الأحد، 27 أكتوبر 2019

أين تذهب الرصاصة حين تنطلق باتجاه السماء؟


كما تصل لمشايخنا الأفاضل استفتاءات دينية وشرعية، تصلني من القراء استفتاءات علمية وتقنية تشكل تحدياً ذهنياً جميلاً.. انظر مثلا لهذا السؤال الذي طرحه عليّ أحد القراء قبل أيام:

تحية طيبه أستاذ فهد؛ لديّ سؤال علمي لم أجده وتواصلت معك عن طريق التويتر ولم تجب. سؤالي ماذا يحدث للرصاصة التي تطلق لفوق بزاوية عامودية 90 درجة. هل تنزل بنفس سرعتها أم ماذا يحدث لها؟ سبق وتناقشنا أنا وزملائي ولم نصل الى نتيجة.. وشكراً.

أجبته فوراً:
إن فاقت سرعة الرصاصة 40 ألف كلم في الساعة لا تنزل أبداً؛ فهذه هي سرعة الانفلات من الجاذبية الأرضية وتسعى كل الصواريخ لتحقيقها فور انطلاقها.. وبالتالي أفترض أن الرصاصة ستدور حول الأرض عند الارتفاع المناسب مثل الأقمار الاصطناعية دون أن تسقط أبداً. ولكن حين تأملت لاحقاً هذا الجواب وجدت أنه صحيح (في حال) وصلت الرصاصة فعلاً لهذه السرعة الخارقة.. ولكن؛ ماذا إن لم تصل لهذه السرعة؟ ماذا لو اختلفت زاوية الإطلاق أو مالت نحو الأفق قليلا؟

الحقيقة التي اكتشفتها لاحقاً أن الرصاصة لا تصل غالباً لهذه السرعة وبالتالي لابد أن تعود للسقوط على الأرض.. صحيح أن سرعة الانعتاق من جاذبية الأرض هي 40 ألف كلم في الساعة، ولكن متوسط سرعة انطلاق الرصاصة من البندقية التقليدية لا يتجاوز 6 آلاف كلم في الساعة وبالتالي ستعود للنزول بعد استنفاد طاقتها في الارتفاع (وهذا أيها السادة درس مهم في علم الصواريخ يفسر صنعها فوق بعضها البعض بحيث ينطلق الصاروخ الأعلى بعد استنفاد طاقة الصاروخ الأسفل)!!

ومن حسن الحظ أن الرصاصة - حين تعود للسقوط - تنزل نحو الأرض بسرعة بطيئة بسبب مقاومة الهواء وعدم وجود ما يدفعها نحو الأسفل (وهذا درس مهم في علم الديناميكا الهوائية يتم مراعاته في صناعة الطائرات والصواريخ ويفسر سبب هبوط المكوك الفضائي على بطنه حين يدخل جو الأرض)!!

وبناء عليه؛ حتى في حال سقوط الرصاصة فوق نفس المكان بعد دقيقتين أو ثلاثة؛ لن تصاب الضحية بأضرار قاتلة كون الرصاصة فقدت زخم الانطلاق، وكون جماجمنا قادرة على صد أي رصاصة تقل سرعتها عن 2720 كلم في الساعة.. ولكن الحال يختلف طبعاً مع أعضائنا الرخوة كالعين أو البطن أو الرقبة (وهذا بالتأكيد درس مهم في علم التشريح)!!

ولاحظ أن حديثنا حتى الآن ظل منصباً على الرصاصة التي تنطلق نحو السماء بشكل عامودي (بزاوية 90 درجة) وليس بشكل أفقي مائل (بزاوية 45 درجة أو أقل) فمن وجهة نظر فيزيائية أرى أن النوع الثاني "الأفقي" أكثر خطورة كونه يسير لمسافات أبعد، ويحافظ على سرعته لوقت أطول، ويغطي مسافة أكبر من الأرض.. ولفهم الفرق بين الاثنين تخيل أنك تقذف حجراً بشكل عامودي نحو السماء؛ في هذه الحالة لن يرتفع كثيراً وسيعود سريعاً وسيسقط في نفس الموقع. ولكن؛ في حال قذفت الحجر بشكل أفقي مائل سيذهب بعيداً، ويستمر سريعاً، ويتدحرج طويلاً، ويتسبب بأضرار لكل من يقف على خط هبوطه نحو الأرض (وهذا درس مهم في علم المقذوفات يتم تدريسه في كليات المدفعية لتحقيق أفضل دقة ممكنة في إصابة الهدف اعتماداً على سرعة ووزن وزاوية إطلاق القذيفة)!

وبناء على كل هذا؛ أتصور أن معظم الإصابات الناجمة عن حوادث الإطلاق العشوائي لا تأتي من الرصاصات التي تُطلق "عامودياً" في نفس الموقع، بل من الرصاصات "الأفقية" القادمة من مسافات بعيدة بعد وقت طويل من إطلاقها (وهذا درس مهم في علم التحقيق الجنائي)!

يبدو أنني كنت أتمنى لو اخترعوا رصاصاً ينطلق بسرعة 40 ألف كلم كي لا يعود إلى الأرض أبداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...