الخميس، 29 أغسطس 2019

فكر بالاقتصاد


أدين بمقال اليوم لزوجتي الدكتورة نجاة.. فبعد 13 عاماً من الكتابة أصبحتم تعرفون أنها طبيبة أطفال. ولكن مالا يعرفه معظمكم أنها أيضاً "جراحة مناظير" يتم استدعاؤها حتى أيام الإجازات لإخراج أشياء غريبة من حلوق الأطفال وأمعائهم.. ويوم الجمعة الماضية تم استدعاؤها مرتين لاستخراج نصفي ريال معدنيين ويوم السبت التالي تم استدعاؤها أيضاً لاستخراج نصف ريال آخر..

ولأن سائقنا مايزال هارباً (صباح الخير وزير العمل) يتحمل شخصي المتواضع دائما عبء إيصالها للطوارئ..

وخلال طريقنا للمستشفى حاولت الاستظراف فقلت: "بهذا المعدل سنصبح أغنياء إن احتفظنا بكل هذه العملات المعدنية".. لم تعجبها النكتة ولكنها قالت شيئاً دفعني لكتابة هذا المقال: "من يوم ماخلوا البيبسي بريال ونصف زادت نسبة ابتلاع الأطفال للعملات المعدنية".. فهمت قصدها فوراً فقلت معقباً: "على هذا الأساس سترتفع النسبة أكثر بعد تطبيق وزارة التجارة قرارها بإرجاع ماتبقى من العملات بدل اللبان والمناديل" (صباح الخير وزير التجارة)!!

وهذا أيها السادة مجرد مثال صغير على الدور غير المباشر (وغير المتوقع) للقرارات الاقتصادية في حياتنا اليومية.. صحيح ان للاقتصاد أدواراً كثيرة (مباشرة ومفهومة) على الأفراد والمجتمعات، كأن نقول ان البطالة ترفع نسبة الجريمة، أو يتسبب الفقر في تسرب الأطفال من المدارس؛ ولكن هناك علاقات غير مباشرة أو متوقعة قد لا تخطر على بالنا أبداً.. فمن كان يتصور مثلاً أن رفع ثمن البيبسي سيرفع من نسبة ابتلاع الأطفال للعملات المعدنية أو أن أخذ الأب للعملات المتبقية من البقال يرفع احتمال اختناق أطفاله في المنزل!!

وعلى نفس السياق يمكن القول إن رفع سعر الوقود سيساهم في خفض نسبة الوفيات بين الشباب.. وللوهلة الأولى قد لا تعتقد بوجود علاقة بين الطرفين، ولكن ماذا لو أخبرتك أن رفع سعر البنزين سيُخفض من نسبة استعمال السيارات أو على الأقل اختصار المشاوير أو الاشتراك بها.. وحين تنخفض نسبة استعمال السيارات تقل نسبة الحوادث.. وحين تقل نسبة الحوادث والتفحيط تقل نسبة الوفيات بين الشباب.. وهكذا تدرك فجأة لماذا نأتي دائماً في مقدمة العالم في نسبة الحوادث!!

وهناك اقتصادي أمريكي يدعى ستيفن ليفيت ادعى أن انخفاض مستوى الجريمة وعدد العصابات في أمريكا لم يكن بسبب مهارة الشرطة أو حملات السياسيين بل بسبب تشريع الإجهاض عام1973.. فحسب تفسيره أدى تشريع الإجهاض إلى انخفاض عدد الأطفال اللقطاء والذين كان مقدراً لربعهم الانتساب لعصابات الأحداث وعالم الجريمة بسبب قلة الرعاية ومتابعة الوالدين!!

أيضا أثبت بالأرقام أن ارتفاع مستوى الدخل ينتهي بإنشاء مسبح في المنزل.. وأن إنشاء مسبح في المنزل يرفع من احتمال الغرق بين الأطفال.. وهذه العلاقة تفسر لماذا يتوفى أطفال الأثرياء غرقاً بنسبة تفوق وفاة أطفال الفقراء بسبب الجريمة أو الانتساب للعصابات!

ومن أوجه الترابط الغريبة الأخرى ادعاؤه أن انحسار تجار المخدرات في أمريكا يعود بسبب تعلم الناس كيفية صنعها من خلال الانترنت (وبالتالي) لم يعد توزيعها مجدياً اقتصادياً فاختفى معظم المهربين والتجار الصغار..

وبنفس الطريقة يشرح سبب الانهيار التدريجي للمنظمات الدينية المتطرفة، وحتمية الغش في المسابقات الرياضية، وكيف تتصرف المنظمات المتطرفة كتجار العقارات، وكيف تسببت الانترنت في انهيار شركات ساهمت في ظهورها!!

في الحقيقة لا تحتاج لأن تكون اقتصادياً كي تفكر في أي احتمالات (غير مباشرة) تتعلق بمجتمعنا المحلي.. فماهي العلاقة مثلاً بين انهيار سوق الأسهم عام2006 وانخفاض معدل الإنجاب في السعودية، أو العلاقة بين انتعاش العقارات وانخفاض كفاءة الخطوط السعودية، أو عودة المبتعثين وانخفاض نسبة العاطلين بدل زيادتها في البلد..

قد تغيب عنك العلاقة ولكن فكر دائما ب"الاقتصاد" كونه الورقة الخفية وراء معظم المتغيرات والمظاهر الاجتماعية!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...