السبت، 31 أغسطس 2019

عظماء آخر جيل


حين تراجع التاريخ تكتشف أن الفنون والآداب لا تبدآن بالظهور والازدهار إلا في أوقات الرخاء وتوفر الاحتياجات الأساسية لجميع الناس...

حين تراجعه جيدا تكتشف أن فترات الرخاء لا تدوم طويلا، وأن فترات القلاقل هي التي تتمخض عن جيل من العباقرة والمبدعين الذين يولدون ويعيشون ويموتون في نفس الوقت...

فحين يصل المجتمع الى فترة الرخاء والاكتفاء تبدأ إرهاصات الاهتمام بقضايا الفكر والفلسفة والمسائل الجدلية.. وبعد جيل أو جيلين تظهر موجة مفاجئة من العباقرة والمفكرين في ظاهرة يمكن تشبيهها بفترة تسخين طويلة ماتلبث أن تنتهي ب"فقاقيع" تظهر بسرعة وتختفي بسرعة..

ونظرة فاحصة على تواريخ ميلاد المشاهير (من الموسيقيين والأدباء والفلاسفة وعلماء الفيزياء والفلك) تؤكد هذه الظاهرة وتجعلنا نتساءل عن ماهية الظروف والدوافع التي ساهمت في إبراز المجاميع الفذة في ذات الفترة..!

ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت المرحوم أنيس منصور لتأليف كتاب بعنوان "في تلك السنة أولئك العظماء ولدوا معا"..

والمهم في نظري ليس سنة 1889 (التي قصدها الاستاذ أنيس) بل الفترة التي تلتها بأربعة أو خمسة عقود نضجت خلالها عبقرية كل من العقاد وطه حسين وهتلر ونهرو وشابلن وهابل و... بقية العظماء الذين ذكرهم في كتابه!!

أما أكبر موجة من العباقرة ظهرت في التاريخ فتلك التي وجدت في أثينا قبل الميلاد. فوجود مجموعة من العباقرة والفلاسفة العظام في نفس الوقت (مثل أرسطو وسقراط وأفلاطون وأرخميدس) وفي مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 25 ألف نسمة يعتبر حدثا نادرا وتوافق يصعب تكراره..

أيضا شهدت أوروبا وأمريكا في المائتي سنة المحصورة بين 1850 و 1950 موجات عظيمة من العلماء والعباقرة والمهندسين ظهروا نتيجة النهضة العلمية والاصطناعية التي ميزت الغرب في تلك الحقبة بالذات..

وحين تتأمل اليوم شعوب العالم تكتشف أن الدول التي تجاوزت مرحلة الرفاهية وتحقيق الاحتياجات الانسانية (بما في ذلك حقوق الفرد) هي الأكثر إبداعا وتفوقا وقدرة على الابتكار والتصنيع . فالإنسان فيها اشبع كافة احتياجاته العضوية والنفسية والاجتماعية، ويحظى بالرعاية والاحترام والتأمين ضد الفقر والمرض والبطالة وبالتالي لا يبقى أمامه غير إثبات ذاته من خلال الابداع والتميز ورد أفضال المجتمع (وهو ما ينطبق على معظم الأفراد أيضا)!!

وفي المقابل ؛

لا تتوقع من انسان جائع الابداع أو التفرغ لتأليف رواية أو قطعة موسيقية.. لا تنتظر من مجتمع فقير أو شعب مهان الاهتمام بالفنون الجميلة والآداب الراقية والخوض في جدليات العلم والمعرفة ... ناهيك عن تطبيقها كمنتجات صناعية متقدمة!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...