السبت، 31 أغسطس 2019

الحشرة التي هزمتنا


بعد نجاحها في شق قناة السويس، حاولت فرنسا شق قناة بنما ووصْل المحيط الأطلسي بالهادي. غير ان المستنقعات الراكدة في تلك المنطقة كانت مليئة بالبعوض الذي قتل آلاف الجنود والعمال بالملاريا والحمى الصفراء.. وحين تجاوزت أرقام الوفيات 22 ألفا اضطرت فرنسا للانسحاب من المشروع وبيع حقوقه للأمريكان عام 1883.

وبعد دراستهم لأسباب الفشل الفرنسي قرر الأمريكان البدء (قبل كل شيء) بتجفيف المستنقعات وقتل البعوض قبل إرسال العمال لبنما (ونجحوا فعلا في إكمال القناة عام 1910)!!

غير أن الأمريكان لم يكونوا دائما بهذا الذكاء؛ فخلال الحرب العالمية الثانية استولى اليابانيون على كل الجزر المعروفة بإنتاج نبتة الكينين في آسيا (وهي العلاج الوحيد للملاريا في ذلك الوقت) على أمل أن تقتل البعوضة اكبر قدر من الجنود الامريكان. وبالفعل نجحت خطتهم فقتلت البعوضة 500 ألف جندي امريكي بين عامي 1942 و1945 (وهو عدد يفوق بكثير من قتل بنيران الجيش الياباني)!!

وهاتان الواقعتان تثبتان القوة المخيفة لهذا المخلوق الضعيف.. فالتاريخ يثبت ان البعوضة (وليس جنكيز خان او هتلر وستالين) هي أعظم سفاح على مر العصور؛ فخلال المئة عام الماضية فقط قتلت البعوضة أكثر من الحربين العالميتين بعشر مرات.. وتقول منظمة الصحة العالمية ان البعوضة تقتل (من خلال الملاريا) 2.5 مليون انسان كل عام، وتصيب ملايين آخرين بأمراض خطيرة!!

وان عدنا الى البدايات المعروفة للانسان نكتشف ان البعوضة تسببت في مجازر حقيقية، وقتلت من البشر اكثر من أي حرب ضروس:

فخلال الخمس مئة الماضية قتلت البعوضة 24 مليون انسان في افريقيا، و36 مليونا في آسيا، و38 مليونا في الأمريكتين!!

وفي القرن الثالث قبل الميلاد لم تكن قوة في العالم تستطيع الوقوف امام جيش الاسكندر الاكبر. ولكن البعوضة استطاعت ذلك وقتلت الاسكندر الاكبر نفسه عام 323 ق.م!!

وفي عام 410 قضى البرابرة على الامبراطورية الرومانية وعاثوا في أوروبا فسادا. غير ان البعوضة كانت لهم بالمرصاد فقتلت منهم اعدادا كبيرة وقلصت نفوذهم الى حد كبير!!

وفي القرن الخامس عشر انتشرت الملاريا والحمى الصفراء في افريقيا فقتلت الملايين. وفي نفس الوقت نشطت حركة نقل العبيد الى الامريكتين فانتلقت الملاريا معهم وقضت على 60% من الهنود الحمر!!

وفي عام 1690 كان الفرنسيون في كندا يستعدون لحرب فاصلة مع الجيش البريطاني القادم من بربادوس. ولكن الحمى الصفراء كفتهم شر البريطانيين على بعد خمسين ميلا فقط!

وفي عام 1802 ارسل نابليون جيشا جبارا لتثبيت حق فرنسا في ولاية لويزيانا وقمع ثورة العبيد في تاهيتي غير ان البعوضة قتلت 29 الف جندي من اصل 33 الفاً ارسلهم نابليون!!

وخلال حرب فيتنام غرقت امريكا في مستنقع فيتنامي حقيقي تسبب بوفاة 53 جنديا من بين كل ألف.. وهذا النسبة تعني وفاة اكثر من 5000 جندي يوميا كمعدل يتجاوز بكثير من قتل برصاص الفيتناميين أنفسهم!

لماذا لا نحب الأطباء؟


من باب المشاكسة طرحت هذا السؤال على زوجتي الدكتورة نجاة..

توقعت أن تدافع بحرارة عن زملاء المهنة، ولكن يبدو أن ترؤسها لأقسام الأطفال جعلها في منصب المدير المتذمر أكثر من الطبيب المتعصب!

... كان يمكن لسؤالي هذا أن ينتهي بمجرد (رفع ضغطها) ولكن حين أجابتني "لأسباب كثيرة" تملكني الفضول لمعرفة هذه الأسباب..

ومن هنا بدأنا نتلمس دوافع الشكوى الدائمة من الأطباء، وما إن كانت حقيقية وواقعية، أم خاطئة ونابعة من جهل المرضى بأصول المهنة؟

الحقيقة هي أن كليهما صحيح.. فمن وجهة نظر الناس يملك الأطباء سمات سلبية كثيرة أبرزها:

التعالي والعجرفة (فالطبيب بالكاد يتحدث أو ينظر للمريض)!

عدم الاستماع لشكوى المريض بعمق واهتمام (وقد لا يزوره أصلاً مكتفياً برؤية الملف أو الحديث بالهاتف)!

يعمل بطريقة آلية مبرمجة (ويتضح ذلك من إرشاداته للممرضة أو الاستغراق بملء ملاحظاته عن الحالة)!

الاستعجال الدائم وتأخير المراجعين (بحيث يحظى المريض بخمس دقائق كشف مقابل خمس ساعات انتظار)!

الحديث باقتضاب شديد وعدم الشرح للمريض (رغم أنه أتى أساساً للاطمئنان على صحته)!

الجلافة وعدم امتلاك حس إنساني (فبدل طمأنتك يخبرك ببرود عن إصابتك بالسرطان أو وفاة ابنك دماغياً)!

التركيز على الجانب المادي وطلب تحاليل وكشوفات وأشعة ليس لها داع (في المستشفيات الخاصة بالذات)!

وأخيراً، وليس آخراً ؛ نسيان رسالة الطب من أساسها ورفض مساعدتك أو التهرب من علاجك لأسباب كثيرة (كعدم دفع الفواتير، أو عدم حمل بطاقة التأمين، أو عدم وجود تحويل طبي، أو ببساطة لأنك غير سعودي)!!

... وحين سألت أم حسام عن أبرز ما يغضب الأطباء من المرضى (أي العكس) قالت:

عدم فهم المريض لمبدأ الأولويات في الكشف والعلاج (فحين تأتي بيد مكسورة أو بطفل ابتلع شيئاً فهذه ليست حالة طارئة مقارنة بحالات يمكن أن تتسبب بالوفاة خلال دقائق كسكتة قلبية أو طعنة بالرقبة أو نزيف داخلي)!!

عدم التحديد واستغلال رؤية الطبيب للتذمر من كل شيء (فترى المريض يتشكى من أوجاع قديمة ودائمة ومستوطنة ومتشعبة حتى يحتار الطبيب على ماذا يكشف ومن أين يبدأ)!!

أو قد يفعل العكس فيخفي معلومات طبية مهمة (كوجود أمراض وراثية أو تاريخية في العائلة) أو سوابق مرضية وحالات مماثلة (بسبب الحرج أو خشية المسؤولية)!

وهناك من المتفيهقين والمستعرضين ممن يقرأون شيئاً في النت أو يشاهدون شيئاً على التلفزيون فيرشدون الطبيب لفعل كذا أو ترك كذا (والأسوأ من ذلك حين يقول: ولكن زميلك الأصلع شخّص حالتي بكذا وكذا)!

وبطبيعة الحال يغضب الطبيب حين يصرخ أحد في وجهه أو يتهمه بالتقصير أو يهدده برفع شكوى (ثم يتوقع أن يعامله بلطف وإنسانية وابتسامة جميلة)!

كما يكره الطبيب تضييع وقته وتأخيره عن بقية المراجعين بسبب إصرار المريض على ذكر كافة التفاصيل العائلية التي لا يهمه سماعها (كإهمال الشغالة للطفل، أو مكر الطبيبة بالأم، أو قلة راتب الأب)!

وهناك اعتقاد المريض بأن الطبيب الذي لا يصف له أدوية كثيرة أو مضادات قوية هو طبيب فاشل (رغم أنه على العكس قد يحاول حمايتك من آثار جانبية ضارة، أو يخشى إضعاف جهازك المناعي بكثرة المضادات)!

وأخيراً؛ الطبيب يكره التصرف بقلة ذوق، وتجاوز الدور، واستعجال التشخيص، والخروج قبل إكمال التحاليل، ودخول العيادة بلا استئذان، ونصح أو تحريض مرضى الآخرين!!

... أود فعلاً سماع آرائكم وتجاربكم الشخصية عما تكرهونه في الأطباء.. وفي المقابل؛ ما تكرهونه فيمن يجلس قربكم أثناء مراجعتكم للأطباء...

عباقرة العربسلام


دعونا نتفق بداية على أن العباقرة ليسوا ملكاً لأي أمة ويرتفعون فوق أي عرق أو جنسية أو تنافس أممي لا يقدم ولا يؤخر..

وأقول هذا الكلام إيماناً مني بأنهم هبة آلهية قدمت حياتها لمنفعة البشرية (وليس أدل على قناعتي بهذه الحقيقة من كتابتي لمقال سابق بعنوان "المواطن العالمي" طالبت فيه بمنح العباقرة والمبدعين جنسية عالمية تمنحهم مزايا نوعية ومعاملة أولوية وتسمح لهم بدخول أي دولة بلا فيزا)!!

.. وأقول هذا مقدماً كي لا يعتقد أحد أنني أكتب هذا المقال بدافع من "جلد الذات" أو على سبيل الانتقاص من الحضارة العربية.. فأنا شخصياً لا أكاد أفرق بين الحضارة العربية والإسلامية خصوصاً في الفترة التي تلت القرن السادس الميلادي. ولكن الحقيقة هي أن من يقرأ تاريخنا العربي يلاحظ أن معظم الشخصيات العظيمة فيه (سواء العسكرية أو الفقهية أو العلمية) لم تكن عربية الأصل أو اللسان.. فالبخاري ومسلم والخوارزمي والبيروني وابن سينا كانوا من الأعاجم.. وكثير من هؤلاء لم يكن حتى يتحدث العربية أصلاً كصلاح الدين ومحمد الفاتح ومحمد الغزنوي وكافة القادة الكبار من الشراكسة والعثمانيين والأباطرة المغول في الهند..

والأغرب من هذا أن بعضهم كانوا إما عبيداً أو خدماً أو من الموالي مثل طارق بن زياد (التي ترجح الروايات أنه كان أمازيغياً تابعاً لموسى بن نصير) والسلطان قطز (وكان أصله عبداً من أصفهان) وأبي منصور الخازاني (الذي اختطف طفلاً من بيزنطة) ومفتي مكة عطاء بن رباح (وكان عبداً أسود) وأبي حنيفة وأسامة ونافع وعكرمة وسيبويه وأبي النضر والحسن البصري ومحمد بن سيرين (وكلهم من الموالي) الذين خدموا الدين وحفظوه للأجيال التالية!!

.. وفي الحقيقة؛ حتى يومنا هذا ماتزال أوزباكستان تحتفل سنوياً بمولد ابن سينا، وتركستان تنصب في ميادينها تماثيل البيروني والخوارزمي، في حين تتمنن علينا إيران بقائمة طويلة من الأسماء العظيمة كالرازي، والدينوري، وسيبويه، والفارابي، والاصطخري، والجرجاني، وعمر الخيام، وأبو عبدالله الخوارزمي الذي وضع أول موسوعة علمية باللغة العربية!!

أما المفارقة الغريبة فعلاً فهي أننا كثيراً ما نضم لتاريخنا العربي والإسلامي أسماء مشهورة رغم أنهم لا يجمعون بين العروبة ولا الإسلام مثل الطبيب ابن ميمون (يهودي أندلسي) وابن خرداذبه (مجوسي فارسي) وأبي الحسن ابن هبة (مسيحي بغدادي) وابن بشر (طبيب قبطي) وجابر بن حيان (وقيل إنه سرياني صابئي)..

على أي حال؛

كل ماسبق لا يعني عدم وجود عرب أقحاح في قائمة العباقرة والعظماء الذين خلدهم التاريخ (كابن رشد وابن الهيثم وابن يونس وأبي يوسف الكندي) ولكن مقالي هذا يهدف الى إخباركم بنقطتين مهمتين:

الأولى مدى التداخل الكبير بين الحضارة العربية والاسلامية..

والثانية سخافة وصبيانية إضفاء أي جنسية أو نعرة أممية على أي شخصية عبقرية!!

كم مرة تم تدمير مدينة نيويورك!؟


أعتقد أن مدينة نيويورك أكثر مدينة في العالم تم تدميرها في الأفلام.. فشخصيتها المميزة، وناطحاتها الضخمة، ومبانيها المشهورة، شكلت خلفية جذابة لأفلام سينمائية كثيرة..

أضف لهذا أنها موطن العصابات، وبوتقة الأعراق، وقبلة المهاجرين، وموقع روايات وقصص مشهورة ناهيك عن القصص الهزلية التي اتخذتها موطناً ل"سوبرمان" و "سبايدرمان" و"الرجل الوطواط" (خصوصا أن الأخيرين يحتاجان لمبان مرتفعة للتعلق بها)..

وهناك إحصائية طريفة تشير الى أن مواطني نيويورك ومانهاتن تحديدا يمرون في طريقهم ب 42 موقع تصوير سينمائي خلال العام.. ومالم يضع المخرج حواجز واضحة لا يمانع الناس المرور أمام الكاميرا مشكلين بذلك خلفية تلقائية وصادقة عن حياة المدينة..

ومن خلال متابعاتي المتواضعة لاحظت أن المباني الطويلة في نيويورك تشكل عاملاً مهماً في إظهار حجم الدمار الذي تدور حوله قصة الفيلم.. فقد لاحظت مثلا أن مبنى الإمبايرستيت (الذي بني قبل تسعين عاما واحتفظ بالمركز الأول كأطول ناطحة سحاب في العالم لمدة أربعين عاما) تم تدميره أو تفجيره أو إغراقه في أفلام "أكشن" كثيرة.. فقد تم تفجيره مثلا في أكثر من أربعة عشر فيلما حتى الآن (مثل يوم الاستقلال) وإغراقه في خمسة أفلام (مثل عالم الماء) وغطت الكتل الجليدية معظمه في ستة أفلام (مثل الاثني عشر قردا) كما تسلقه الرجل العنكبوت والرجل الوطواط والغوريلا العملاقة كنج كونج (في تسعة عشر فيلماً حتى الآن) !!

.. والفكرة هنا أن ما يحدث لمبنى بهذا الطول يعطي المشاهد انطباعاً أكبر بعظم المصيبة وهول الكارثة ؛ ففي فيلم عالم الماء مثلاً تذوب ثلوج القطبين (بسبب ارتفاع حرارة الأرض) فتغرق قارات ومدن العالم لدرجة "يغوص" البطل إلى حيث توجد نيويورك. وفي فيلم الاثني عشر قرداً تدخل الأرض في موجة صقيع (بسبب الشتاء النووي) فتتراكم طبقات الجليد لدرجة لا يظهر من الإمبايرستيت إلا طوابقه العليا.. وحين تنوي المركبات الفضائية تدمير الحضارة البشرية (في فيلم يوم الاستقلال) لا يجد المخرج أفضل من هذا المبنى العملاق لتفجيره من الأعلى للأسفل برفقة رموز عالمية طويلة كبرج إيفل في باريس وبرج الاتصالات في تورنتو !!

.. أما المفارقة الغريبة فهو أن العلاقة القديمة بين أهالي نيويورك وحوادث الدمار المحتملة ظهرت قبل ظهور الأفلام الحديثة..

ففي عام 1938 بثت إحدى الإذاعات حلقة صوتية مقتبسة من الرواية الشهيرة "حرب العوالم".. ولجذب انتباه المستمعين تم قطع الأخبار الصباحية وأعلن المذيع فجأة ودون سابق إنذار عن تعرض المدينة لغزو كائنات غريبة قادمة من المريخ. ولأن معظم الناس لم يسمعوا الحلقة لآخرها حدثت حالات هستيريا حقيقية، ورعب جماعي، وهروب من المدارس ومقار العمل، لدرجة اضطر عمدة المدينة للاتصال بمحطة الراديو طالبا منها وقف بث الحلقة والإعلان صراحة عن عدم جدية الموضوع.

ومن يومها تعلم أهالي المدينة الدرس ولم يعودوا يبالون كثيرا بما يبث أن يصور عن دمار مدينتهم وهو ما يفسر حالات عدم المبالاة التي أعقبت تفجير برجي التجارة العالمية (في سبتمبر 2011) كون معظم من شاهده على التلفزيون اعتقد أنه.. مجرد فيلم سينمائي آخر !!

المعتزلة الجدد


قرأت قبل أيام عن رجل عجوز توفي في شقته بشيكاغو قبل عامين ولم تكتشف جثته إلا بعد أن فاحت رائحته من الشقة!!

الخبر بحد ذاته كلاسيكي ومعتاد وسبق وقرأنا مثله من لندن ونيويورك وطوكيو وبرلين وكافة المدن الكبرى. وحوادث كهذه ليست سوى دليل على تزايد ظاهرة العزلة والفردية واختيار معظم الناس هناك العيش في عزلة قاتلة..

وفي المجتمعات الغربية على وجه الخصوص هناك ظاهرتان ساهمتا في رفع نسبة العزلة والانسحاب من المجتمع..

الأولى هي الارتفاع المستمر في متوسط العمر وتغلب كفة الشيوخ على المواليد الجدد..

أما الثانية فانهيار تركيبة العائلة بحيث أصبح الوالدان يعيشان وحدهما بعد خروج الأبناء أو وفاة أحد الزوجين..

فحتى عام 2005 كان ربع البيوت في بريطانيا يضم عائلات من شخص واحد.. ولكن هذه النسبة وصلت اليوم الى 40% من البيوت إما تضم رجلاً متقاعداً أو أرملة عجوزاً أو شاباً اعتزل العالم الحقيقي للإبحار في عالم النت ومواقع التواصل الاجتماعي!!

وهذا الظاهرة ملاحظة أيضاً في الولايات المتحدة حيث كانت البيوت التي تضم شخصاً واحداً لا تتجاوز 3% عام 1950 وارتفعت اليوم إلى 32% في ضواحي المدن.. أما أواسط المدن (أو مايعرف باسم الداونتاون) فتحولت فيها 76% من الشقق إلى مساكن خاصة بالعزاب والمتقاعدين ومثيلي الجنس...

ولا يعود السبب كله إلى ارتفاع عدد المسنين بل وأيضاً إلى تغير وسائل الاتصال ونمط العيش في المدن الحديثة.. ففي الماضي كان الإنسان يخرج من منزله للعمل والتواصل وقضاء احتياجاته الخاصة.. أما اليوم فأصبح بإمكانه فعل ذلك عبر شاشة الكمبيوتر ودون الحاجة لمغادرة المنزل (ناهيك عن وصول كل الخدمات إليه طالما استمر في دفع الفواتير)..

والمدهش فعلاً أن اختراع التلفزيون شكل انقلاباً في حياة الناس وتغليب كفة البقاء في المنزل على الخروج للشارع.. بل تسبب حتى في رفع نسبة العزلة داخل البيوت نفسها حيث اتضح أن الأزواج في استراليا (مثلاً) يشاهدون التلفزيون لثلاث ساعات يومياً مقابل 12 دقيقة فقط للحديث مع الزوج الآخر.. أما في أمريكا فيمضي الأطفال أكثر من 20 ساعة في الأسبوع في مشاهدة التلفزيون مقابل 38 دقيقة فقط للحديث مع الوالدين..

واليوم رفعت الانترنت من نسبة المعتزلة الجدد حتى بين الآباء والأطفال (وانظر لحال أطفالك مع الآيباد) وقدمت موقع التواصل الاجتماعي فرصة عقد صداقات افتراضية دون الحاجة لمغادرة غرفة النوم ..

وهذه الظاهرة أصبحت عالمية حيث توجد في اليابان كلمة هيكيكوموري (وأقرب ترجمة لها هي الانكفاء على الذات) التي أصبحت تطلق على المراهقين الذين يحبسون أنفسهم في غرفهم ولا يخرجون منها إلا للحمام.. وتعود عزلتهم إلى تعلقهم بألعاب الفيديو ومواقع النت لدرجة انسحابهم من العالم الحقيقي وعيشهم بالكامل في الواقع الافتراضي (ويقدر عددهم مابين 100 ألف إلى مليون حالة بحسب ساعات الانطواء)!!

.. باختصار؛ لأول مرة في التاريخ، أصبحنا نعيش في عزلة متزايدة عن الواقع الحقيقي (بما فيهم أفراد العائلة ومن يسكن أمامنا في الحي) ولكننا في المقابل نملك آلاف الأصدقاء في العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي!!

معجزة تحت المجهر


لدي صديق لا يؤمن بوجود البكتيريا والجراثيم وكان الوحيد الذي لم يشتر أي معقمات أيام هوسنا بإنفلونزا الخنازير.. فهو يعتقد ببساطة أننا نملك أفضل عينين في الوجود كون الله خلقنا في أحسن تقويم وبالتالي بإمكاننا رؤيتها لو كانت موجودة بالفعل.. وفي النهاية توقفت عن محاولة إقناعه بأننا لا نرى أيضا الملائكة والشياطين وكل ما يدخل تحت قوله تعالى ويخلق مالا تعلمون وتركت لجهاز مناعته مهمة إقناعه ذات يوم بوجود الجراثيم!!

.. ورغم غرابة موقفه هذا إلا أنه ليس الوحيد أو الفريد من نوعه.. فكما يوجد في المجتمعات الغربية من لا يصدق بكروية الأرض، يوجد أيضا من لا يصدق بوجود الجراثيم (وهي كلمة تجمع معظم الكائنات المجهرية) ويعتقد أنها مجرد خدعة لترويج المعقمات واللقاحات والمضادات الحيوية...

ولكن الحقيقة هي أن البكتيريا سيدة هذا الكوكب وظهرت قبل ظهور الإنسان بأربعة بلايين عام. ورغم علاقتنا القوية والطويلة بها لم نكتشف وجودها إلا عام 1679.. ففي ذلك العام اخترع صانع عدسات هولندي يدعى أنتوني لوفنهوك "المجهر" وشاهد لأول مرة بكتيريا حميدة تعشعش بين أسنانه.. وبسرعة أدرك أنها مخلوقات حية (مكونة من خلية واحدة) لا تتجاوز جزءاً من ألف من المليميتر.. والفرق بينها وبين الفيروسات أن هذه الأخيرة "شفرة وراثية" محاطة بغلاف بروتيني ولا تعدّ مخلوقات حية بنظر العلماء.. وفي حين تحتاج الفيروسات لخلية حية تغزوها وتتكاثر من خلالها، تشكل البكتيريا النسبة الأكبر من مادة بناء المخلوقات نفسها. فأجسادنا مثلاً تملك من البكتيريا أضعاف ما تملكه من الخلايا الحية وأضعاف أضعاف عدد البشر على هذا الكوكب!

... ورغم أن معظمها غير ضار (بل ومفيد وضروري لبقائنا أحياء) إلا أن هناك أنواعاً قد تصيبنا بالمرض وتتسبب بوفاتنا فعلاً.. ومن حسن الحظ أن جهاز المناعة لدينا يتكفل بمقاومة وتحييد الأنواع الضارة منها (حتى إذا ما ضعف تغلبت عليه وأصابته بالمرض).. وفي حين يتكفل جهاز المناعة بالبكتيريا الخطيرة داخل الجسم، تتكفل جلودنا بمنع البكتيريا الخارجية من الدخول إليه.. لهذا السبب تغدو الجروح بمثابة "بوابات" قد تتسرب منها الجراثيم الخطيرة، والعمليات الجراحية فاشلة ومميتة مالم يتم تعقيم غرف العمليات.. أما حين نموت ويتوقف لدينا جهاز المناعة فتبدأ البكتيريا بالتضاعف والتهام أجسادنا من الداخل إلى الخارج وهذا سر تحللنا السريع!!

... وعملية التحلل التي تطال المخلوقات بعد وفاتها من الأدوار المهمة التي تؤديها البكتيريا على كوكب الأرض. فبفضلها تعيد مكونات أجسادنا الرئيسية إلى "التراب" وتحولها مجدداً إلى سماد ضروري لنمو النباتات. وهذه العملية بحد ذاتها تثبت أن البكتيريا يمكنها العيش خارج الأجساد الحية (بعكس الفيروسات) واستمرارها بالتكاثر لحدود مدهشة..

فرغم أنها مخلوقات بدائية وبسيطة إلا أنها مستقلة وعصية على الموت بفضل قدرتها على التناسخ والانقسام المستمر لدرجة يمكنها تغطية كامل الكوكب خلال بضعة أيام لو وجدت البيئة الخصبة لذلك!!

... إنها ببساطة مخلوقات خارقة بكل معنى الكلمة وعدم قدرتنا على رؤيتها لا يثبت غير ضعفنا وعجزنا عن إدراك المعجزات المحيطة بنا!!

آخر البشر


رغم علمي بأننا لسنا النوع الوحيد من البشر الذي عاش على سطح الأرض؛ اشتريت مؤخراً لوحة توضيحية (لم أملك نفسي من عدم مشاركتكم فيها) تتضمن الأنواع البشرية التي انقرضت قبل ظهور نوعنا نحن.. ومن خلال الخط الزمني في اللوحة نفهم أن الجنس البشري بدأ قبل 7 ملايين عام بما يعرف بأشباه الإنسان ولكن الحقيقة هي أن الأنواع المؤكدة في إنسانيتها وخلقها في أحسن تقويم بدأت بالظهور منذ مليوني عام فقط!!

واليوم يثبت أرشيف الأحافير انقراض أجناس بشرية كثيرة (قبل ظهورنا نحن) يدعى معظمها باسم المنطقة التي اكتشف فيها.. فهناك مثلاً إنسان بحيرة رودلف، وإنسان جورجيا، وإنسان جاوة، وإنسان بكين، وإنسان روديسيا، وإنسان النياندرتال الذي عاصر أجدادنا وعاش معهم فترة طويلة قبل أن ينقرض منذ 26 إلى 35 ألف عام!

غير أن جميع هذه الأجناس انقرضت حالياً وتركتنا لوحدنا نحن النوع الأخير المسمى هومو سابين (Homo Sapiens) على كوكب الأرض، وهذا بحد ذاته حالة تاريخية نادرة...

وكلمة هومو HOMO تشير إلى أي جنس إنساني يتميز بدماغه الكبير، ومشيته المنتصبة، وقدرته على الحديث، ومهارته في الابتكار وإيجاد الحلول.. وهذه الصفات الإنسانية تنطبق على أنواع كثيرة عاشت في الماضي قد تتشابه في المظهر والصفات العامة ولكنها تختلف من حيث النوع والأصل الوراثي (وأكبر دليل على ذلك عدم قدرتها على التزاوج فيما بينها)!!

... ولأنه يصعب عليّ تزويدك بنسخة من "اللوحة التوضيحية" سأعمد إلى سردها كقائمة زمنية تتضمن أبرز ستة أنواع بشرية انقرضت قبل ظهورنا، مع ملاحظة أنني سأورد أسماءها باللغة اللاتينية كي يسهل عليك نسخها ومشاهدتها في صور جوجل:

فقبل 2,4 مليون عام ظهر أول نوع إنساني عاقل يدعى Homo Habilis عاش على كوكب الأرض لمدة 800 ألف عام وانقرض قبل 1,6 مليون عام.

وقبل 1,9 مليون عام ظهر نوع ثان يدعى Ergaster Homo عاش لمدة 400 ألف عام عاصر خلالها النوع الأول وانقرض قبل 1,5 مليون عام.

وقبل 1,8 مليون عام ظهر نوع ثالث يدعى Homo Erectus يعد الأطول عمراً بين كافة الأجناس البشرية كونه عاش لمدة 1,5 مليون عام (عاصر خلالها النوعين السابقين) وانقرض قبل 300 ألف عام فقط.

بل إن هناك نوعين ظهرا وانقرضا خلال فترة تواجد هذا الأخير، الأول يدعىHomo Antecessor انقرض قبل 500 ألف عام، والثاني يدعى Homo Heidelbergensis انقرض قبل 350 ألف عام!!

وقبل 350 ألف عام أيضا ظهر نوع جديد يدعى النندرتالينز Homo Neanderthalensis عاصر أجدادنا لفترة طويلة قبل أن يتركهم وحدهم وينقرض منذ 35 ألف عام (وهناك مقابر كثيرة مشتركة تتضمن عظاماً لكلا النوعين دون اكتشاف مايثبت تزاوجهما أو وجود جنس هجين بينهما)!!

وأخيرا؛ نوعنا نحن الحالي المسمى Homo Sapiens الذي ظهر قبل200 ألف عام (فقط) ونجا من التغيرات المناخية التي أهلكت إنسان النندرتالينز الذي جاورنا لأكثر من 30 ألف عام..

ورغم أننا نعد الأقصر عمراً بين جميع الأجناس البشرية إلا أننا مررنا بفترات كدنا نصل فيها إلى حافة الانقراض فعلاً كما حدث قبل 75 ألف عام حين انخفض عددنا إلى 5000 فرد فقط بسبب التغيرات المناخية الحادة التي قضت حينها على مخلوقات كثيرة!!

... والمخيف فعلاً أن الأجناس التي سبقتنا لم يكن ينقصها الذكاء (وعاشت بالفعل أطول منا على كوكب الأرض) ولكنها انقرضت في النهاية تاركة فرصة البقاء للأجناس الأكثر قدرة على التأقلم والابتكار!!

..... هل تعرفون ما يخيفني أكثر!؟

... أن تنقرض شعوب الأرض وتتركنا وحدنا في هاجرة الصحراء!!

ولماذا تعيش النساء أطول؟


في آخر مقال أثبت أن النساء يعشن في جميع الدول أطول من الرجال.. وقلت حينها إننا نحن الرجال نموت في عمر مبكر لأننا ببساطة أكثر عنفاً وتهوراً وغروراً وتعرضاً للحوادث مقارنة بالنساء.

وفي مقال اليوم سنستعرض مجموعة من الأسباب الصحية والجنسية والبيولوجية والوراثية التي ترجح حظوظ النساء في العيش لفترة أطول من الرجال:

.. فالنساء مثلا تتأخر لديهن حالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين إلى ما بعد الخمسين والستين، في حين يصاب بها الرجال غالبا بدءاً من سن الأربعين والخمسين..

كما يعاني الرجال من أمراض الضغط والسكر في عمر مبكرة نسبيا، ويعيد بعض الأطباء المسؤولية إلى الهرمون الذكوري التستيرون المسؤول أيضا عن إصابتنا بالصلع!!

والرجال أيضا يصابون بتليف الكبد وانتفاخ الرئة واحتمالات الجلطة وسرطان الجهاز التنفسي أكثر من النساء، بل وتتشكل لديهم حالات سرطانية خاصة ومبكرة مثل البروستاتا والقولون.

واليوم هناك اعتقاد بأن النساء يملكن جهاز مناعة أقوى من الرجل كونهن أكثر مقاومة للأمراض المعدية والفيروسات الموسمية وعدم تأثرهن بأنواع معينة من السرطانات..

ومراجعة أسباب الوفيات في معظم المجتمعات تثبت أن النساء قد يمرضن أكثر ولكنهن يملكن مناعة أكبر ضد الأمراض المميتة، بحيث يمكن القول إن النساء يمرضن دائما ولكن الرجال يموتون من ثالث أو رابع مرة..

أضف لهذا الرجال أقل تنبها واهتماما بصحتهم مقارنة بالنساء.. فهم مثلا الأكثر ممارسة للتدخين وشرب الكحول وإدمان المخدرات والممارسات الخاطئة، بل ويتأخرون كثيرا في مراجعة الأطباء، ويرفضون الاعتراف مبكرا بمشاكلهم الصحية..

حتى بدانة النساء تعد حميدة (كون انخفاض كتلة العضلات مقابل الشحوم من طبيعة الأنثى) في حين تتركز بدانة الرجال حول الخصر فترهق القلب والكليتين والأعضاء الحيوية!

.. وفي عالم الثديات لوحظ بوجه عام أن الإناث يعشن أطول من الذكور، والجنس الأضخم والأثقل وزنا (وهو الرجل في هذه الحالة) يموت قبل الجنس الأصغر والأقل وزنا (وهو زوجتك في هذه الحالة!!)

أما الغريب فعلا فهو أن تفوق الاناث على الذكور يبدأ منذ فترة الحمل حيث يزيد عدد الأجنة الذكور على الإناث بنسبة 110 إلى 100 (وهذا خبر جيد حتى الآن).

ولكن حين يأتي موعد الولادة تتوفى نسبة أكبر من المواليد الذكور لدرجة لا يتبقى معها في الثلاثة الأشهر الأولى إلا 105 ذكر مقابل 100 أنثى (ومايزال الأمر جيدا حتى الآن).

غير أن الأطفال الذكور يموتون بنسبة أكبر من الإناث حتى يتعادل الجنسان قبل سن المدرسة.. وخلال السنوات التالية تبدأ الحوادث والأمراض بالقضاء على الرجال أكثر من النساء حتى ترتفع نسبة الاناث عند سن الزواج.

وبعد هذه المرحلة بالذات يجدر بنا أن نقلق -نحن الرجال- كوننا نبدأ بالتناقص تدريجيا حتى تصبح النساء ضعفي أعدادنا في سن الثمانين (ولهذا السبب تملك معظم العائلات جدات أكثر من الأجداد)..

.. أمووووت واعرف اسم الغبي الذي وصفهن بالجنس اللطيف!!

لماذا لا يعيش الرجال طويلاً؟


منذ زمن طويل لاحظت أن الجدات يعشن لفترة أطول من الأجداد.. واليوم تثبت الاحصائيات أن متوسط عمر المرأة في السعودية يلامس ال77 عاما في حين يبلغ متوسط عمر الرجل 72 عاما..

وهذه الظاهرة ليست قاصرة على مجتمعنا فقط بل ملاحظة في جميع دول العالم.. وقبل كتابتي لهذا المقال أردت التأكد من هذه المفارقة فعمدت الى مراجعة "متوسط" العمر في مختلف القارات فوجدت التالي:

في أوروبا يبلغ متوسط عمر الرجال 77 عاما والنساء 83

وفي أمريكا الشمالية متوسط عمر الرجال 75 عاما والنساء 78

وفي أمريكا الجنوبية الرجال 73 عاما والنساء 79

وفي قارة آسيا متوسط عمر الرجال 75 والنساء 87

وبوجه عام؛ من بين أكبر "عشرة" معمرين في العالم هناك "تسع" نساء يتمتعن بصحة جيدة والعاشر رجل ياباني يعاني من الخرف وسوء الحال (لمعرفة التفاصيل راجع مقالا قديما بعنوان: المبالغة أكبر معمر في التاريخ) !!

.. وطالما اتفقنا على هذه الحقيقة دعونا نراجع أسباب عيشنا نحن الرجال أقل من النساء، ونحاول حفظا على كرامتنا تدارك الأخطاء التي تسبب انتقالنا للآخرة في عمر مبكر:

فنحن الرجال نموت قبل النساء لأننا ببساطة أكثر عنفا وتهورا وغرورا وامتلاكا لعادات صحية سيئة ناهيك عن وجود أسباب جنسية وبيولوجية وجينية سنأتي على ذكرها لاحقا!!

.. فالرجال مثلا يموتون بنسبة أكبر في المعارك وأعمال العنف بل ولا يترددون بقتل بعضهم البعض بسبب النساء كما فعل أول قاتل بأول ضحية من أبناء آدم عليه السلام!

.. كما أن الرجال يموتون بنسبة أكبر في حوادث السيارات والمنافسات العنيفة والتحديات القاتلة. فحوادث الانتحار تنتشر بين الرجال أكثر من النساء بأربعة أضعاف.. وفي حوادث السيارات يموت الرجال بنسبة أكثر بكثير من النساء (اللواتي ثبت أنهن الأقل تهورا والأكثر تقيدا بقوانين المرور في جميع المجتمعات)!

أضف لهذا أن النساء أكثر اهتماما بصحتهن والابتعاد عن العوامل الخطيرة والمُنقصة للعمر؛ فهن مثلا أقل من الرجال بنسبة التدخين واستهلاك الكحول وإدمان المخدرات والممارسات الجنسية الخطيرة (وليس أدل على هذا من أن صناعة الدعارة في جميع المجتمعات موجهة للرجال فقط)!!

أما مشكلة الرجل الحقيقية فتكمن في أن غروره الذكوري وتصرفه البطولي يمنعانه من التفكير بشكل منطقي فيرتفع بذلك احتمال موته ونجاة الضحية.. ولهذا السبب يموت الرجال بسبب الأعاصير والفيضانات وضرب الصواعق أكثر من النساء بخمسة أضعاف (وفي المقابل هل سمعت يوما عن امرأة رمت نفسها في السيل لإنقاذ حياة انسان آخر)!؟

أيضا يجب أن نعترف أن الذكور يقترفون الجرائم ويعتدون على الغير ويخرجون عن القانون بنسبة أكبر من الإناث.. ولهذا السبب لا يتجاوز متوسط عمر رجال العصابات في أمريكا الأربعين عاما، وتجار المخدرات 56 عاما، في حين تفوق أعداد الذكور في سجون العالم أعداد الإناث بخمسة أضعاف!!

والنساء بوجه عام يملكن روحا مسالمة وحذرة وجانحة للوسطية أكثر من الرجال.. فهن نادرا ما يُنهين خلافاتهن بالعراك أو العنف أو استخدام الأسلحة.. كما لا تعميهن الوطنية والولاء عن أهمية السلامة وتقييم النتائج التالية.. فمعظم الرجال مثلا يؤيدون الحروب وخوض المعارك في حين تعارض النساء فكرة الاقتتال لحل أي مشكلة (ويحسبن بعقلانية النتائج المترتبة على الاقتتال من يُتم وترمل وفقد لمعيل الأسرة)!!

.. وكل هذا أيها السادة يثبت (وبالأرقام) أن العالم يمكن أن يكون أكثر استقرارا وتعقلا لو أدارته النساء !!

النبوءة والتوقع


هناك فرق بين أن تتوقع، وأن تتنبأ...

فرق بين أن تفترض القادم، وبين أن تؤكد حدوثه...

فرق كبير بين أن تستقرئ نتائج المستقبل، وأن تدعي معرفتك بوقائع المستقبل...

... المشكلة أننا لا نجيد التفريق بين الاثنين ونعامل "الخبير" بمستوى من يدعي النبوءة.. فمن يفترض غير من يؤكد.. ومن يتوقع غير من يتنبأ.. ومن يستقرئ المستقبل (خبير) يختلف عمن يدعي النبوءة وتلقي أخبار سماوية..

أذكر أيام طفولتي أيام كان التلفزيون بلونين فقط أن ضجة كبيرة أثيرت بخصوص نشرة الأحوال الجوية. ففي ذلك الوقت أفتى بعض المشائخ بتحريمها كونها نوعاً من التنبؤ واستقراء الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.. ومن حسن الحظ رجحت في النهاية كفة من أفتى بجوازها باعتبارها نوعاً من الاستقراء العلمي الذي يعتمد على معطيات حاضرة وتجارب سابقة، ولا يؤكد في النهاية حتمية وقوعها.

... واليوم تقدم هذا العلم كثيراً لدرجة توقع ظروف الطقس ودرجات الحرارة لمدة شهر للأمام (اعتماداً على معطيات الحاضر، وصور الأقمار الاصطناعية، والعوامل المؤثرة في مثل هذا الوقت من العام).. وكلما تطورت أقمار الرصد الفضائي، وارتفعت سرعة الحاسبات الإلكترونية، وتعمق علماء الأرصاد في أرشيف الماضي؛ كلما ارتفعت دقة التوقعات وطال أمدها للأمام (لدرجة أصبحت شخصياً أعرف متى يهطل المطر أو تنخفض درجة الحرارة في الدول الأخرى قبل شهر من سفري إليها)!!

... وكما هو حال الطقس، يمكن أيضا التنبؤ بحال الاقتصاد، والمجتمع، والسياسة، وصراع الأفكار.. وكل ظاهرة يمكن دراستها في الحاضر لكشف مصيرها في المستقبل..

وفي الدول المتقدمة أصبحت هناك معاهد وجامعات تدرس علم التوقع بشتى جوانبه ومجالاته (وفي أمريكا وحدها يوجد أكثر من 377 معهداً وجامعة تقدم هذا التخصص).. ومن الوسائل التي تعتمدها نظرية الاحتمالات، وتغذية الحاسبات العملاقة، وتنظيم الاستفتاءات الميدانية، واستطلاع آراء الأجيال القادمة، ورصد المؤثرات التي قد تشكل حياة الناس بعد جيل أو جيلين ناهيك عن جمع المعطيات الصحيحة حول هذا المجتمع أو ذاك....

وكنت قد كتبت في سبتمبر2012 مقالاً بعنوان (متى نملك صهاريجنا الخاصة؟) قلت فيه إن السياسة الأمريكية تعتمد كثيراً على "مراكز استقراء مستقبلية" ترتبط مباشرة بالوزارات الحكومية والجهات الرسمية خصوصاً وزارة الخارجية والمخابرات الأمريكية ووكالة الأمن القومي..

وكما تملك واشنطن مراكز استقراء متخصصة في الشؤون الصينية واليابانية والروسية تملك معاهد متخصصة في الشؤون العربية والإسلامية أو في جوانب فرعية منها كالنفط والتيار الديني والصراع العربي الإسرائيلي.. ومن أبرز المراكز المتخصصة في الشؤون العربية مركز (CSIS) للدراسات الإستراتيجية، ومعهد واشنطن للدراسات الشرقية (WINEP) ومعهد بروكينغز وسابان للشرق الأوسط (Brookings Institute) ومعهد بيكر للسياسات العامة (Baker Institute)... وفي نفس المقال أشرت إلى اطلاعي على قائمة عناوين خاصة بالسعودية أصدرتها معاهد مستقبلية متخصصة كان من أبرزها:

السعودية في القرن الجديد، السعودية والنفوذ الإيراني، دول الخليج بعد النفط، تأثير الصحوة الدينية على الإمدادات النفطية......الخ

ولأن جميع هذه الإصدارات خرجت من معاهد مستقلة (تنشر تقاريرها بصورة علنية) تساءلت حينها عن طبيعة التقارير السرية التي تقدم لوزارة الخارجية أو المخابرات الأمريكية ولا نعلم عنها أصلاً أي شيء!!؟

شيء مخيف بالفعل..

ليس فقط تخلفنا في هذا العلم، بل واختلافنا حول مفهوم النبوءة والتوقع!!

كيف تقتل أفكار الآخرين الجميلة؟


كتبت قبل أيام مقالاً من جزأين بعنوان كيف تقتل أفكارك الجميلة (وكتبته بهذه الطريقة المعكوسة كي تتعلم عدم قتلها فعلاً).. وبالإضافة إلى التعليقات الكثيرة التي وصلتني على موقع الصحيفة نبهني أحد القراء إلى أنني نسيت التحدث عن كيفية التخلص من أفكار (الآخرين) بنفس الطريقة - كوني قلت في مطلع المقال:

.. وحتى حين يتمرد أحدنا على قيوده الداخلية ويتجرأ على التفوه بأفكاره الإبداعية يفاجأ بقيود اجتماعية تعيقه وتحبطه وتحاول إعادته إلى "جادة الصواب".. وقبل الحديث عن قيود المجتمع دعوني أخبركم أولاً كيف يمكنك قتل أي فكرة جميلة تخطر برأسك أنت..

وهكذا بدأت بسرد كيفية قتل الأفكار التي تخطر برأسك أنت وفاتني الحديث عن كيفية فعل ذلك مع الأفكار التي تخرج من رؤوس الآخرين!!

على أي حال، الأخ عادل العوهلي قدم لي خدمة كبيرة بتذكيري بهذا المقطع.. والحقيقة هي أنه يمكن لأي أحمق قتل أفكار الآخرين الإبداعية بمجرد امتلاكه ثلاثة أسلحة رئيسية:

حسد، وغباء، وسلطة على الأذكياء..

فمهما تدنت درجة ذكائك - أو مستواك العلمي والثقافي - يمكنك بهذه المزايا السلبية محاربة الإبداع والأفكار النيرة في مؤسستك أو دائرتك الوظيفية..

ومهما ارتفعت درجة ذكائك يمكن لأي مدير غبي ومتسلط - في شركتك أو مؤسستك - الوقوف في وجهك وإجهاض فكرتك بأكثر من عشرين طريقة.. فقبل أن يستمع لشرحك يمكنه أن يقول لك مثلاً:

هذا ليس من اختصاصنا (وسترد عليه في سرك: يعني لا داعي لتطوير أنفسنا)، سيقول لك: ماذا سيقولون عنا (فتقول في سرك: أننا جبناء لا نرغب بالمنافسة)، لو كانت فكرتك ناجحة كان نفذت في الماضي (ولماذا لا نتأكد على الأقل؟)، المدير الكبير لن يتفهم فكرتك (يعني أنت اللي فهمتها)، تحتاج إلى مزيد من الدراسة (وموت ياحمار حتى يأتيك الربيع)، لا نستطيع فعل كل الأشياء في وقت واحد (إذاً لنغلق باب الشركة ونرتاح)، الأنظمة لا تسمح (ليه؟ قرآن منزل)، جربنا هذا من قبل (جربناه بطريقة خاطئة)، فكرتك معقولة ولكن (ولكنك تخاف من المجهول)، لا نملك الميزانية اللازمة (وبالطبع تتوفر للخدمات الشخصية)، لا نملك الصلاحية (لأننا في بيئة لا تشجع على الإبداع)، اهتم بعملك فقط (فرئيسك متحجر التفكير)، قدم إلينا الدليل (يعني تريد تعجيزي)، اكتب عنها تقريراً (على أمل أن أنسى)، سنرى (سينسى هو)، لا تكن سخيفاً (يحسدني على الفكرة)، الناس تكره التغيير (وأنت أولهم)، لن نجازف في أمور لا نفهمها (ولننتظر الصينيين ليفعلوها)، مكلفة أكثر مما تستحق (هل تملك دراسة جدوى)، ينظر إليك بابتسامة ساخرة (ورب نظرة خير من ألف تعبير)، لا لا لا نحن دائما نعمل بهذه الطريقة (وصلت لمرحلة الشيخوخة الفكرية)، المؤسسة الفلانية جربت ذلك من قبل (إذاً لنستفيد من أخطائها)، افعل ما تسمح به اللوائح (تحتمي حضرتك بسلطة الروتين)، كن واقعياً (بمعنى لأكن ضمن القطيع)، وأخيراً؛ سأفكر وأرد عليك (أووووه، هذه أكثر الجمل القاتلة أدباً وجبراً للخاطر)!!

العصر الثالث


هل تعرف الفرق بين الآلة والمكينة؟

.. الآلة أداة بسيطة (كالمطرقة والعتلة والمسحاة) تسهل قيامنا بالأعمال اليدوية وتضاعف جهدنا العضلي.. أما المكينة فمجموعة آلات معقدة تتضمن محاور ومفاصل وتعتمد على الطاقة لا عضلات الإنسان (كمحرك السيارة وقاطرة الديزل)..

والعجيب أن الحضارات القديمة اعتمدت على الآلات فقط ولم ترتفع إلى مستوى ابتكار مكائن تتحرك من تلقاء ذاتها.. فالفراعنة والرومان والصينيون مثلاً بنو الإهرامات والكولونوزيوم والسور العظيم باستعمال العتلات والمطارق والمناشير - وليس رافعات الديزل أو خلاطات الإسمنت أو لاحمات المعادن..

وبناء عليه يمكن القول إن الثورة الصناعية الحديثة بدأت حين هجر الإنسان "الآلة" واعتمد على "المكينة"..

وحدث هذا تحديداً في إنجلترا أواخر القرن الثامن عشر حين بدأت مكائن الغزل تحل محل الأدوات ومهارات العمال اليدوية.. حين بدأت مكائن البخار والديزل في تحريك القطارات، ورافعات المناجم، وخطوط التصنيع، وسفن الشحن - واكتفى الإنسان بإدارة كل هذا!!

أما الثورة الصناعية الثانية فبدأت مع ظهور المصانع التي تنتج الآلات ذاتها (بحيث ينتج المصنع الواحد آلاف القطع من ذات السلعة من خلال إجراءات متماثلة الأمر الذي أتاح لنا الاستمتاع بمنتجات معقدة كالهواتف الجوالة بأسعار منخفضة)..

ورغم أن المصانع ماتزال الرحم الذي تخرج منه السلع الاستهلاكية؛ إلا أن هناك طريقة مختلفة في التصنيع بدأت تتوسع باضطراد.. طريقة لا تعتمد على استعمال المسامير والبراغي واللحام (لربط أجزاء الآلة) بل إلى طبعها وصبها ومراكمتها بطريقة "الطباعة ثلاثية الأبعاد"..

فاليوم مثلاً يمكنك أمر (طابعة الكمبيوتر) بطبع صورة مسمار صغير أو مطرقة كبيرة تجدها على الانترنت.. ستطبعها لك كما تراها على الشاشة؛ ولكن بطريقة مسطحة وبسمك لا تتجاوز فيه طبقة الألوان ربع مليمتر.. أما الطابعة ثلاثية الأبعاد فتستمر برش الحبر حتى يرتفع طبقات فوق بعضها البعض بحيث تحصل في النهاية على (مجسم) لبرغي حقيقي أو مطرقة صلبة يمكن انتزاعها من سطح الورق.. وطابعات كهذه لا تستعمل الحبر لتجسيم السلعة، بل رذاذ معدني (أو بلاستيكي وزجاجي) يجف بسرعة بحيث تحصل فوراً على المنتج بهيئته الصلبة.. ورغم أن هذه الطريقة تبدو مستقبلية وخيالية، إلا أنها في الحقيقة قديمة وواقعة فيها يتعلق بالصناعات التقنية.. فالشرائح الذكية في الأجهزة الحديثة مصنوعة بهذه الطريقة من خلال "رش" و "طبع" آلاف النسخ من شريحة نموذجية واحدة.. كما تصنع أجزاء كبيرة من هيكل وأجنحة طائرة بوينج الأخيرة (دريملاينر) بهذا الأسلوب من خلال رش ومراكمة الألياف الزجاجية حتى تتجسم ككتلة صلبة.. حتى شركات السيارات الحديثة بدأت تتخلى عن ربط أجزاء السيارة بالمسامير والبراغي وإنتاج معظم الهيكل كقطعة واحدة يتم صبها أو سبكها بطريقة الرش المعدني!!

.. أيها السادة

بناء المصانع (التي تنتج آلاف القطع المتشابهة) مكننا اليوم من امتلاك طابعات رخيصة في بيوتنا.. أما أحفادنا فسيمتلكون مستقبلاً "طابعات ثلاثية الأبعاد" تتيح لهم تصنيع وتجسيم منتجاتهم بأنفسهم من خلال سحب صورها الثلاثية عن طريق "النت"..

المدن المتخصصة


حين وصل المهاجرون الأوائل إلى الشواطئ الشرقية لأمريكا مات أكثر من نصفهم في أول شتاء.. كانت الأراضي الجديدة مجرد منفى لا يعرفون عنه شيئاً ولكنهم اضطروا للنزوح إليه هرباً من الصراعات الدينية والطبقية في إنجلترا وعموم أوروبا.. لم يكونوا يملكون خبرة في زراعة الأرض وطبيعة المكان وخلق إنتاج اقتصادي مستقر.. وهكذا كلما مر شتاء جديد شح الطعام وتوفي المزيد من الناس جراء الجوع والزمهرير وهجمات الهنود الحمر...

واستمر الوضع بائساً في معظم المستعمرات الشرقية (حيث تشكلت نواة الولايات المتحدة) حتى اكتشف المستعمرون الجدد أن أراضيهم صالحه لزراعة التبغ وتصديره الى أوروبا التي تعرفت عليه للتو. وهكذا أصبحت تملك سلعة مطلوبة واقتصاداً مزدهراً وتحولت إلى مركز لصناعة التبغ في العالم (بحيث يمكن القول إنه لولا التبغ لما ظهرت أمريكا نفسها)!!

وحتى يومنا هذا تلاحظ أن معظم شركات التبغ العملاقة تتركز في مدن الساحل الشرقي وليس مثلاً في مينيابلس شمالاً أو سياتل غرباً..

وصناعة التبغ مجرد مثال لمدن أمريكية تخصصت وازدهرت بفضل صناعات خاصة بها فقط.. فأمريكا دولة صناعية ضخمة ولكن مراكز الإنتاج فيها مركزة في مجموعة صغيرة من المدن متخصصة..

خذ كمثال صناعة السيارات الأمريكية التي احتلت لأكثر من مائة عام المركز الأول في قائمة الانتاج العالمي للسيارات رغم أنها لا تكاد توجد في غير مدينة "ديترويت" في ولاية ميتشغان!!

أيضا الإنتاج السينمائي والفني الذي يكاد يكون محصوراً في لوس أنجلوس (وتحديداً في ضاحيتها هوليود)..

وحين ترتفع شمالاً تجد مدينة سياتل التي تتركز فيها شركتان لا يمكن للعالم الاستغناء عنهما؛ بوينج لصناعة الطائرات، وميكروسوفت لبرمجيات الكمبيوتر...

ورغم أن بوينج تنتج أيضاً طائرات عسكرية؛ إلا أن أعظم المقاتلات الأمريكية (F16 و F18) تصنع في مدينة واحدة فقط تدعى "سانت لويس" !!

أما شركات النفط الكبرى فتتركز في مدينتين فقط هما "هيوستن" و "دالاس" الأمر الذي يفسر ذهاب معظم المبتعثين من أرامكو إلى هاتين المدينتين (علما أن الأولى تعد أيضاً مركز الاتصالات بالرحلات الفضائية التي تنطلق غالباً من ولاية فلوريدا)..

أما نيويورك فسعيدة بوضعها كعاصمة للمال والأعمال وبورصة الشركات الكبرى ناهيك عن احتضانها لمخزون الذهب الأمريكي الذي يعد الأضخم على مستوى العالم..

أما بوسطن فتعد بحق "أثينا أمريكا الشمالية" وعاصمة الثقافة والفنون والجامعات الضخمة فيها (حيث يوجد فيها أكثر من 60 جامعة أشهرها وأضخمها جامعة هارفارد)..

وفي المقابل تخصصت لاس فيغاس أو مدينة الخطايا في الترفية وألعاب القمار حتى أصبحت تملك مثلاً شعبياً خاصاً بها: "مايحدث في لاس فيغاس يبقى في لاس فيغاس"..

وأخيراً؛ هناك الشركات المألوفة لنا في عالم الانترنت والأجهزة الذكية (مثل جوجل وتويتر وآبل واليتيوب وياهوو) التي تتركز في منطقة صغيرة خارج سان فرانسسكو تدعى وادي السيليكون وسبق أن كتبت عنها مقالاً مستقلاً بعنوان: أين توجد أكبر نسبة من الأذكياء في كل كيلومتر!؟

إذاً؛ هذه هي أمريكا.. عمالقة صغار يضمهم اتحاد كبير يدعى "الولايات المتحدة"!!

... وقبل أن أنسى؛

هل يخبرني أحدكم عن الحكمة من وجود معظم مؤسساتنا المدنية والعسكرية في "الرياض" حتى كادت تختنق من الازدحام..

خذ كمثال المؤسسة العامة لـ (تحلية المياه المالحة)!

أفضل سيارة في العالم


لا أعتقد أن اختراعاً في الدنيا غير حياتنا وتخطيط مدننا مثل السيارة..

ورغم اتفاقنا على أهمية السيارة نختلف دائماً بخصوص أفضل سيارة تم اختراعها حتى الآن.. ففي حين يهتم البعض بقوة المكينة وسلاسة الأداء، يهتم البعض الآخر بمستوى الفخامة وجمال الشكل الخارجي - في حين يعتقد شخصي المتواضع أن أفضل سيارة في العالم هي التي توصلك لوجهتك قطعة واحدة !!

وقبل أن نقيم سياراتنا على هذا الأساس أشير أولاً إلى أن سلامتك داخل السيارة تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسية:

أولاً: فعالية السيارة التي تقودها في تجنب الحوادث.

ثانياً: قدرة السيارة على حمايتك حين يقع الحادث فعلاً.

وثالثاً: مهارتك ووعيك بأصول القيادة السليمة.

ومن خلال آلاف الاختبارات (والتقارير التي تصل من شتى بقاع الأرض) أصبح مصنعو السيارات على دراية كافية بطبيعة الحوادث المميتة فعمدوا إلى ابتكار مايقابلها من وسائل أمان. ومنذ عقد الستينات أصبح (خروج الركاب من الحادث أحياء) علماً بحد ذاته وقسماً مهماً في أي شركة لتصنيع السيارات.

وحين أتذكر شخصياً الكم الهائل من ابتكارات الأمان - التي تراكمت منذ اختراع السيارة - أضع في المقدمة "حزام الأمان" الذي ابتكرته شركة فولفو السويدية، وساهم رغم بساطته في إنقاذ حياة الملايين..

أيضا يعتبر كيس الهواء المنتفخ من أبرز وسائل الأمان المخترعة خلال تاريخ السيارة الطويل. وهو اختراع يعتمد على استشعار التراجع المفاجئ للسيارة لإطلاق غاز سريع التمدد يملأ كيس السلامة في جزء من الثانية.. ورغم احتمال تسببه ببعض الكدمات أثبت فعاليته في الحوادث المميتة الأمر الذي جعل كثيراً من الشركات المصنعة تستعمله أيضا في الأبواب الجانبية والمقاعد الخلفية وسقف المقصورة!!

وحتى داخل المقصورة نفسها تعلمت الشركات المصنعة أهمية التخفيف من الزوايا الحادة والأجزاء الصلبة وتبطين السقف والأبواب بالمواد اللدنة (بل وحتى انسحاب عجلة القيادة للداخل) حماية للركاب من الاصطدام الداخلي!!

أيضا هناك تفاوت السيارات في طول مقدمتها وتدرجها في تحمل الصدمة.. فالمقدمة الطويلة تمتص قوة الارتطام الامامي قبل وصوله لغرفة الركاب.. فسيارة تسير بسرعة 50 كلم فى الساعة ولها مقدمه طولها 130 سم (وهو الطول العادي في السيارات المتوسطة) تمتص قوة الاصطدام قبل وصولها للركاب..!

ولعل كثيرا منا يتذكر الضجة التي أثيرت قبل سنوات بخصوص انقسام بعض السيارات الى نصفين عند تعرضها لحادث جانبي. ومالم يدركه البعض حينها ان "انقسام السيارة" أسلوب جريء في السلامة ابتكره اليابانيون.. فحين يوضع في منتصف الهيكل "نقطة ضعف" تنقسم السيارة الى قسمين يذهب كل قسم باتجاه وبداخله الركاب سالمون (ومرة أخرى تزداد فعالية هذا الإجراء في حال استعمل الركاب حزام الأمان).

.. وبالطبع توجد وسائل سلامة أخرى لا تتسع لها الزاوية (مثل الكوابح المانعة للانزلاق، والكراسي الخاصة بالأطفال، وحماية خزان الوقود من الانفجار) ولكن يمكن القول باختصار إن "أفضل سيارة في العالم" هي التي يتوفر فيها أكبر قدر من هذه التجهيزات وتضمن وصولك لوجهتك.. قطعة واحدة.

كيف تقتل أفكارك الجميلة؟ (2-2)


استعرضنا في آخر مقال بعض النصائح المفيدة في قتل أفكارك الجميلة.. فبإضافة الى إمكانية قتلها بكثرة التمحيص، والتشكيك، واستشارة الخبراء، والتركيز على المال والمكسب، يمكنك أيضا قتلها من خلال:
الاستسلام للمعتاد وعدم التشكيك أو نقد ما أصبح مسلما وبدهيا حولك:

فالمجتمعات تتوارث الأفكار الخاطئة لقرون عديدة.. وبمرور الزمن تصبح من المقدسات التي لا يجوز التشكيك فيها أو حتى مناقشتها.. ولم تبدأ أوروبا نهضتها الحديثة إلا بعد أن تخلصت من أفكار الكنيسة ومسلمات الفلاسفة الإغريق (فطوال قرون مثلا لم يفكر أحد بالتأكد من فرضية افلاطون حول سقوط الأجسام بسرعة متفاوتة حتى جرب جاليليو رمي كرتين مختلفتين من فوق برج بيزا)!!
ولقتل أفكارك الإبداعية صدق أيضا أنها أفكار شيطانية تهدد كيان الثقافة والمجتمع:

.. فالمجتمع كتلة متماسكة، وأفكار راسخة، ومسلّمات موروثة ولا يتقبل الاستسلام بسهولة للأفكار الجديدة.. وفي حال أصررت على تبني ما يخالفه فلن تضمن الاتهام والتجريح ومخالفة المنهج الصحيح (والمدهش فعلا أن المجتمعات تتقبل بسهولة أكبر الأفكار الجديدة حين تظهر من غير أبنائها فقط، حتى قيل (لا كرامة لنبي في وطنه)!!
أيضا لقتل أفكارك الجميلة تعصب لما يوافق أفكارك، واقرأ ما يوافق ميولك فقط:

فحين تقرأ ما يوافق أفكارك تضمن عدم تعلمك أشياء جديدة.. وحين تتعصب لميولك تحتفظ بنظرتك الضيقة لما يجرى حولك. أما الأفكارالجريئة والانجازات العظيمة فطريقها (متعب وطويل) كونها تتطلب معرفتك لكافة الآراء، وتحليلك لمختلف الاتجاهات، وبحثك في "أشياء" تخالف ميولك وما نشأت عليه!
كما يمكنك قتل المزيد من أفكارك النيرة من خلال تمسكك بأول إجابة، وتقيدك بأول حل:

فمعظم الناس يفعلون ذلك .. يتمسكون بأول جواب يسمعونه أو يعثرون عليه وحين يجدون حلا قريبا لايفكرون بشيء آخر.. ولهذا السبب يتعلم العلماء والباحثون ضرورة التغلب على هذه النقيصة من خلال طرح فرضيات كثيرة واحتمالات متشعبة، ثم تجربته الواحد بعد الآخر للحصول على أفضل حل ممكن...
ومن المهم أيضا أن تفكر دائما بعقلانية ومنطق إن أردت قتل أفكارك الجميلة:

فهذا ما يفعله العقلاء من البشر.. أما المجانين أمثال نيوتن، وانشتاين، وأديسون، وبيل جيتس فلا يفكرون بغير تفاحات تسقط من الشجر، ومركبات تسافر للقمر، وآلات تسجل أصوات البشر، وبرامج الكترونية تطرد عنا الضجر!!
كما يمكنك قتل أفكارك الجميلة بالاستماع الى آراء الحاسدين والفاشلين ومن يغارون منك:

فالغيرة والحسد عادتان متأصلتان في الإنسان - ناهيك عن سهولة نقد وتسفيه أي شيئ مقابل صعوبة إبداع وإنجاز أي شيء.. ولأنه ما من انسان يسلم من تأثير الناس عاش معظم العباقرة حياة وحدة وانطواء وتقوقع على الذات (لدرجة عُدت العبقرية نوعا من التوحد الخفيف)!!

... باختصار:

إن كنت مصرا على قتل أفكارك الجميلة لا تفعل شيئا جديدا أو غريبا أو فريدا من نوعه..

لا تعرض نفسك للإحراج والانتقاد..

لا تتعب دماغك بالبحث والتفكير..

لا تختلف مع مجتمعك ومن يحاول إقناعك بأننا جميعنا سواسية و"أبناء تسعة"..

تخلص فقط من خطيئة الابداع وغادر كوكب الأرض دون إضافة حقيقية!؟

اسكن في الشطر الثاني من بيت المتنبي ولا تنم ليلة في الشطر الأول:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم

كيف تقتل أفكارك الجميلة (1-2)


جميع البشر يملكون عقولا بإمكانها التفكير والإبداع والخروج بحلول جديدة (ولا تحاول اقناعي بأنك لم تحاول هذا من قبل)!!

غير أن جميع البشر - إلا ماندر - يخشون الإبداع والتفكير والخروج بحلولهم الجديدة.. يخشون ذلك لدرجة يسارعون إلى كبتها والتعوذ منها وقتلها في مهدها لأسباب كثيرة - سنأتي على ذكرها..

وحتى حين يتمرد أحدنا على قيوده الداخلية، ويتفوه بأفكاره الإبداعية، يفاجأ بقيود اجتماعية تعيقه وتحبطه وتحاول إعادته إلى "جادة الصواب"!!

وحسب تصوري يمكن لأي إنسان قتل أفكاره - وأفكار غيره - دون عناء أو جهد كبير كون قتل الشيء أسهل من خلقه وإبداعه!

ودعني أخبر أولا كيف يمكنك قتل أي فكرة جميلة تخطر برأسك (على أمل أن تعاندني وتفعل العكس):

إذ يمكنك قتل أي فكرة تخطر ببالك بكثرة التمحيص والتحليل والإصرار على الكمال:

فجميع الأفكار الجديدة تولد خديجة وناقصة وتحتاج لوقت طويل كي تتطور وتتحسن وبالتالي يمكنك قتلها بالإصرار على طرحها كاملة ومتقنة منذ البداية (هل تعتقد مثلا أن محرك السيارة الذي أخترع قبل 100عام بمستوى محرك فيراري هذه الأيام، أو أن الطائرة التي صنعها الأخوين رايت تشبة طائرة الأيرباص الحديثة!)

أيضا يمكنك قتل أي فكرة من خلال الاستماع الدائم والتطبيق الأعمى لنصائح الخبراء:

فالخبراء غير مرنين بطبعهم ويحكمون على الأشياء من خلال قوالب قاسية ومسبقة الصب، في حين أن الأفكار الإبداعية (جديدة ومرنة وناقصة بطبيعتها) ويصعب تقييمها اعتمادا على تجارب وخبرات سابقة..

كما يمكنك قتل أي فكرة من خلال الاستماع دائما الى شكوكك الداخلية:

فجميعنا يميل للتقليل من مواهبه وقدراته وإنجازاته.. جميعنا يطرح على نفسه أسئلة تعجيزية مثل من أنا كي أفعل كذا وكذا؟ هل يعقل أن أحدا لم يفكر بذلك قبلي؟ لابد أن شخصا أذكى مني حاول وفشل؟.. وهكذا حتى تقتل أفكارك الجميلة بنفسك..

وبطبيعة الحال الخوف من الخسارة والانتقاد يتكفل بقتل أي فكرة مبتكرة أو إنجاز مميز:

ولكن؛ إن كنت تخشى الخسارة والانتقاد لا تفعل شيئا على الإطلاق.. وإن كنت تخاف كلام الناس إلزم الصمت وافعل ما يتوقعوه منك.. أما إن كنت تنوي الانضمام لنادي القادة والمبدعين فيجب أن تتحلى بالشجاعة والجراءة ولا تخشى النقد - وسترى كيف يتبعك الجميع في النهاية!!
أيضا لقتل موهبة الإبداع لديك فكر كما يفكر جميع الناس:

فالإبداع يتطلب مخالفة المألوف وكسر جميع القواعد المعروفة سابقا.. يتطلب الخروج عن المسار المعتاد واختراق المجهول بعناد.. أما حين تفكر كما يفعل الجميع فستضمن بقاءك معهم وثباتك حولهم (وستحتفظ حتما بعضوية القطيع)!! كما يمكنك قتل أي فكرة بالتركيز على كيفية الحصول على المال والشهرة قبل النجاح والإنجاز ذاته:

فالفاشلون لا يرون غير المال ويغمضون أعينهم عن عناصر النجاح وأسباب الفشل.. أما الناجحون فيركزون على عناصر التميز والنجاح ذاتها/ ويدركون أن المال والشهرة يأتيان حتما كنتيجة ثانوية وغير متوقعه.. هل تعتقد مثلا أن ميسي كان يلعب الكرة في طفولته طمعا بالمال، أو أن انشتاين اكتشف النسبية كي يصبح شخصية مشهورة، أو أن كولومبس اكتشف أمريكا كي يضمن دخول اسمه في كتب التاريخ!؟

.. وللحديث بقية، نستعرض فيه بقية الأسلحة المطلوبة لقتل أفكارك وأفكار الآخرين الجميلة..!

عظماء آخر جيل


حين تراجع التاريخ تكتشف أن الفنون والآداب لا تبدآن بالظهور والازدهار إلا في أوقات الرخاء وتوفر الاحتياجات الأساسية لجميع الناس...

حين تراجعه جيدا تكتشف أن فترات الرخاء لا تدوم طويلا، وأن فترات القلاقل هي التي تتمخض عن جيل من العباقرة والمبدعين الذين يولدون ويعيشون ويموتون في نفس الوقت...

فحين يصل المجتمع الى فترة الرخاء والاكتفاء تبدأ إرهاصات الاهتمام بقضايا الفكر والفلسفة والمسائل الجدلية.. وبعد جيل أو جيلين تظهر موجة مفاجئة من العباقرة والمفكرين في ظاهرة يمكن تشبيهها بفترة تسخين طويلة ماتلبث أن تنتهي ب"فقاقيع" تظهر بسرعة وتختفي بسرعة..

ونظرة فاحصة على تواريخ ميلاد المشاهير (من الموسيقيين والأدباء والفلاسفة وعلماء الفيزياء والفلك) تؤكد هذه الظاهرة وتجعلنا نتساءل عن ماهية الظروف والدوافع التي ساهمت في إبراز المجاميع الفذة في ذات الفترة..!

ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت المرحوم أنيس منصور لتأليف كتاب بعنوان "في تلك السنة أولئك العظماء ولدوا معا"..

والمهم في نظري ليس سنة 1889 (التي قصدها الاستاذ أنيس) بل الفترة التي تلتها بأربعة أو خمسة عقود نضجت خلالها عبقرية كل من العقاد وطه حسين وهتلر ونهرو وشابلن وهابل و... بقية العظماء الذين ذكرهم في كتابه!!

أما أكبر موجة من العباقرة ظهرت في التاريخ فتلك التي وجدت في أثينا قبل الميلاد. فوجود مجموعة من العباقرة والفلاسفة العظام في نفس الوقت (مثل أرسطو وسقراط وأفلاطون وأرخميدس) وفي مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 25 ألف نسمة يعتبر حدثا نادرا وتوافق يصعب تكراره..

أيضا شهدت أوروبا وأمريكا في المائتي سنة المحصورة بين 1850 و 1950 موجات عظيمة من العلماء والعباقرة والمهندسين ظهروا نتيجة النهضة العلمية والاصطناعية التي ميزت الغرب في تلك الحقبة بالذات..

وحين تتأمل اليوم شعوب العالم تكتشف أن الدول التي تجاوزت مرحلة الرفاهية وتحقيق الاحتياجات الانسانية (بما في ذلك حقوق الفرد) هي الأكثر إبداعا وتفوقا وقدرة على الابتكار والتصنيع . فالإنسان فيها اشبع كافة احتياجاته العضوية والنفسية والاجتماعية، ويحظى بالرعاية والاحترام والتأمين ضد الفقر والمرض والبطالة وبالتالي لا يبقى أمامه غير إثبات ذاته من خلال الابداع والتميز ورد أفضال المجتمع (وهو ما ينطبق على معظم الأفراد أيضا)!!

وفي المقابل ؛

لا تتوقع من انسان جائع الابداع أو التفرغ لتأليف رواية أو قطعة موسيقية.. لا تنتظر من مجتمع فقير أو شعب مهان الاهتمام بالفنون الجميلة والآداب الراقية والخوض في جدليات العلم والمعرفة ... ناهيك عن تطبيقها كمنتجات صناعية متقدمة!!

الأقرب إليك من حبل الوريد


حين تفكر بعقل وروية تكتشف أن معظم مخاوفنا مجرد هواجس ومبالغات بعيدة عن الواقع.

فنحن مثلاً نخاف من ركوب الطائرات، وإمساك الحشرات، ورؤية الصواعق، والتعرض للكوارث الطبيعية في حين ان احتمال وفاتنا بكل هذه الأشياء استثنائية ونادرة نُدرة هطول الثلج في الربع الخالي أو هبوط طبق طائر في أستاد الملك فهد!!

.. وفي المقابل هناك احتمالات واقعية - وقريبة الوقوع - يُفترض أن نحمل همها ونخاف منها كونها تؤثر على حياتنا واحتمالات وفاتنا.. ففي حين تبلغ احتمالات وفاتنا بصاعقة مطرية (1 من بين 17 مليون إنسان) وتسرب كيميائي (1 من بين 10 ملايين إنسان) وسقوط طائرة (1 من بين 4 ملايين إنسان)؛ يرتفع احتمال وفاتنا بأمراض القلب إلى (1من بين 200 مواطن) وأمراض التدخين إلى (1من بين 210 مواطن) وأنواع السرطانات إلى (1من بين 260 مواطناً)!!

ورغم أنني سبقت وحذرت من خطورة القلق والتفكير بالهواجس (في مقال: لا توحش النفس بخوف الظنون) قرأت مؤخراً كتاباً يدعى "مقياس الخطورة" يستحق إخباركم به: ففي هذا الكتاب يحاول الطبيب الألماني كلاوس هايلمان إثبات أن معظم مخاوفنا مبالغ بها وبعيدة عن أرض الواقع. ويضرب مثلاً بخوفنا من العجز والشيخوخة، في حين أن الخطر الحقيقي يكمن في احتمال إصابتنا بجلطة قلبية - أو حالة نفسية تعرض حياتنا للخطر - جراء الوسواس وإطالة التفكير في هذا الاحتمال!!

ومن خلال أمثلة مشابهة (قارن فيها بين أهم مسببات الوفاة في ألمانيا، والمخاوف التي عبر عنها 300 ألف مواطن) اتضح له أن معظم الناس يحملون هواجس لا مبرر لها، مقابل تجاهلهم لاحتمالات أكثر خطورة على حياتهم.. فالبدانة مثلاً أخطر بكثير من ركوب الطائرات، وأمراض الدورة الدموية أقرب من حوادث السرقة والقتل، وضحايا الضغط والسكر أكثر بكثير من ضحايا الفيضانات والكوارث الطبيعية.. حتى البكتيريا في أمعائنا اتضح أنها أقرب وأكثر خطورة من العمليات الإرهابية والتفجيرات الانتحارية (بدليل أن بكتيريا إيهيك المعوية قتلت عشرة مواطنين ألمان خلال أسبوعين من انتشارها، في حيث لم يُقتل أي مواطن ألماني نتيجة عمل إرهابي في آخر عشرة أعوام)!!

.. ورغم خوفنا الدفين من ركوب الطائرات - وتفكيرنا الدائم باحتمال سقوطها عند الهبوط او الإقلاع - أذكر شخصياً أن دائرة النقل الجوي في أمريكا نشرت رسماً بيانياً (يخص طائرات بوينج) يتضح من خلاله أن الطيران مايزال أكثر وسائل النقل أماناً على مر التاريخ..

فخلال آخر مليون رحلة مثلاً لم تتعرض طائرة بوينج (طراز 747) سوى ل1,55 حادث (وطراز 737) سوى ل0,71 حادث (وطراز727) سوى ل 0,66 حادث.. في حين لم تتعرض طائرة (777) لأي حادث خلال آخر مليون رحلة قامت بها - وبالتالي أنصحك بأن لا تشغل بالك باحتمال تعرضك لحادث طائرة، بل باحتمال تعرضك لحادث سيارة أثناء ذهابك للمطار، أو سكتة قلبية في حال كنت مصاباً بفوبيا المناطق المرتفعة!!

.. ما أقوله باختصار هو أن الخوف على النفس أمر طبيعي ومحمود؛ ولكن المبالغة في الخوف قد يتحول إلى هاجس وهوس (هو) ما يهدد حياتك بالفعل.. فحين تفكر بعقل وروية تكتشف أن معظم مخاوفنا مجرد هواجس ومبالغات بعيدة عن الواقع بدليل كل الأرقام والنسب السابقة..

الرجل العصامي ليس بخيلاً كما نعتقد


هناك فرق كبير بين ثري ورث المال، وثري عصامي صعد من الصفر.. الأول لا يعرف القيمة الحقيقية للمال ويصرفه بنفس سهولة حصوله عليه.. لا يتردد في الإسراف والتباهي والفشخرة على عباد الله (إلا من رحم ربي) كونه لم يجرب طعم الفقر ولا صعوبة جمع القرش على القرش..

وفي المقابل يستحق الرجل الثاني الاحترام والتقدير (ليس فقط لأنه انطلق من الصفر) بل ولأن المال لم يُغير حياته ومعدنه الأصيل.. فهو قبل أن يصبح ثرياً جرب الفقر والحاجة، وقبل أن يصبح محنكاً مر بتجارب الحياة وتقلباتها، وقبل أن يحظى باحترام الناس تعلم أن الناس لا تحترم غير الدرهم والدينار..

من أجل هذا كله أصبح يدرك أن المال الذي يملك منه الكثير مجرد مظهر خارجي لا يعبر عن معادن الرجال، ولا يمكن لرجل يحترم نفسه أن يسمح للمال بالتأثير عليه.. حين تجلس مع رجل عصامي تكتشف قدراً هائلاً من التواضع كونه جرب مرارة الفقر والحاجة ويدرك أن للمال قيمة حقيقية تساوي قدراً معلوماً من الجهد والشقاء والتعب.. تكتشف قدراً هائلاً من الثقة في النفس كونه لا يصدق بأن ساعة راقية أو سيارة فاخرة أو منزلاً جميلاً يمكنها رفع أو خفض نظرته لنفسه أو منزلته لدى الناس..

ولأنه لا يعترف بكل هذا لا تكاد تميزه من بين عامه الناس (لدرجة قد تهمس في أذن جليسك: متأكد ان هذا الرجال يملك الملايين!!؟).. وسؤال كهذا يذكرني بتعليق قرأته في كتاب جارك المليونير أتى على لسان السكرتير السابق لوزارة الخزانة الأمريكية.. فحين دعي لحفل جمع أثرياء أمريكا، وحين دخل إلى قاعة الاحتفال جال ببصره بينهم وقال: "لايمكن لهؤلاء الناس أن يكونوا مليونيرات.. فهم لا يبدون كالمليونيرات ولا يلبسون كالمليونيرات ولا يأكلون كالمليونيرات ولايتصرفون كالمليونيرات ولا حتى يملكون أسماء توحي بأنهم مليونيرات.. أين المليونيرات الذين يشبهون المليونيرات"!!؟؟

وهذا التعليق يؤكد أننا (نحن) من يرسم للمليونيرات صورة خاطئة قد لا تنطبق إلا على فئة قليلة منهم (وتحديداً من ورث المال دون عناء).. ف80% من أثرياء أمريكا صعدوا من الصفر ومروا في حياتهم بمختلف مراحل الفقر والحاجة.. ولهذا السبب اكتشف مؤلف الكتاب السابق أن:

نصفهم يلبسون ساعات لا يتجاوز ثمنها 235 دولاراً، وربعهم فقط يلبسون ساعات يفوق ثمنها الألف دولار!

ونصفهم لم يشتروا يوماً بذلة يتجاوز ثمنها 399 دولاراً، كما أن نصفهم لم يشتر يوماً حذاء يتجاوز ثمنه 140 دولاراً!!

و23% فقط من الأثرياء العصاميين يسوقون سيارات موديل "هذا العام" والبقية موديلات قديمة أو سابقة والأغرب من هذا أن شاحنة فورد للدفع الرباعي (لا المرسيدس أو البي أم) تأتي على قمة السيارات المفضلة لديهم في أمريكا!!

.. غير أن هذه الأرقام لا يجب أن تخدعك؛ فقد أتضح أيضاً أن الأثرياء (العصاميين) لا يترددون في الإنفاق بسخاء إن تعلق الأمر بصفقة مربحة أو علاج أحد أفراد العائلة أو توفير تعليم مرتفع للأبناء أو حتى أخذ إجازة بعد سنوات عمل مرهق!!

.. وتلخيصا لكل هذا نقول:

الرجل العصامي ليس بخيلاء كما تعتقد، بل ذكياً في جمع المال، وكريماً في صرفه، وأعلم مني ومنك بتأثيره!!

هل يختفي الإيميل أيضا؟


أصبحنا نعيش في عصر تتوالد -وتموت فيه- التقنيات الحديثة بسرعة كبيرة.. فحين تعود بذاكرتك لبضع سنوات فقط تكتشف أن عدداً كبيراً من الأجهزة (التي كان الناس يتباهون بحملها) لم تعد موجودة اليوم.. فهواتف السيارات اللاسلكية اختفت لصالح الجوالات المدمجة، والكاميرا التقليدية اختفت لصالح الكاميرا الرقمية المدمجة، وتقنيات البث الأرضي انحسرت لصالح البث الفضائي، وأجهزة التلفزيون الضخمة لصالح لوحات البلازما الرقيقة.. وقبل هذا كله انقرضت (اسطوانات الأغاني) لصالح (الشريط المغناطيسي)، والذي انقرض بدوره لصالح (أقراص الليزر) التي ستختفي بدورها لصالح ال mp3 وأجهزة الأيبود المدمجة!!

ورغم أهمية الإيميل (وعمره القصير) إلا أن الخبراء يتوقعون اختفائه أيضا لصالح شبكات التواصل الاجتماعي.. صحيح أنه سريع وفعال، ولكن عادات المستخدمين تحولت بسرعة لصالح التواصل اللحظي والمباشر من خلال تويتر والفيسبوك -ناهيك عن برامج الدردشة عبر الجوالات والأجهزة اللوحية الصغيرة-، فابتكار الهواتف المدمجة والكمبيوترات اللوحية وفّر علينا الذهاب إلى حيث توجد كمبيوتراتنا الضخمة (والثابتة داخل البيوت ومقارّ العمل) لفتح بريدنا الإلكتروني أو التأكد من آخر الرسائل الواردة إلينا!

.. ومن جانب آخر لا ننسى أن برامج التواصل الاجتماعي أصبحت تستعين حاليا بخدمات تحديد المواقع (Location Based Services التي تُعرف اختصاراً ب LBS) بحيث يمكن للمرسل والمتلقي معرفة مواقع وتحركاتك بعضهم البعض.. فاليوم مثلاً قد تخاطب صديقك عبر الشات وتسأله: "أين أنت"؟ فيرد عليك: "في الكافيه"، فتقول "لماذا لم تخبرني؟"، فيقول "لم تكن على النت"، فتقول "حسنا، انتظرني، سأتيك بعد نصف ساعة".. ولكن حين تستعين بتقنية LBS ستتابع تحركاته دون علمه بحيث تختصر الحوار السابق بجملة واحدة فقط: "شايفك يانذل، رحت الكافيه بدوني، دقيقتين وأنا عندك".

وتوفر تقنية كهذه يعني قدرتنا على تحديد مواقع كل من نعرف أرقامهم وعناوينهم كالأصدقاء والأقرباء والعاملين لدينا -بل وتحديد مواقعنا نحن في حال تهنا أو تعرضنا لحادث بعيد-!!

ورغم أنّي شخصيا أحب الإيميل -وأكره تويتر والفيسبوك- إلا أنّي أعترف بأن الجمع بين تقنية تحديد المواقع، وبرامج التواصل اللحظي ميزةٌ لا تصب في صالح "الإيميل" حيث تنتظر الرسائل فترة طويلة قبل قراءتها، ناهيك عن عدم معرفتنا بموقع أو هوية مرسلها!!

.. أيضا من المزايا التي ترجح شبكات التواصل الاجتماعي على البريد الإلكتروني، هو احتواء الأخير على كم هائل من الرسائل الدعائية وغير المرغوب فيها -بحيث تعثر على رسالة واحدة تهمك ضمن مئة لا تهمك ولا تعرف أصحابها- أضف لهذا أن كثيراً من رسائل الإيميل قد تحمل فيروسات أو برامج اختراق (حيث اتضح أن أكثر من 74% من مشاكل الفيروسات ناجمة عن فتح رسائل أتت لأصحابها من خلال الإيميل).. وفي المقابل لا تتضمن برامج التواصل الاجتماعي أياً من هذه المشاكل، كونك تتواصل فقط مع من تريد وترغب -وهذا بحد ذاته يحمي جهازك من العطب، لصعوبة تلقيك فيروسات من مصادر تعرفها وتثق بها-!

.. على أي حال،

أنا شخصيا لا أعتقد أن الإيميل سيتوفى (مثل البيجر أو شريط الفيديو) ولكنه سيتراجع إلى حدود الُمكاتبات الرسمية والتعاميم الإدارية ومراسلات ما وراء البحار.. وفي حين سيتراجع كثيراً في المراسلات الشخصية، وسيظل قوياً في مجالات معينة كالإعلام والسياحة والدعاية والترويج التجاري!!

.. وأياً كان الحال، قد يهمك معرفة إيميل الرئيس الأمريكي قبل اختفائه.

في أسوأ الظروف تصرّف كجنتلمان


كان لدينا سائق أعرف متى يكذب ومتى يقول الحقيقة.. حين يقول الحقيقة يتصرف بعفوية وثبات؛ وحين يكذب "يَحُك" خلف أذنيه ويطأطئ رأسه للأرض ويحاول المغادرة سريعاً.. كانت حركة عفوية لا يعلم بها، ولم ألفت أنا انتباهه إليها!!

فالكذب وضع شاذ يحفز الجسد ويربك الجوارح ويقلل الثقة بالنفس. فنحن حين نكذب نتصنع غير الحقيقة ونحاول أقلمة جوارحنا مع مانقول. وفي وضع كهذا يحصل تعارض بين المخ (الذي يعرف الحقيقة) والجوارح (التي تحاول تصنع مايوائم الحقيقة) واللسان (الذي يحتهد في فبركة غير الحقيقة).. وعدم التناسق هذا يولد مظاهر استثنائية وغير اعتيادية يمكن ملاحظتها فيمن يكذب عليك؛ فالكاذب مثلاً يتهدج صوته، ويرتفع ضغطه، وتتعرق يده، وتزداد نبضات قلبه، ويجف فمه، وتطرف عيناه بسرعة.. أما من يقول الحقيقة فتعمل أعضاؤه بتناسق ووئام طبيعي فيظهر هادئاً واثقاً حتى حين يقول الحقيقة على نفسه!!

وجهاز كشف الكذب الذي نراه كثيراً في الأفلام الأمريكية ليس أكثر من مجسات تقيس نبضات القلب وضغط الدم ونسبة التعرق وجميع المظاهر التي ترافق حالة الكذب. وبمقارنة مستوى هذه المظاهر مع الوضع الطبيعي (حين يقول الحقيقة) يمكن للخبير تمييز الكاذب من الصادق..

ولكن "الخبير" يدرك أيضاً أن هناك حالات استثنائية لا يتحمل فيها البعض رهبة الموقف فينهارون ويظهرون كاذبين رغم براءتهم. وفي المقابل هناك من يملك أعصاباً فولاذية وسيطرة كاملة فينجو رغم كذبه.. وهذه الاستثنائية جعلت المحاكم الأمريكية لا تأخذ نتائج الجهاز كدليل إدانة وإن كان الجميع يعترف بفائدته في توجيه جهود الشرطة والحد من المشتبه بهم!!

وما يظهر لي أن بدو سينا سبقوا الأمريكان في اختراع جهاز كهذا (وهو ما أشرت إليه في إحدى رسائل الجوال)؛ فقد لاحظوا أن الكاذب "ينشف ريقه" ولا يعود قادراً على إفراز اللعاب. واعتماداً على هذه الحقيقة يعمدون لتسخين محمسة القهوة حتى الاحمرار ثم "تُلسع" بها ألسنة المشتبه بهم.. والفكرة هنا أن الصادق لا يتعرض للحرق إذا "كوم" اللعاب في فمه؛ أما الكاذب فيجف ريقه فتظهر على لسانه (كوية) وقد يتأثر كلامه لعدة أيام.. وأرى شخصياً أن محمسة القهوة تتفوق على جهاز كشف الكذب لأنه في90% من الحالات يرفض الكاذب إخراج لسانه أو يعترف بفعلته قبل إدخال المحمسة وحرق لسانه!!

على أي حال؛ بالإضافة للمظاهر التي ذكرناها في بداية المقال يتحاشى الكاذب النظر في عينيك، ويكثر من الحلفان، ويكرر مايوحي ببراءته (حتى كاد المريب ان يقول خذوني)، ويحاول تغيير الموضوع، ويعتمد على العشم وحق العلاقة بينكما(كأن يقول: ألم تعد تثق بي؟)، كما يقوم بحركات عصبية لا واعية (كأن يلعب بالقلم حتى يسقط منه)، ويفعل أي شيء لتخفيف حدة الموقف (كأن يقوم فجأة لفتح المكيف أو إحضار الشاي)، أو يمثل دور المظلوم حتى قبل اتهامه كما قال إخوة يوسف لأبيهم قبل اتهامهم (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، وقد يفعل مثلما كان يفعل "نيازي" يحك خلف أذنه ويطأطئ رأسه للأرض حيث يملك كل إنسان "حركة" عفوية تظهر عليه حين يكذب فقط.. والأهم من كل هذا يتملكك أنت حدس بوجود شيء مفقود أو غير طبيعي في كلامه!!

... بقي أن أنصحك أنت بتجنب الكذب قدر الإمكان ولا أقول هذا من باب الوعظ أو التمشيخ ولكن لأن الكذب يأكل من سمعتك (وهذا أولاً) وثانياً لأن كل كذبة تطلقها تحتاج لاحقاً إلى عشرين كذبة تساندها (وتذكر كم مرة اضطررت لفعل ذلك مع زوجتك)..

... في أسوأ الظروف تصرف كجنتلمان إنجليزي..

لا يكذب؛ ولكنه لا يقول الحقيقة!!

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...