الجمعة، 30 أغسطس 2019

التاريخ المالح


هناك أشياء كثيرة في حياتنا - من فرط تعودنا عليها - لا نتصور أهميتها أو وجود تاريخ طويل يقف خلفه..

من يتصور مثلا أن للملح تاريخاً عظيماً، وأنه كان المحرك الأول لاقتصادات وشعوب كثيرة؟!

من يتصور انه كان في التاريخ القديم أغلى من الذهب، أو أن قطعه الصخرية كانت بمثابة عملات يتم تداولها في موريتانيا حتى وقت قريب؟!

في الغالب لا يعرف معظمنا عن الملح غير وضعه على الطعام، ولكن الحقيقة هي أنه له استعمالات صناعية ومنزلية كثيرة مثل حفظ الأطعمة المعلبة (التي تضم نسبة كبيرة يصعب تمييزها) وتجفيف الخضروات وحفظ اللحوم من التعفن (وهو ما كان يفعله أجدادنا قبل اختراع الثلاجات) كما أنه مفيد في طرد الحشرات من المنزل والمطبخ (وجرب وضعه في المواقع التي تخرج منها الصراصير والنمل)، ويمكنه تنظيف البقع الحرارية الصعبة (في الأفران والأباريق وقاعدة المكوى) ناهيك عن اعتقاد مجتمعات كثيرة بأنه جالب للحظ وطارد للأرواح الشريرة (وهذا عامل نفسي مهم نراه كثيرا في المصارعات اليابانية حيث يتم رمي الملح في زوايا الحلبة)!!

.. غير أن للملح في المقابل سيئتين لا يمكن لأي انسان غفرانهما أو نسيانهما:

الأولى: أنه السبب الرئيسي في عدم استفادتنا من 70% من المياه الموجودة على كوكب الأرض..

والثانية: أنه يتسبب بارتفاع ضغط الدم (أو الذي يدعوه الأطباء القاتل الصامت) لدى كثير من الناس!

.. وكنت قد فصلت النقطة الأولى في مقال بعنوان "حضارات المستقبل تدير ظهرها للأنهار" تخيلت فيه حال البشرية لو كانت البحار عذبة بلا أملاح.. واخترت له هذا العنوان عطفا على حقيقية أن جميع الحضارات القديمة نشأت وازدهرت على ضفاف الأنهار العذبة، وأن الوضع كان سيختلف بالتأكيد لو كانت ملوحة البحار أقل من 3,5% التي تعد مرتفعة بالنسبة للبشر والمحاصيل الأساسية له..

فلو كانت البحار بدون أملاح أو على الأقل انخفضت ملوحتها الى1,5% لنشأت الحضارات على شواطئ البحار ولامتلكنا مصدرا خرافيا من المياه الرخيصة - وما يتبع ذلك من وفرة غذائية وحضارية وطاقة لا تنضب!

.. أما بخصوص النقطة الثانية؛ فرغم وجود أسباب عديدة لارتفاع ضغط الدم (كالسمنة والكسل والكحول والعامل الوراثي) إلا أن الملح أصبح يلعب دورا كبيرا في المعادلة بدليل أن التخفيف منه يخفف من فعالية الأسباب الأخرى مجتمعة..

ولهذا السبب أصبح الأطباء يؤكدون في جميع الأحوال على التخفيف من تناول الملح كون تأثيره ليس فقط مؤكدا، بل وقد يكون الحل الوحيد لارتفاع الضغط المجهول السبب.. وكانت دراسات كثيرة قد أكدت أن ضغط الدم المرتفع (الذي يتسبب بتهتك الشرايين وانهيار الكلى وإجهاد القلب والاصابة بالسكتة) نادر الحدوث في الشعوب التي تقل نسبة الملح في غذائها.. وفي المقابل ترتفع النسبة لدى المجتمعات التي تستهلك منه كميات كبيرة أو تعتمد بكثرة على الأطعمة المحفوظة والمعلبة والوجبات السريعة - لدرجة ظهور فرضية ترجح أن ارتفاع ضغط الدم الشائع في البدناء قد لا يكون راجعاً الى زيادة السُعرات الحرارية في غذائهم، بل لتناولهم كميات كبيرة من ملح الطعام في وجباتهم السريعة!!

.. أنا شخصياً لم أتصور أن توحي لي قارورة الملح الصغيرة الموجودة على مكتبي منذ البارحة بكتابة هذا المقال!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...