الجمعة، 30 أغسطس 2019

لا تحكم على الرسالة من حاملها


في عام 2006 أصدر وزير العمل الدكتور غازي القصيبي رحمه الله قرارا بتأنيث محلات الملابس الداخلية وقصر العمل فيها على النساء.. غير أن الحملة توقفت خلال شهر بسبب معارضة التيار المحافظ لعمل المرأة وتوجسه من نية وزارة العمل ووزيرها الخلوق..

أذكر أنني استغربت من موقف المعارضين لأن القرار حينها وبصرف النظرعن الجهة التي أصدرته كان بدهيا ومنطقيا ويفرض نفسه بنفسه (أعني ؛ من يقبل أن تشتري زوجته أو ابنته ملابسها الخاصة من وافد أجنبي)!

لم أفهم فعلا سبب الاعتراض وبالتالي لم يبق أمامي سوى الاعتقاد أنها مجرد مواقف معارضة للوزير نفسه.. ولكن ماذا لو تخيلنا صدور هذا القرار من سماحة المفتي؟

.. كان الأمر سيختلف بالتأكيد وكنا سنسمع آراء تأييد ومساندة من قبيل:

"قرار سماحته فيه حماية لأعراض بناتنا من الباعة والوافدين" أو "كان قرار فضيلة المفتي حكيما ومانعا لخلوة النساء مع الرجال الأجانب" أو "قرار سماحته يقطع الطريق على من يستغل هذا العمل للتعرض لبنات المسلمين بسيئ القول أو الفعل"..الخ

ولكن الحقيقة هي أن سر المعارضة لم يكن في الرسالة ذاتها (كونها بدهية في نبلها) بل في اختلاف نظرة التيار التقليدي لكلا الرجلين..

فنحن ببساطة نتوجس ريبة من كل من يخالفنا في الشكل والمظهر وطريقة التفكير (وعلى قول أحد الأصدقاء كانت مشكلة القصيبي أنه لا يحمل شاربا ولا لحية).. وفي المقابل لا يمكنك أن تؤلف سورة تفاحة وتنجو بفعلتك إلا إن كنت تملك لحية طويلة ومظهراً خاصا برجال الدين!

وبحكم عملي في تحرير هذه الزاوية مررت بمواقف كثيرة مماثلة .. فذات يوم مثلا وجدت على اليوتيوب قساً قبطياً (لن أخبركم باسمه) يتحدث في عدة حلقات عما دعاه بالأخطاء النحوية في القرآن الكريم.. وبدافع الحمية كتبت مقالا فندت فيه آراءه الشاذة وقلت ان ما يظنه اكتشافا ثوريا هي قضايا قديمة فندها كبار المفسرين منذ قرون (وبدأت في سرد آرائهم في الموضوع)...

والأهم من هذا أنني وضعت قاعدة ثابتة وشاملة (وجميلة جدا) مفادها أن القرآن الكريم هو ما يجب أن يؤخذ كحجة على قواعد اللغة العربية وليس العكس.. فالقرآن الكريم كتاب أزلي ومحفوظ، في حين أن قواعد اللغة اختراع بشري لاحق ومتغير ويتفاوت بين قبائل العرب (بدليل تعدد مدارس النحويين، وبدليل أن أبا الأسود الدؤلي وضعها بعد نزول القرآن الكريم بوقت طويل)..

ولكن ؛ بدل أن أتلقى رسالة شكر أو كلمة تأييد فوجئت بسهام التشكيك والمعارضة من قبل البعض (وغاب عن بالهم أن المعارضة تعني تأييد ما ذهب إليه القس، وأن التشكيك في شخصي المتواضع يعني التشكيك في الرأي الذي قدمته في المقال) .. وبطبيعة الحال كنت سأحظى بالتأييد والمساندة أو على الأقل يتم التعامل مع مقالي بشكل أقل حدة لو كنت من المحسوبين على التيار المتدين ولكن الحقيقة هي أن أحدا لم يتعرض للقس نفسه أو يفند الادعاء الذي قدمه هو (في حين فندت تهمه أنا)!!

... على أي حال؛

لم أكتب مقالي هذا دفاعاً عني أو عن القصيبي رحمه الله ولكنها مجرد أمثله للتنبيه على خلطنا الواضح بين الرسالة وحامل الرسالة.. بين المضمون وصاحب المضمون..

لماذا نسارع لتخطئة الرأي المقابل، أو نشكك في نوايا صاحبه، لمجرد اختلافه عنا في التفكير أو الشكل والمظهر.. وفي المقابل أليس من السذاجة وتأجير العقل أن نسلم بصحة الرأي أو الفكرة لمجرد خروجها من شخص يماثلنا في التفكير والمظهر!؟

... إن لم تعجبك كل هذه الخيارات تخيل فقط أن كاتب المقال (انسان آخر) يماثلك في كل شيء .. بما في ذلك الشكل والمظهر..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...