عصرنا الحالي 87% من مجمل الأخبار العالمية تتدفق عبر وسائل الإعلام الأمريكية، وما تبقى من دول غربية رئيسية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا.. وحتى عام 2011 كان هناك 50 شركة تسيطر على الإعلام الأمريكي وبالتالي تسيطر على الإعلام العالمي. غير أن حمى التكتل طالت هذه الشركات بهدف بناء إمبراطوريات عالمية ذات نفوذ إعلامي مخيف.. واليوم انتهى الأمر بوجود 6 شركات فقط تسيطر على 90% من صناعة الإعلام، تشمل الأخبار والتقارير والسينما والبرامج الترفيهية.

ولاحظ أننا نتحدث هنا عن شركات عملاقة (مثل فوكس ووارنر وCBS) تعمل في مجال الإعلام فقط.. فهناك أيضا شركات عملاقة (مثل شل وآبل وبوينج وكوكاكولا) لا تعمل في الجانب الإعلامي، ولكنها تملك قوى ضغط سياسية هائلة تؤثر في مجلسي الكونجرس والنواب ومصير المرشحين لدخول البيت الأبيض، وتؤثر بذلك في سياسة أمريكا في الخارج بطريقة غير مباشرة..

وفي المحصلة نكتشف أن الشركات الكبرى (والعابرة للقارات) هي من يدير العالم في الخفاء سواء من خلال الإعلام أو التحكم بمفاصل السياسة والاقتصاد.

وهذه العلاقة ليست جديدة تماما كونها تعود الى القرن السابع عشر مع بدايات العصر الاستعماري الهولندي ثم البريطاني في القرنين الثامن والتاسع عشر.. فالاستعمار الهولندي لاندونيسيا وسيرلانكا مثلا بدأ تحت غطاء شركة "الهند الشرقية الهولندية" في حين بدأ الاستعمار البريطاني للهند وأفريقيا تحت ستار "شركة الهند الشرقية البريطانية".. ورغم أن معظم الدول الاستعمارية تخلت عن فكرة الاحتلال العسكري في عصرنا الحالي، فإنها تملك اليوم 40 ألف شركة تقوم بدور مماثل ولكن دون أن تثير حفيظة السكان الوطنيين.. فهي شركات تعمل من خلال وجوه محلية وتملك نفوذا (وميزانية) تفوق نفوذ (وميزانية) كثير من الدول العاملة فيها.

إن ميزانية اكبر عشر شركات عالمية مثلا تتجاوز اليوم ميزانية اصغر مئة دولة فى الأمم المتحدة، في حين تسيطر اكبر 500 شركة متعددة الجنسيات على 44% من ثروات العالم.. ولأنها تنتمي لأقوى الدول في العالم وتتداخل مع الجهاز السياسي فيها تؤثر هذه الشركات في الأحداث الدولية وتملك نفوذا كبيرا على الدول الأقل شأنا.. فهناك مثلا 15 شركة فقط تحتكر ما بين (70% الى 90%) من إنتاج الحبوب والأرز والشاي والحديد والنحاس والقطن والخشب على مستوى العالم.. كما تملك شركة شل وحدها حق التنقيب في 400 مليون فدان حول العالم الأمر الذي يجعلها تسيطر على مساحة اكبر من أي دولة من ال146 فى الأمم المتحدة!

والمحصلة أن كثيرا من الحكومات العالمية أصبحت تعتاش على فتات الشركات العالمية؛ فشركة فيليب مورس مثلا تشكل عماد الاقتصاد في 19 دولة.. أما شركة أنتل الامريكية (التي يتجاوز اقتصادها دول شمال إفريقيا) فمسؤولة عن 37% من صادرات كوستاريكا و6% من صادرات المكسيك!

بعد كل هذا هل بقي شك فيمن يحكم العالم ويفرض قوانين الأسواق المحلية!؟

هل بقي مجال للشك في أن من يتحكم بعالمنا هي مصالح اقتصادية هائلة تقودها شركات عابرة للقارات!؟

تأثير الروائح على مزاج الإنسان


للروائح تأثير لا يخفى على مزاج الانسان وحالته النفسية.. والطيب، من الأشياء القليلة التي حببت لنبينا الكريم وقال بعض العلماء ليس في شرائها إسراف.. وأدمغتنا تفسر جميع الأنواع برفقة مشاعر وذكريات قديمة مبهجة أو محزنة. لهذا السبب حين نشم رائحة معينة نتذكر على الفور مواقف مرادفة وذكريات سابقة وندخل فورا في مزاج جديد. وهنا روائح ليس بالضرورة عطرية تؤثر في أدمغتنا ومشاعرنا بطريقة عصبية غامضة..

أذكر أنني دخلت في الهند (صيدلية عطرية) متخصصة في علاج المشاكل الصحية والنفسية كالأرق والتوتر والاكتئاب.. بل وحتى لوعة الحب والاشتياق.. وحين اشتكيت للصيدلي مشكلتي مع الأرق منحني عطرا هادئا نصحني ببخه على الوسادة قبل النوم. ورغم أنني لم أصدق حينها هذا الادعاء اشتريت العطر وأصبحت رائحته اليوم ترتبط لدي بحالة النعاس والنوم (ذهنيا على الأقل).

أيضا سبق أن دخلت في مدينة نيس الفرنسية معرضا خاصا بالروائح العطرية القديمة التي كانت سائدة في فرنسا وعموم أوروبا.. كان بعضها يعود الى عهد الملكية وزمن نابليون، في حين يعود بعضها الآخر لزمن الرومان والقرون الوسطى.. وحسب ما فهمت بدأت فكرة المعرض حين طالب خبير عطورات مسن بالحفاظ على روائح جميلة كانت سائدة في طفولته.. ولأن الفكرة راقت لنقابة العطارين في المدينة ساهموا معه في إحياء الروائح القديمة من خلال تقديم مخطوطات ووصفات وتراكيب ورثوها جيلا بعد جيل (وكان الأمر أشبة بإعادة الحيوانات المنقرضة للحياة من خلال تقنية الاستنساخ).

أما في أديلايد بأستراليا فبنى شخص يدعى ريتشارد جو متحفا خاصا بالروائح يتضمن أكثر من مئتي رائحة مختلفة.. وبعكس متحف نيس يتضمن هذا المتحف حتى الروائح العفنة وغير المستحبة مثل غاز الكبريت، وبول القطط، والجثث المتحللة، والبيض الفاسد من خلال كمامة يضعها الزائر على أنفه ثم يضغط زر الرائحة المطلوبة!

وحين زرت اليابان عام 2013 أدركت أن اليابانيين نقلوا الفكرة برمتها الى ساحة الانتاج الموسع.. فهناك مئات الروائح التي يتم تسويقها هناك لحل مشاكل نفسية وجسدية غير متوقعة.. فهناك مثلا عقار لمكافحة السمنة وإزالة الشحوم يعتمد على "شم" رائحة تحفز الدماغ على إحراق الدهون وتخفيض الوزن.. وهو من انتاج مختبرات شركة شيسيديو التي تسيطر على 80% من أسواق التجميل في اليابان وتدعي أنه يعتمد على وجود روائح تطلق مادة النوراديرنالين في الدم. وهذه المادة معروفة بقدرتها على تفكيك الخلايا الدهنية ويتم إفرازها حين يُستثار الجهاز العصبي في الانسان (ولكن حسب معلوماتي المتواضعة يمكن أيضا حث هذه المادة على الانطلاق من خلال استنشاق روائح مثل قشر البرتقال، والفلفل الأخضر، والجريب فروت؛ وبالتالي قد لايجد البدين حاجة لشراء العقار من اليابان)!

واليوم تستعمل اغلب المؤسسات اليابانية جهازا ينشر روائح مختلفة يتراوح تأثيرها على الموظفين بين بث النشاط والحيوية، إلى الهدوء والروية.. واختراع كهذا يترك للمدير خيارات واسعة لنشر العطر المناسب لطبيعة العمل.

تخيل فقط بث رائحة تبقي موظفينا فوق كراسيهم أو تمنعهم من أخذ غفوة قصيرة تحت الشماغ!!

الضياع في بُعد مختلف


ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اتحاد 13 مستوطنة إنجليزية استقرت على طول الساحل الشرقي للبلاد (من بورتلاند شمالاً حتى اتلانتيس جنوباً).. لم يكن الوضع سهلاً في البداية حيث كان يجب على المهاجرين الجدد التأقلم من ظروف الطقس والزمهرير والأمراض وقلة المحصول ناهيك عن هجمات الهنود الحمر.. لهذا السبب لم يكتب النجاح والازدهار لمعظم المستوطنات واختفى كثير منها لأسباب واضحة ومعروفة للمؤرخين..

غير أن هناك لغزاً صعب حله حتى يومنا هذا.. ففي القرن السادس عشر وصل من إنجلترا عدد كبير من العائلات للاستيطان في جزيرة روانك (التي لاتبعد كثيراً عن الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة). وكان المستوطنون يتمتعون بمستوى اقتصادي مرتفع نظراً لخصوبة الأرض ووفرة المحصول(والأهم) بعدهم عن هجمات الهنود الحمر.. غير أن سكان الجزيرة اختفوا تماماً عام 1905 في الوقت الذي بقت فيه مزارعهم ومواشيهم بدون أذى أو تغيير يذكر (وبقيت آثارهم الى اليوم كمتحف مفتوح)!

.. وحادثة اختفاء غريبة كهذه تجدها في تاريخ كل أمة تقريباً.. ففي فبراير 1956 مثلا أرسلت حكومة البرازيل بعثة لتقصي أثر مستعمرة اختفت بأكملها في غابات الأمازون، وكانت الحكومة قد بدأت بإنشاء هذه المستعمرة (وتدعى ولفيردا) كتجربة لتأسيس مدن جديدة في أعماق البلاد، وبدأت هذه المستعمرة بست مئة مزارع قبلوا بالانتقال اليها مقابل مزايا اقتصادية وأراض مجانية. غير أنهم اختفوا بلا سبب واضح بعد عامين ولم يكتشف لهم أثر حتى يومنا هذا(وكانت هذه الحادثة سبباً في فشل برنامج حكومة البرازيل في استيطان الأمازون)!!

.. أما في الصين فاختفت مجموعة من 3000 جندي خارج مدينة يانكين أثناء الحرب العالمية الثانية بلا سبب واضح.. وفي روسيا أختفى 112 جندياً بعد نزولهم في محطة نورسفيك في نوفمبر 1945.. وفي الحرب العالمية الأولى هاجمت فرقة بريطانية ممر غلبولي التركي، ورغم أن الأتراك أجبروا الإنجليز على الانسحاب إلا أن الفرقة اختفت لاحقا بلا سبب وجيه ولايعرف مصيرها إلى اليوم!

أما آخر الاختفاءات الكبيرة (إن تجاوزنا طبعاً تبخر جيش صدام حسين بمجرد دخول الأمريكان) حدث عام 2001 حين ذهبت بعثة من الأمم المتحدة إلى قرية تدعى سمتوتو لتقديم المساعدات الطبية لها.. كانت قرية عادية ضمن قرى كثيرة في شمال الكونغو تعاني من المجاعة والفقر والمرض.. ولكن بعثة الأمم المتحدة لم تجد أحداً من السكان حين وصلت الى القرية في صباح الأول من فبراير.. كانت البيوت سليمة والمواقد مشتعلة والحيوانات تحوم حول المكان ولكن لا أثر للسكان. وحينها افترض البعض أن سكان القرية أبيدوا على يد المتمردين ولكن البحث في الطرقات والبيوت لم يسفر عن إيجاد جثة واحدة.. وعلى بعد كيلومترات قليلة كانت توجد قرى مشابهة لم يسمع أهلها شيئاً غريباً حدث لسكان سمتوتو أو يستقبل منهم أحداً.. ببساطة اختفى سكان القرية بأطفالها وشيوخها ولم يكتشف لهم أثر حتى يومنا هذا!!

... أحد أجمل الافتراضات (وفي نفس الوقت أبعدها عن التصديق) افتراض اختفاء الضحايا في بعد زماني أو مكاني مختلف على كوكبنا ذاته..

وبمثال لا يصعب فهمه؛ الجن يعيشون معنا على الكوكب ذاته ولكننا لا نراهم ولا نشعر بهم لعيشهم في بعد فيزيائي مختلف.. ولندع مخيلتك تُكمل الباقي.

لا تتدخلوا في مصالح الناس كي لا تتعطل


يقول عراب الاقتصاد الرأسمالي آدم سميث: المجتمع يعمل بأفضل حالاته حين يتصرف الأشخاص وفقاً لمصالحهم الخاصة.

وبكلام آخر:

حين يسعى كل فرد إلى تحقيق مصلحته الخاصة (بحرية ونزاهة) ينعكس ذلك على تطور الدولة والمجتمع بأكمله.. وحين تسود الحرية وتختفي العقبات والأنظمة البيروقراطية يصبح الجميع (تلقائياً) شركاء في بناء المجتمع وتطور البلد.. وفي المقابل كلما ارتفعت نسبة التدخل الرسمية في مصالح الناس الشخصية تنعدم المبادرات وتتأخر الإنجازات وتصاب رؤوس الأموال باليأس والإحباط (وهو ما سينعكس حتماً على تطور الدولة والمجتمع).

المدهش أن هذه الحقيقة تنسحب على كافة مناحي الحياة حتى غير الاقتصادي منها.. خذ على سبيل المثال الجانب المروري حيث ترتفع نسبة الازدحام حين يتواجد رجل مرور لتنظيم السير..! وفي الجانب التعليمي تقل نسبة الإبداع والتفكير المستقل بارتفاع نسبة تدخل المعلم في توجية الطالب أو تقيده بمناهج وقوالب مسبقة الصب.. وفي عالم الإنترنت تزدهر الأعمال التجارية والصحف الإلكترونية حتى نعمد إلى سن قوانين مُقيدة بدعوى تنظيمها.. ومن الطبيعي في عالم المال والأعمال أن تحقق شركات القطاع الخاص أرباحاً تفوق شركات القطاع العام بسبب مناخ الحرية ومرونة القرار فيها.. وفي عالم التجارة تزدهر المشاريع الصغيرة بمجرد انخفاض أو اختفاء المتطلبات الحكومية والإجراءات الرسمية المعقدة.

وأيام كانت شركة الاتصالات وزارة حكومية كنا نعاني من قلة الهواتف الأرضية حتى سُمح للأفراد بإنشاء كبائن اتصالات خاصة فانتشرت بسرعة لم تكن ستنجزها الوزارة لو أنيطت بها هذه المهمة! باختصار؛ أي مجال تختاره ستلاحظ أن مصالح الناس فيه تتعطل بحسب نسبة التدخل الرسمي والحكومي فيها...

واليوم لا ينكر خبراء الاقتصاد أن ازدهار النمور الآسيوية يعود بالدرجة الأولى إلى احتلالها المراكز الأولى عالمياً من حيث "الحرية اللاقتصادية".. فنجاح سنغافورة وهونج كونج وتايوان وكوريا الجنوبية يعود إلى عدم تدخل الحكومة في نشاطات الأفراد التجارية.. ففي هذه الدول يمكن لأي إنسان البدء بأي مشروع تجاري دون استئذان أو شروط أو حتى مراجعة الدوائر الرسمية (وبالتالي أصبح الجميع يملك مشروعه الخاص لدرجة اختفاء البطالة وتقدم الدولة ذاتها)..

لهذا السبب سبق وطالبت (في أحد مقالاتي) ليس فقط بالمزيد من الحرية التجارية بل وإلغاء وزارة التجارية نفسها وتحويلها إلى هيئة رقابية صغيرة.. لا تستغربوا هذا الاقتراح؛ فقبل أن نخترع "وزارة التجارة" كان أجدادنا يمارسون أعمالهم بحرية ونجاح ولا يعرفون معنى البيروقراطية أو البطالة وفي وقت لم تكن فيه الدولة لا تضمن الوظيفة لأحد!

... ولأن المجتمع يعمل فعلاً بأفضل حالاته حين يتصرف الأشخاص وفقاً لمصالحهم الخاصة؛ يجب أن نترك للمواطنين مطلق الحرية في إنشاء أعمالهم الخاصة، ونتيح للموظفين فرصة دخول السوق وتجربة حظوظهم بأنفسهم (بدل ترك أسواقنا الحرة للعمالة الأجنبية)!!

... بقيت كلمة أخيرة؛

عالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث الذي بدأنا به المقال لديه مبدأ آخر مفاده: (دعه يعمل، دعه يمر).. وهذا المبدأ يُعد أحد أعمدة الاقتصاد الرأسمالي الحر ويقوم على فكرة أن الإنسان خلق حراً في جمع رزقه وتحقيق مصالحه وبالتالي لا يجب أن تقف أي سلطة عقبة أمام تقدمه الاقتصادي أو مروره الاجتماعي.

الدول الخليجية المتحدة


القمة الخليجية المنعقدة في الدوحة حالياً ستمر مثل سابقاتها مالم تتمخض عن قرار إقليمي مهم (مثل التوحد وفتح الحدود بالكامل)، أو قرارات تمس اهتمامات المواطنين الخليجيين بصفة شخصية ومباشرة (فحال لسان المواطنين الخليجيين أصبح دائماً: وماذا استفدت أنا من كل القمم السابقة؟)...

جميعنا يذكر كلمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في القمة الخليجية الثانية والثلاثين التي عقدت في الرياض وأكد فيها أن الوقت قد حان لانتقال دول الخليج من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد بعد كل هذا القدر من التنسيق والتوافق الذي تمخضت عنه القمم السابقة..

أيضاً مازلت أذكر - حين سمعت لأول مرة بمشروع القطار الخليجي المشترك - أنني تساءلت إن كان اكتماله سيترافق مع فكرة تحوله الى قطار "اتحادي" أو على الأقل قطار "حر" لا يتوقف عند أي معابر حدودية كما هو حال القطارات الأوروبية!؟

فدول مجلس التعاون الخليجي ليست فقط موحدة عرقياً ولغوياً، بل ومتوافقة فكرياً وسياسياً واقتصادياً بحيث أصبح وجود الحدود ذاتها "تحصيل حاصل" وهدراً للمال والجهد ووقت المسافرين.. والحقيقة هي أن دولاً عالمية كثيرة ألغت حدودها مع جاراتها لهذا السبب خصوصاً حين يتم ذلك عطفاً على توافقها السياسي وتماثلها الاقتصادي وتطابقها الأيدلوجي (وخذ كمثال الحدود المفتوحة بين أمريكا وكندا، وفيتنام وكمبوديا، ومعظم الدول الأوروبية حتى قبل ظهور فيزا شنجن) ..

ورغم تفهمي لصعوبة فتح الحدود الخليجية مع سورية والعراق واليمن (بسبب الاضطرابات التي تمر بها حالياً هذه الدول) أتساءل عن سبب عدم فتحها (بشكل كامل) بين دول خليجية متساوية أمنياً، ومتماثلة اجتماعياً، ومتوافقه سياسياً (تمهيداً لاتحادها مستقبلاً بشكل فيدرالي كامل).. لم يعد هناك معنى لمظاهر الازدحام فوق جسر البحرين أو في المطارات أو تحت لوحة "مواطني دول مجلس التعاون".. لن يحدث شيء مهم أو خطير حين يصبح سفر المواطنين الخليجيين بين البحرين والكويت والإمارات وعمان بسهولة سفرنا إلى عرعر وجازان وتبوك ونجران..

صحيح قد تظهر في البداية إشكالات أمنية بسيطة ولكنها ستكون صغيرة واستثنائية لدرجة لا تستحق وجود المعابر الحدودية ذاتها.. بل على العكس تماماً أرى أن وجود الحدود السياسية بين أي دولتين يساهم - بمرور الزمن- في ترسيخ حواجز اجتماعية واقتصادية لم تكن لتظهر لو كانت مفتوحة منذ البداية..

المشكلة الأكبر أن المبالغة في تبني فكرة (الحدود) قد ينتهي بمرور الزمن إلى حد خلق حدود داخل الدول نفسها.. هذا مايحدث اليوم في دول مثل الباكستان وسورية والعراق وأفغانستان حيث تصادف نقاط تفتيش في مدخل كل شارع وقرية ومدينة، وهذا أيضا ما كان يحدث في روسيا والصين أيام الحكم الماركسي حيث كان المواطنون يمنعون من دخول بكين وموسكو دون دعوة عمل أو تصريح خاص!!

.. على أي حال؛ تذكروا أنني لا أطالب الدول الخليجية بفتح حدودها مع الدول المضطربة أو ذات التفاوت الاقتصادي معها، بل فتحه فيما بينها(عطفاً على توافقها الواضح في كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية) تمهيداً للاتحاد الكامل والكبير...٫

هل صحيح أن بريطانيا غزت تسع دول من بين عشر؟


نعم صحيح؛ فبريطانيا غزت أو احتلت 9 من بين 10 دول في العالم.. فلم تسلم من اعتداءاتها العسكرية سوى 22 دولة من 200 دولة موجودة حالياً..

هذا ما يؤكده كتاب قرأته مؤخرا بعنوان «جميع الدول التي غزوناها» للمؤرخ ستيوارت لايكوك وعنوانه الأصلي:

All the Countries We’ve Ever Invaded

فمن الدول القليلة التي لم تتعرض لها بريطانيا (بأي شكل من الأشكال) جواتيمالا وطاجاكستان ومنغوليا وبوليفيا والبارجواي والسويد ولوكسمبورج.. وفي المقابل هناك دول أما خضعت للاحتلال البريطاني المباشر كالهند ومصر والعراق وهونج كونج، أو تدخلت فيها بقوة السلاح كالصين وماليزيا وفلسطين ودول الخليج، أو واجهت فيها دولاً كبرى كألمانيا وأسبانيا وروسيا وفرنسا ناهيك عن حقيقة أنها كانت المؤسس والمحتل لدول تتحدث اليوم بالإنجليزية كأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزلندا.

والحقيقة هي أن البريطانيين خاضوا أكثر من غيرهم حروباً تبعد عن بلادهم آلاف الأميال.. فقد حاربوا في الهند والصين ومصر وجنوب إفريقيا وكندا وأمام سواحل عدن وزنجبار والأرجنتين.. وفي المقابل وفر لهم العيش على جزيرة منعزلة حماية من الغزاة كنابليون وهتلر وجعلهم دائماً في موقف من يصدر الحرب لا من يستوردها!

وما يدهشني شخصياً أن الإنجليز فعلوا كل هذا رغم عددهم القليل مقارنة بالجيوش الأخرى وبعدد السكان في الدول التي احتلوها.. ويكمن السر أن بريطانيا لم تبدأ يوماً بمهاجمة دولة أقوى منها ولم تنسق أبداً لفورات المبادئ والأيدلوجيات والنعرات القومية (كون مخزونها العسكري والبشري لا يتحمل خسائر كهذه).. أما حين تضطر لمواجهة دولة أقوى منها (كما حدث مع ألمانيا وأسبانيا) فتعتمد إلى أسلوب (تحاشي اللكمات) حتى يضعف العدو أو تحين فرصة الانقضاض عليه.. بهذه الطريقة تمكنوا من تدمير أسطول أسبانيا العظيم «الأرمادا» الذي بعثه الملك فيليب لاحتلال بريطانيا قبل خمسة قرون (وظهرت بريطانيا من بعده كقوة بحرية عظمى).. وبهذه الطريقة أيضاً انتصروا على ألمانيا في الحربين العالميتين حين بقوا في حالة مناورة ودفاع عن النفس حتى حانت ساعة الانقضاض فدكوا المدن الألمانية بأقسى انتقام سجله التاريخ!

أضف لهذا عوض البريطانيون دائماً نقصهم العددي بالدهاء والحنكة وإشعال نيران الفتنة الداخلية.. ففي الهند مثلاً استطاعت قلة منهم حكم ملايين الهنود بفضل شبكة من المنتفعين وخلق تركيبة اقتصادية تجعل من الصعب الاستغناء عنهم.. كما جندوا السكان المحليين للقتال معهم في الدول الأخرى؛ فقد استخدموا الهنود مثلاً للقتال في جنوب أفريقيا، والأفارقة في مصر، والنيباليون في ماليزيا، وسكان المستعمرات جميعهم لحماية بلادهم خلال الحربين العالميتين!

بقي أن أشير إلى تحلي البريطانيين بصفة إيجابية وحميدة وهي اهتمامهم بالحفاظ على أرواح جنودهم قبل أي شيء آخر.. ففي حين تعتمد الإستراتيجية الإسلامية إن جاز التعبير على الشهادة والتضحية بالنفس تعتمد الإستراتيجية البريطانية على تحقيق أكبر قدر من الانتصارات بأقل قدر من الوفيات.. وفي حين نستصغر نحن هدفاً كهذا (ويتساءل لدينا بعض الدعاة ماذا لو استشهد بضعة شباب في الخارج) أو يقامر نابليون وهتلر بحياة ملايين الجنود كخيار استراتيجي، يحرص البريطانيون على حياة جنودهم يتداولون أفضل الخيارات للموازنة بين الانتصار أو الانسحاب أو تحاشي المواجهة.. هذا ما يفسر انسحاباتهم الطوعية بمجرد ميل كفة العدو أو شعورهم بتصاعد دعوات التحرر الوطني لدى الشعوب المحتلة (بدليل خروجهم الناعم من مصر والهند)!

هذه القناعة بلورت لدى البريطانيين أحد أهم الاستراتيجيات العسكرية الناجحة في التاريخ:

((لا تخض حرباً لا يمكنك الانتصار بها، وانسحب حين يصبح ثمن البقاء مرتفعاً))!!

... وهي إستراتيجية أراها مفيدة حتى على مستوى حياتنا الشخصية.

الجوهرة التي تحملها بين كتفيك!


يعترف كثير من العباقرة أن معظم إبداعاتهم أتتهم في لحظات النعاس بين النوم واليقظة وتحديداً في اللحظات التي ينفصل فيها المرء عن الواقع وتضعف فيها قوانين المنطق والمعقول. وعن هذه الحالة يقول أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات: "الحال التي بين النوم واليقظة هي التي تشرح للإنسان أموراً قد فاتته بأعيانها وسبقته بجواهرها". ويقول عنها أبو حامد الغزالي في كيمياء السعادة: "أعلم أن للقلب بابين للعلوم؛ واحد للأحلام والثاني لعالم اليقظة وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر بالحواس"!

وتفسير هذه الظاهرة يكمن في فهم طبيعة الدماغ والطريقة التي يعمل بها؛ فدماغ الإنسان حين يواجه بمشكلة ما يعود لأرشيف التجارب القديمة ويبحث عن حل جاهز سبق اعتماده لمشكلة مماثلة.. ولكن حين يواجه بمشكلة معقدة (وجديدة تماماً) يستغرق منه الأمر بعض الوقت لتنظيم المعطيات وجمع البيانات ثم يقدم الحل فجأة في وقت غير منتظر قد لا نفكر أثناءه بالمشكلة نفسها!

ورغم أن هذا الأمر يفسر حقيقة (الإلهام) وأسباب هبوطه المفاجئ لا يشرح حالات أكثر تقدماً (وندرة) يدرك فيها الإنسان حقائق مجهولة بطريقة مفاجئة وبلا معطيات سابقة.. وهذه المرحلة المتقدمة يطلق عليها الفلاسفة "الاندماج في الحقيقة المطلقة" في حين يعيدها العرب القدماء إلى "مس من الجان" وينظر إليها المتصوفة "كفتح إلهي أو رباني" في حين أنظر لها أنا كلغز عصبي يتعلق بالدماغ ذاته. وهذا يقودنا لحالات أكثر غرابة تتضمن الاستيقاظ وقد أدرك الإنسان علماً معيناً بعد حلم غريب، وهو ما يندرج تحت قول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين "وأعلم أن استيعاب العلم يتم بطريقتين الأولى من خلال الحواس العادية (كالقراءة والاستماع) والثانية فتح من الله يلقيه في قلب الإنسان فيستيقظ وقد وعى شيئاً جديداً".. وكان ابن سيرين قد سئل مرة كيف أصبحت بارعاً في تفسير الأحلام فقال: رأيت في المنام كأني دخلت الجامع فإذا بمشايخ ثلاثة ومعهم شاب حسن الوجه فقلت للشاب: من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا يوسف وهؤلاء آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

فقلت: علمني مما علمك اللَّه.. قال: ففتح فاه ثم قال: انظر ماذا ترى؟ قلت لهاتك .. ثم فتح فاه مرة أخرى فقال انظر ماذا ترى؟ قلت: أرى قلبك. فقال: عبر ولا تخف، فأصبحت وما قصت عليّ رؤيا إلا وكأني أنظر إليها.

المؤكد بالنسبة لي أن الإنسان يحمل بين كتفيه جوهرة يمكنها السفر عبر الزمن، وتلقي الإيحاءات من عوالم مجهولة، والتحاور مع أموات يثبت لاحقاً أن كلامهم كان صحيحاً!.

من ينكر بعد كل هذا أننا نحمل بين أكتافنا أعظم لغز في الوجود!.

رافق السعيد تسعد


هناك مثل دارج بين الناس يقول "جاور السعيد تسعد".. وكل من سكن في حي متواضع يدرك صحة هذه المعادلة كون خدمات الحي تكتمل فجأة وتضاف طبقة أسفلت جديدة (لا تزول بمياه الأمطار كمعجون الأسنان) بمجرد سكن أحد المسؤولين في الحي.

على أي حال؛ مقالنا اليوم لا يتعلق بالشأن المحلي بل بشيء يدعى المحاكاة النفسية.. فرغم أن عنوان المقال يتحدث عن "المجاورة" إلا أننا سنتحدث عن "المرافقة" ومشاعر الفرح والسرور التي نشعر بها بمجرد تواجدك برفقة انسان مرح ومضحك بطبعه؛ فهناك دراسة جادة أجراها علماء "هارفارد" تؤكد أن السعادة معدية (مثل البؤس والحظ الرديء) وأنها تنتقل بين أفراد العائلة والأصدقاء بطريقة سريعة ومؤكدة. وتبيّن من الدراسة أن التعرف على شخص مرح ومضحك يزيد بنسبة 13.3 بالمئة من سعادة الانسان، وأن الصديق السعيد بطبعه يرفع بنسبة 9.8 بالمئة من سعادتك - بل اتضح أن سعادة الأبوين بصديق ابنهما المرح يرفع من نسبة سعادتهما بنسبة 5.6 بالمئة (وكل هذا يفسر لماذا كان الأباطرة والسلاطين يحيطون أنفسهم دوما بأشخاص مرحين ومهرجين مضحكين).

وأوضح الدكتور نيكولاس كريستانيس المشرف على الدراسة أن الأشخاص المرحين يعيشون أكثر من غيرهم حتى وإن كانوا يعانون من أمراض مزمنة. وكان قد راقب مع زملائه العلاقات التي تربط بين خمسة آلاف شخص على مدى سنوات، واكتشف أن الأشخاص المرحين يبثون البهجة بالمحيطين بهم ويشكلون محوراً لصداقات كبيرة يجمعها شعور أفرادها بالسعادة حوله (وبكلام أقل تعقيدا؛ تذكر شخصا مرحا يجتمع أصدقاؤك حوله حينا بعد حين)!

وكان الطبيب الهندي "مادان كاتاريا" قد أسس مدرسة طبية تعتمد على الضحك بلا سبب (ونحن الذي كنا نعده قلة أدب).. فخلال ثلاثين عاما من عمله كطبيب لاحظ أن الأشخاص المرحين والضاحكين نادرا ما يصابون بأمراض القلب والرئة والاضطرابات النفسية. وفي عام 1995 أنشأ في مومباي أول ناد للضحك الجماعي بهدف تحسين الصحة وتعديل المزاج.. فالضحك المصطنع يخدع الدماغ (الذي يعتقد أن هناك سببا حقيقيا للضحك) فيفرز مواد طبيعية مهدئة ومرخية للعضلات تشعرنا بالبهجة والسرور.. ولزيادة فعالية هذا النوع من العلاج ينظم الدكتور كارتاريا جلسات الضحك بشكل جماعي كوننا نميل للضحك حين نرى حولنا من يفعل ذلك - حتى دون معرفة السبب.. ومنذ ذلك الحين انتشرت الفكرة وبدأت نوادي الضحك العلني تنتشر في معظم الدول - وظهر منها حتى اليوم 17 في الصين و19 في أوروبا و34 في أمريكا.

ولكن.. ماذا لو كنت لا تملك حولك شخصا مرحا أو سعيدا؟

ماذا لو كنت تعيش بين أشخاص يعتقدون أن العبوس والتجهم من مظاهر الصلاح والتقوى!؟

في هذه الحالة اخلق لنفسك أنت أجواء مرحة من خلال تصنع الفرح والضحك والشعور بالسعادة ذاتها.. فكما أننا نضحك حين نكون سعداء، اتضح إمكانية (حدوث العكس) وأن مجرد تصنعنا للضحك يجلب لنا السعادة والشعور بالخفة والتفاؤل.

ورغم أن الضحك العلني - على طريقة مادان كاتاريا - يستدعي لدينا ركوب جيب الهيئة؛ إلا أن هذا لا يلغي حقيقة أنه مفيد لعضلة القلب وحركة الرئتين وتسريع الدم وامتصاص الأوكسجين بما يوازي التمارين الرياضية.

وخذها نصيحة؛ إن خشيت اتهامك بخفة العقل - حتى داخل المنزل - فشاهد على اليوتيوب خمسة مقاطع مضحكة في اليوم.. على الأقل.!

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...