الخميس، 29 أغسطس 2019

الجانب الذي لا تعرفه عن نفسك


في المرحلة المتوسطة تعلقت بكتب علم النفس وقرأت منها أكثر من طلاب الكليات المتخصصة.. وفي حين تبخرت معظم التفاصيل هذه الأيام (ولم يبق منها سوى الشعور بالفهم والألفة) رسخت في ذاكرتي تجارب غريبة ودراسات مميزة يصعب نسيانها...

ومن هذه الدراسات تجربة نظمتها جامعة ييل الأمريكية في مطلع الستينات.. كان الهدف منها معرفة مدى إطاعة الناس المسالمين (مثلي ومثلك) للسلطة وإلى أي مستوى يمكنهم تنفيذ أوامرها القاسية.. وهكذا طلبت متطوعين مدنيين للمشاركة في التجربة دون إخبارهم بهدفها الحقيقي وادعت أنها دراسة خاصة لقياس مستوى "التعلم من خلال التنبية الجسدي"..

وكانت التجربة تعتمد على وجود مُعلم (يمثله أحد المتطوعين) ومتعلم (يقوم بدوره ممثل اتفقت معه الجامعة على تمثيل دور الضحية)...

كان يطلب من المتعلم (الموثق إلى كرسي كهربائي) تذكر مجموعة من الكلمات الأجنبية، وحين يخطئ أو يتوقف عن الإجابة يحق "للمعلم" صعقه بالكهرباء.. وكانت حدة التيار تتدرج في شدتها بحيث يمكن "للمعلم" (المتطوع موضوع الدراسة) رفعها درجة كلما أخطأ المتعلم في تذكر الكلمة التالية..

والغريب أن معظم المتطوعين (الذين يمسكون زر الصاعق) لم يترددوا في رفع شدة التيار رغم مظاهر الألم والصراخ والتوسل الذي يطلقه المتعلم (الذي كان يمثل بطبيعة الحال)..

وكان استعداد المتطوعين المدنيين لتعذيب الغير مفاجئاً وغير متوقع حتى للمشرف على التجربة الدكتور ستانلي ميلجرام.. كان استعدادهم لإطاعة أوامره واستمرارهم في تشغيل التيار (لمصلحة التجربة) لا يكاد يقف عند حد.. كان مرعباً ومخيفا لأن من بين هؤلاء المتطوعين آباء وأمهات وطلاب جامعة مسالمين لم يؤذوا أحداً أو يخالفوا القانون خلال حياتهم..

صحيح ان معظم الناس يرفضون القيام بهذه المهمة مسبقاً، ولكن اتضح أن تواجدنا في موقف الجلاد يقودنا لتنفيذ الأوامر بحجج كثيرة نبررها لأنفسنا مثل: إن لم أفعل هذا سيفعله غيري، أو إن لم أفعل هذا سأكون مكانه، أو لماذا يوافق على وجوده في هذا المكان...

كانوا ببساطة يتصرفون وفق جانب إنساني مظلم وخفي ولا يظهر إلا في ظل وجود نظام محكم وسلطة أقوى كسلطة القادة على الجنود..

اتضح من خلال استمرارهم في تعذيب الضحية أن الجلادين والطغاة ليسوا بالضرورة قساة بل قد يكونون مجرد آباء لطفاء في حياتهم العادية (وليس أدل على ذلك من حب هتلر للأطفال، وهولاكو للقطط، واستسلام القذافي لضربات أحفاده)..

أوضحت هذه التجربة كيف يمكن لشعب راق ومتعلم كالألمان الاستسلام للسلطة النازية وتنفيذ أوامرها في إبادة الشعوب الأخرى..

أوضحت كيف يمكن لشعب مؤدب وخجول مثل اليابانيين القيام بمجازر فظيعة في كوريا والصين ودفن الناس أحياء في مدينة يانكين..

أوضحت كيف يمكن لأبناء الشعب الواحد جزر بعضهم البعض (كما حصل في روندا ويوغسلافيا ويحصل حاليا في سورية والعراق)..

أوضحت أنهم لا يفعلون ذلك بسبب الحقد الطائفي أو العرقي (الموجود أصلاً من قبل) بل بسبب وجودهم تحت نظام جائر وامتلاكهم استعداداً عميقاً لإطاعة السلطة رغم إدراكهم لحجم الظلم والمعاناة التي تمر بها الضحية!!

نتائج هذه التجربة صعقت حتى علماء النفس لدرجة كررها بعضهم على سبيل التأكد في حين نظم البعض الآخر تجارب أكبر منها وأشمل (لا تتسع المساحة لاستعراضها) ولكنها أكدت النتائج المرعبة التي خرجت بها تجربة ييل !!

... أنا شخصياً لم أستطع نسيان هذه التجربة لأنني ببساطة أتذكرها كلما فتحت التلفزيون وسمعت بمجزرة جديدة نفذها البشر ضد بعضهم البعض!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...