الأحد، 27 أكتوبر 2019

الجوهرة التي تحملها بين كتفيك!


يعترف كثير من العباقرة أن معظم إبداعاتهم أتتهم في لحظات النعاس بين النوم واليقظة وتحديداً في اللحظات التي ينفصل فيها المرء عن الواقع وتضعف فيها قوانين المنطق والمعقول. وعن هذه الحالة يقول أبو حيان التوحيدي في كتاب المقابسات: "الحال التي بين النوم واليقظة هي التي تشرح للإنسان أموراً قد فاتته بأعيانها وسبقته بجواهرها". ويقول عنها أبو حامد الغزالي في كيمياء السعادة: "أعلم أن للقلب بابين للعلوم؛ واحد للأحلام والثاني لعالم اليقظة وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر بالحواس"!

وتفسير هذه الظاهرة يكمن في فهم طبيعة الدماغ والطريقة التي يعمل بها؛ فدماغ الإنسان حين يواجه بمشكلة ما يعود لأرشيف التجارب القديمة ويبحث عن حل جاهز سبق اعتماده لمشكلة مماثلة.. ولكن حين يواجه بمشكلة معقدة (وجديدة تماماً) يستغرق منه الأمر بعض الوقت لتنظيم المعطيات وجمع البيانات ثم يقدم الحل فجأة في وقت غير منتظر قد لا نفكر أثناءه بالمشكلة نفسها!

ورغم أن هذا الأمر يفسر حقيقة (الإلهام) وأسباب هبوطه المفاجئ لا يشرح حالات أكثر تقدماً (وندرة) يدرك فيها الإنسان حقائق مجهولة بطريقة مفاجئة وبلا معطيات سابقة.. وهذه المرحلة المتقدمة يطلق عليها الفلاسفة "الاندماج في الحقيقة المطلقة" في حين يعيدها العرب القدماء إلى "مس من الجان" وينظر إليها المتصوفة "كفتح إلهي أو رباني" في حين أنظر لها أنا كلغز عصبي يتعلق بالدماغ ذاته. وهذا يقودنا لحالات أكثر غرابة تتضمن الاستيقاظ وقد أدرك الإنسان علماً معيناً بعد حلم غريب، وهو ما يندرج تحت قول الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين "وأعلم أن استيعاب العلم يتم بطريقتين الأولى من خلال الحواس العادية (كالقراءة والاستماع) والثانية فتح من الله يلقيه في قلب الإنسان فيستيقظ وقد وعى شيئاً جديداً".. وكان ابن سيرين قد سئل مرة كيف أصبحت بارعاً في تفسير الأحلام فقال: رأيت في المنام كأني دخلت الجامع فإذا بمشايخ ثلاثة ومعهم شاب حسن الوجه فقلت للشاب: من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا يوسف وهؤلاء آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

فقلت: علمني مما علمك اللَّه.. قال: ففتح فاه ثم قال: انظر ماذا ترى؟ قلت لهاتك .. ثم فتح فاه مرة أخرى فقال انظر ماذا ترى؟ قلت: أرى قلبك. فقال: عبر ولا تخف، فأصبحت وما قصت عليّ رؤيا إلا وكأني أنظر إليها.

المؤكد بالنسبة لي أن الإنسان يحمل بين كتفيه جوهرة يمكنها السفر عبر الزمن، وتلقي الإيحاءات من عوالم مجهولة، والتحاور مع أموات يثبت لاحقاً أن كلامهم كان صحيحاً!.

من ينكر بعد كل هذا أننا نحمل بين أكتافنا أعظم لغز في الوجود!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...