الأحد، 27 أكتوبر 2019

أكثر الشعوب ثرثرة!


هل هناك شعوب ثرثارة وشعوب عملية؟

هل هناك أمم تعشق الجدل وأخرى يشغلها العمل؟

شركات الاتصالات العالمية تملك إحصائيات دقيقة عن أكثر الشعوب ثرثرة وحديثا عبر الهاتف (من حيث متوسط الوقت لكل مستخدم).. ادخل عنوان المقال ذاته في جوجل لتكتشف أن العرب والأفارقة يأتون دائما في المركز الأول، في حين تأتي الشعوب الصناعية في المركز الأخير في نسبة الثرثرة والحديث عبر الهاتف.

غير أن حديثي اليوم لا يتعلق بالإحصائيات بقدر مساوئ الثرثرة ودلالاتها الشخصية والاجتماعية.. فمن المؤكد أن ضعف الزاد وقلة الانجاز يُعوضان دائما بالثرثرة الفارغة والتباهي الكذاب.. انظر حولك لن تجد أكثر ثرثرة من شباب عاطلين، أو شيبان متقاعدين، أو عجائز انفض عنهن الأقارب "وقال يا كثر هرج البدو، قلت من كثر ترديده".. ليس أكثر ثرثرة من الشخصية العربية التي اتخذت من الكلام حرفة، ومن الشعر صنعة، ومن المديح رزقا، ومن الهجاء خصومة، وكنا بالفعل "ظاهرة صوتية".. لم نكن يوما أمة بناء وصناعة وأبحاث جادة، فعوضنا ذلك بكم هائل من القصائد والدواوين والحكايات الخرافية - بل وصنعنا سوقا للشعر (نتعاكظ) فيه قديما وحديثا!

لم نتغير كثيرا هذه الأيام رغم تغير وسائل الثرثرة ذاتها.. فما زلنا أكثر الأمم ثرثرة عبر الهاتف، والواتساب، وتويتر، وكل وسيلة تقنية تحمل كلامنا لأكبر قدر ممكن من الناس.. لم نحتل فقط المركز الأول في تناقل الشائعات وإعادة التغريدات، بل وأصبحنا ننتج 90 تغريدة إرهابية بالدقيقة و129 ألف تغريدة مسيئة في اليوم (حسب عبدالمنعم المشوح رئيس حملة السكينة)!!

هناك مقال جميل للدكتور عبدالله الطاير (نشر في صحيفة الرياض في 25 نوفمبر2014 تحت عنوان السعوديون الأول عالميا في الإشاعة) جاء فيه:

.. تصدر ميري ميكر Mary Meeker تقريرا سنويا حول نزعات مستخدمي الإنترنت واتجاهاتهم.. وفي تقريرها لعام 2013 تصدر السعوديون المشهد حيث عمد 60% منهم إلى مشاركة ما يصلهم مع الآخرين من خلال إعادة الإرسال... وكانت هذه النتيجة هي الوحيدة في التقريرالتي بدأت بكلمة wow واو حيث اتضح أن معظم السعوديين يُشركون الآخرين فيما يصلهم - في حين اتضح أن الأمريكان متحفظون... وربما لا تعلم السيدة ميري (وما يزال الكلام للطاير) أن كل رسالة تصلنا تذيل باستحلافنا بالأيمان المغلظة وتهديدنا بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم نُعد توجيهها!!

وفي حين تأتي بعدنا الهند واندونيسيا وتركيا (في نسبة إعادة الإرسال) هناك في المقابل شعوب شغلها العمل والانجاز عن الثرثرة وتناقل الكلام.. ففي ذيل القائمة يأتي اليابانيون (بنسبة 5%) ثم الألمان (9%) ثم الفرنسيون والبريطانيون (10%) ثم الأمريكان (15%) من حيث نسبة إعادة الإرسال!!!

المشكلة أننا نفعل ذلك رغم امتلاكنا رصيدا هائلا من النصوص والأحاديث التي تحذر من القيل والقال وتناقل الكلام.. خذ كمثال حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" وقوله "بئس مطية الرجل زعموا" وكذلك "كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"..

نتحدث دائما عن ضرورة وجود "ضوابط شرعية" في كل شيء - رغم أن الأصل في الأشياء الإباحة - ونتجاهل ضرورة وجود "ضوابط شرعية" في وسائل الكترونية من طبيعتها الغمز واللمز والغيبة والنميمة!!

يأخذ العالم عنا فكرة خاطئة بأننا شعب خجول ومتحفظ؛ ولكن الحقيقة هي أننا لسنا متحفظين حين يتعلق الأمر بالثرثرة وصنع الضجيج وإعادة تصدير الشائعات.. فهل يكمن السبب في موروثنا العربي القديم، أم في فراغنا العملي الحديث؟

هل يكمن في امتلاكنا ثقافة كلام وأدب وتنظير، أم لأن من لا يراقب الناس في مجتمعنا ويعلق على تصرفاتهم ونواياهم يموت "طفشا" قبل أن يموت "همّا"!؟

أترك لك حرية الثرثرة على هذا السؤال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...