الخميس، 29 أغسطس 2019

صوتك الحقيقي


كان في المدينة شيخ فقيه طاعن في السن.. وفي آخر عمره اتفق بعض طلبته على أخذه لأداء العمرة.. وفي طريقهم الى مكة أدخل السائق شريط كاسيت يتضمن درسا من دروسه في الحرم النبوي.. ولأنه كان يُحرم الغناء والموسيقى - ولأنه لم يسمع صوتا مسجلا في حياته - أنصت للدرس بدقة واهتمام (لدرجة كان يميل نحو الكاسيت رافعا العمامة عن إذنه اليسرى كما أخبرني ابنه شخصيا)..

وحين انتهى الشريط عاد للجلوس منتصبا وقال: "والله انه لذو علم"..

لم يكن الشيخ الأعمى يدرك أنه هو من يتحدث في الشريط فشهد لنفسه بكل صدق وعفوية..

وقد تبدو هذه الحادثة غريبة لجيل اليوم كوننا نسمع أصواتنا - وأصوات غيرنا - بطريقة مسجلة على الدوام.. ولكن لو تتذكر معي أول مرة سمعت فيها صوتك مسجلا، ستدرك كم بدا صوتك غريبا - وكم كدت تجزم بأنه ليس أنت!!

هذا التفاوت بين حالتي الاستماع تثير العديد من الأسئلة المدهشة مثل:

أيهما صوتنا الحقيقي؟.. هل هو الذي نتحدث أمام الناس أم الذي نسمعه من خلال "المسجل"؟

وماذا عن بقية الناس، هل يستمعون إلى الصوت الذي نسمعه نحن أم الى ذلك "البشع" الذي يخرج من آلة التسجيل؟

.. لن أتركك تفكر كثيرا..

فصوتك الحقيقي هو الذي يخرج من آلة التسجيل وهو الذي يسمعه منك الناس عادة..

أما سبب الاختلاف فيعود الى اختلاف وسيلة نقل الصوت ذاتها، وطريقة استقبال أذنك للصوت الذي تسمعه بنفسك والصوت الذي يخرج من آلة التسجيل..

فحين تسمعه من آلة التسجيل ينتقل الى أذنيك وآذان الناس عبر موجات الهواء (فقط).. أما حين تسمعه (من نفسك) فأنت في الحقيقة لا تسمعه عبر موجات الهواء بل من خلال الذبذبات التي تنتقل عبر عظام جمجمتك وتتضخم عبر تجاويفك الأنفية.. وبهذا الطريقة تسمع أيضا قرمشة البسكويت بين أسنانك، وصوت الماء أثناء نزوله فوق رأسك، وانتقال الصوت عبر الأنابيب المعدنية لمسافات طويلة - كما يفعل الكابوي الذي يعرف قدوم القطار من مسافات بعيدة من خلال وضع أذنيه على السكة الحديدية..

والفرق بين الحالتين يتضح في أقوى صوره في الفضاء الخارجي حيث ينعدم الهواء تماما لدرجة لا يسمع الرواد أصوات بعضهم البعض (مهما صرخوا على مسافات قريبة) ولكنهم في المقابل يسمعون أصواتهم الشخصية بفضل انتقالها من حناجرهم الى آذانهم عبر عظام الجمجمة!!
أتعلمون أين تكمن المفارقة!؟

أن القينات والمطربين(أيام الأمويين والعباسيين وقبل اختراع آلات التسجيل) كانوا الوحيدين الذين لم يسمعوا أصواتهم الجميلة على حقيقتها!!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...