الأحد، 27 أكتوبر 2019

فرّغوا المبدعين وأصحاب المواهب


قبل 1200 عام وضع الإمام الشافعي ستة شروط لطلب العلم اختصرها في بيتين جميلين:

لن تنال العلم إلا بستة

سأنبئك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبُلغة

وصحبة أستاذ وطول زمان

وفي حين لا تحتاج خمسة منها لتفسير؛ تعني كلمة "بُلغة" الاكتفاء المادي وعدم الحاجة لطلب الرزق (وبالتالي التفرغ للبحث وطلب العلم).. وشرط كهذا يشعر بأهميته كل مبدع وموهوب يتمنى "التفرغ" لأفكاره الخاصة ولكنه يخشى في المقابل الفقر والحاجة وانقطاع "الراتب".. فمن مفارقات الدنيا الأزلية أن "الإبداع" لا يحقق مردوداً مادياً (على الأقل خلال فترة إنجازه) لدرجة كانت العرب تصف من يصاب بالفقر والفاقة بقولهم: "أصابته حرفة الأدب".

لهذا السبب أتمنى من الوزارات والجهات المعنية تبني برامج وطنية لتفريغ الموهوبين من منسوبيها.. يفترض أن تفعل ذلك من خلال معايير نزيهة ومجردة تحدد من يستحق فعلاً "التفرغ" لمصلحة الوطن ورفع نسبة مساهمتنا في الإبداع العالمي.. يجب أن تمنحه ذات الراتب والترقيات لمدة تناسب طبيعة الإنجاز ذاته وتكون قابلة للتمديد إن تطلب الأمر ذلك.. يجب أن تكفيه عناء الهم المادي وتحصيل الرزق طالما ثبت لها تقدمه في المشروع وإمكانية انتهائه إلى نتيجة مميزة ومفيدة.

لا أفهم كيف نمنح لاعبي كرة القدم واليد والسلة إجازات مدفوعة الثمن (بل وأعذاراً رسمية للتغيب وتأجيل الامتحانات من خلال الرئاسة العامة لرعاية الشباب) في حين لا نفعل ذلك مع مؤلفين ومخترعين وموهوبين يخشون انقطاع الراتب في حال تفرغوا لأفكارهم المميزة.

أنا شخصياً لم أكتب هذا المقال من فراغ وأملك تجربتين بهذا الخصوص (واحدة سلبية والأخرى إيجابية).. التجربة السلبية تكمن في امتلاكي اختراعات مؤجلة وكتباً لا يمكنني إنجازها بسبب انشغالي في كتابة المقالات اليومية.. مازلت أملك من أيام الطفولة كراساً يضم "خربشات" لأكثر من 48 اختراعاً؛ في حين يمكنني نشر مئة كتاب لو تفرغت اليوم لهذه المهمة (عطفاً على امتلاكي 8280 مقالاً في ارشيفي الشخصي).

أما التجربة الإيجابية فهي أن سياسة صحيفة الرياض في تفريغ الكتّاب والصحفيين المميزين (بل ومنحهم أسهماً في مؤسسة اليمامة) أتاحت لي ترك وظيفتي الحكومية، وفتح كراستي مجدداً، والتفرغ نسبياً للكتابة والتأليف.

وكان الفيلسوف والشاعر المعروف عمر الخيام (صاحب رباعيات الخيام التي شدت بها أم كلثوم) قد نشأ مع صديقين مخلصين فتعاهد ثلاثتهم على أن من يصبح منهما ثرياً أو صاحب منزلة يساعد صديقيه الآخرين.. وكان عمر الخيام محظوظاً من الطرفين كون صديقه الأول (نظام الملك) أصبح وزيراً للسلطان ألب أرسلان ثم لحفيده ملكشاه فخصِّصَ له كل عام مئتي ألف دينار ذهبي ضمنت له التفرغ والتنقل بين مراكز العلم الكبرى مثل بخارى وبلخ وأصفهان للتزود بالعلم وتبادل الأفكار مع العلماء.. أما صديقه الثاني فكان الشاعر حسن الصباح الذي اغتنى بدوره (من خلال تزعمه للطائفة الإسماعيلية وتأسيسه لمنظمة الحشاشين) ومع هذا لم ينس صديق طفولته القديم عمر الخيام.
نعود لموضوعنا الأساسي ونقول:

يُفترض أن تملك كل وزارة، وجامعة، وجهة حكومية، برامج وطنية لتفريغ المبدعين وأصحاب المواهب الخلاقة (على الأقل لفترة كافية لإنجاز أفكارهم الخاصة).. فمن مفارقات الدنيا الأزلية أن كليات الأدب لا تخلق الشعراء والمؤلفين، وكليات الهندسة لا تخلق المخترعين والمبتكرين، والشهادات الجامعية ليس لها علاقة بالإبداع والعبقرية.. فمواهب كهذه حالات استثنائية نادرة (الله وحده قادر على صنعها) وكل مايمكننا فعله هو تفريغها وضمان سلامتها من "حرفة الأدب"!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...