الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

مندوب قرية البشعين


لم أنم البارحة بسبب حالة أرق مزمنة أعاني منها.. قمت من سريري وفتحت هاتفي الجوال لسبب لم أحدده مسبقا.. تذكرت مسلسلا قديما (أعرفه جيدا) يدعى منطقة الشفق أو Twilight Zone ففتحت اليوتيوب للبحث عنه.. وحلقات هذا المسلسل تتميز بالقصر (بحيث لا تتجاوز نصف الساعة) وتعتمد على الأحداث الغريبة والمفارقات العجيبة والفنتازيا التي يصعب حدوثها على أرض الواقع..

والحلقة التي رأيتها مؤخرا تدعى "الجمال في عين الناظر".

يبدأ المشهد في أحد المستشفيات المظلمة حيث تستلقي امرأة خضعت لعملية تجميل في وجهها (الذي تغطية الضمادات بالكامل).. فقد كانت تعاني من تشوهات خلقية وخضعت طواعية لست عمليات تجميلية لعل المجتمع ينظر لوجهها بلا استهجان.. وكانت كلما دخلت عليها الممرضة أو الطبيب تسأل: "متى يمكنني إزالة هذه الضمادات ورؤية نتائج العملية؟".. وبسبب انتظارها الذي طال بدأت تنهار وتتأثر نفسيا الأمر الذي دعا الممرضات لاستدعاء الطبيب أكثر من مرة.. وفي النهاية يتضح أن الطبيب هو من كان مترددا في إزالة الضمادات كونها آخر فرصة للمريضة وآخر فرصة لسمعته كطبيب لإعادة وجهها لحالته الطبيعية.. وفي آخر زيارة قبل خلع الضمادات يخبرها صراحة أنها أجرت مايكفي من العمليات بحيث لن يتحمل وجهها عملية تجميل جديدة!!

وحين تسأله: "وماذا لو فشلت هذه العملية؟ كيف أعيش بين الناس بمثل هذا الوجه القبيح؟" فيجيبها: "حينها يجب أن تذهبي للعيش بين الناس المصابين مثلك بهذه الحالة" ؛ فتبكي بحرقة فيضيف الطبيب: "تعرفين أن الدولة فشلت في حل مُشكلتكم فبنت لكم قرية خاصة ومعزولة تعيشون فيها دون أن يعيب أحد على الآخر دمامته"!!

وقبل أن أتابع القصة .. أشير الى براعة المخرج والمصور في تصوير جميع الشخصيات بطريقة تمنعنا نحن المشاهدين من رؤية وجوه الممثلين حتى نهاية الحلقة بما في ذلك وجه المريضة والطبيب.. وحين تحل اللحظة الحاسمة يجتمع الطبيب والممرضات وطاقم المستشفى لخلع الضمادات ورؤية النتيجة .. وببطء (يصيب المشاهد بالتوتر) يخلع الطبيب الضمادات الواحدة تلو الآخرى وهو يحذرها بأنه لا يعلم إن كان وجهها سيصبح جميلا أم سيظل على دمامته..

وحين يخلع آآآآخر ضمادة يصرخ الجميع من هول ما يرون وتشيح الممرضات بأعينهن بعيدا بل وتصاب إحداهن بالغثيان من بشاعة ماترى.. وبالكاد يتمالك الطبيب نفسه ويقدم للمريضة مرآة لترى وجهها فتصرخ من الحسرة والقهر وتذهب لفتح أضواء الغرفة لترى نفسها جيدا..

وحين تفتح الأنوار يرى المشاهد (المفاجأة الكبيرة) وتتركه حائرا لثوانٍ معدودة... فالمريضة كانت في قمة الحسن والجمال وتناسق الملامح ودقة الأنف والشفايف.. أما الطبيب والممرضات وطاقم المستشفى فهم من يعاني (بحسب معاييرنا الحالية) من القبح والدمامة وبشاعة الملامح بما في ذلك تورم الأنف وسقوط الشفايف وبروز الفك والأسنان المتوحشة!!

... ومع هذا تستمر المريضة في البكاء وندب حظها (وبقائها على شكلها الأول) في حين يحاول الطبيب والممرضات مواساتها وتطييب خاطرها وإقناعها بأن هذا هو قدرها ونصيبها في الحياة.. وحين تهدأ وتستسلم لقدرها تأخذها الممرضة الى غرفة أخرى لتقابل (مندوب قرية المشوهين) كي تذهب معه للعيش مع الناس المصابين مثلها بهذا الداء.. وحين يُفتح باب الغرفة نرى شابا وسيما مثلها يبدو في قمة الجمال وتناسق الملامح بالنسبة إلينا ولكنه بمعايير العاملين بالمستشفى يُعد في قمة الدمامة والبشاعة (لدرجة تتحاشى الممرضة النظر في وجهه مباشرة)...

وحين يختلي بالمريضة يخبرها بهدوء كيف ستسعد بالعيش معهم في قريتهم المعزولة، وكيف أن جميع الناس هناك ولدوا بنفس المشكلة وأصبحوا يتقبلون قدرهم كونهم لا يرون غير أنفسهم.. وفي لحظة استسلام تسأله بيأس: "ولكن لماذا هكذا؟ ..لماذا نحن فقط من يعاني من هذه العاهة الخلقية؟" فيقول أثناء ذهابهما لقرية البشعين: لا أعلم لماذا خُلقنا بهذه الصورة، ولكن ما أعرفه أنه قبل مئات السنين (حين كان جميع الناس بشعين مثلنا) كان يرددون قولا حكيما مفاده: "الجمال في عين الناظر"!!

ما تحاول الحلقة قوله هو أن الجمال (أمر نسبي) يعتمد على تربيتنا، ونظرتنا لأنفسنا، ومعايير الجمال التي تتبدل حسب كل عصر وثقافة !! فافتحوا اليوتيوب وشاهدوها بأنفسكم : Eye of the beholder, Twilight Zone

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...