الجمعة، 30 أغسطس 2019

النص ثابت.. أما الفهم فمتغير


كتبت قبل فترة مقالا بعنوان "شرعنة تحقير المرأة" استعرضت فيه آراء ومسائل وأحكاماً فقهية تقلل من منزلة الأنثى تحت عباءة الدين ومسمى الشرع..

ورغم أنني أكدت في بداية المقال على ضرورة التفريق بين النص (وما فهمه أسلافنا من النص) وبين رأي الدين (والرأي الشخصي للفقية وظروف العصر الذي ظهر فيه)؛ إلا أن هناك من انتقد تفنيدي لبعض المزاعم في الكتب القديمة لمجرد أن الزمن أضفى عليها قدسية كبيرة - حتى في المواضع التي لا تستند فيها على نصوص شرعية أو استنباطات فقهية سليمة!

.. والجميل أن نسبة التأييد للمقال فاقت توقعاتي الشخصية (وراجع بنفسك الردود في موقع الجريدة الإلكتروني) في حين نبهتني إحدى السيدات الفاضلات إلى أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أوصى في مؤتمره المنعقد في أغسطس 2011 (وبكل من حضر فيه من فقهاء وعلماء من كافة الدول الاسلامية) بضرورة تنقية التراث الشرعي من الاجتهادات الفقهية المسيئة للمرأة.. وبعد البحث في قرارات وتوصيات هذا المؤتمر وجدت تحت التوصية السادسة ما يلي:

"يوصى المؤتمر بضرورة تنقية التراث ومراجعة بعض الخطابات المعاصرة التي تهضم حقوق المرأة الشرعية مع مراعاة أن سلف الأمة كانت لهم اجتهاداتهم وفق سياقاتهم الاجتماعية والتاريخية"..

ومن الأمور التي تحفَّظ عليها علماء المؤتمر تفاسير قديمة تقف ضد المرأة أو تقلل من قدرها مثل قول ابن كثير في تفسير قوله تعالى "أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين": وكذلك جعلوا له أي الله من الأولاد أخسهما وأردأهما وهن البنات - ووافقه الزمخشري والبيضاوي في استعمال نفس العبارات (ولاحظ هنا أنه أكد ما أكده أصحاب هذا القول)!!

وهناك أيضا تفسير الفخر الرازي لقوله تعالى "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها" حيث قال: أما قوله {خلق لكم ففيه دليل على أن النساء خلقن كالدواب وغيرها من المنافع (للرجل)..

وهذه مجرد أمثله على تحفظ علماء المؤتمر على بعض الآراء والتفاسير القديمة (وليس على النصوص ذاتها) وهو فرق أكدت عليه في مقالي الأول حين قلت بالنص:

.. "للذكر مثل حظ الأنثيين" و"الرجال قوامون على النساء"؛ نصوص شرعية نسلم بها ونتوقف عندها، ولكن حين يستشهد بها أحدهم لتحقير المرأة أوالتقليل من شأن الأنثى فمن حقنا أن نختلف معه لأنه حمل الآيات ما لا تحتمل ولوى أعناق النصوص لتتفق مع رأيه وما تربى عليه!

.. وهذا أعزائي بخصوص التفسيرات الفردية المقللة من شأن المرأة..

أما الجانب الآخر للمشكلة فهو الاستعانة بأحاديث ضعيفة أو موضوعه أو متعارضة مع آيات قرآنية وثوابت شرعية (فقط من أجل إثبات دنو منزلة الأنثى وهضم حقوقها المدنية)..

خذ كمثال حديث "لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف وعلموهن سورة النور" وهو حديث موضوع لجأت إليه حركة طالبان لإغلاق مدارس البنات ومنع النساء والأرامل من تملك الدور!!

وهناك حديث آخر يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم "إن الفساق هم أهل النار، فقال رجل: يا رسول الله وما الفساق؟ قال: النساء، قال: ألسن أمهاتنا وأخواتنا وأزواجنا، قال: بلى ولكنهن إذا أعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم يصبرن"..

ورغم أن للحديث صيغاً أخرى (تم تصحيح بعضها وتضعيف بعضها) إلا أن اختيارنا لصحة السند يدخلنا في مشكلة مع المتن.. فرفع النص الى مقام الرسول الكريم لا يتفق مع رسالته السمحة وخلقه النبيل.. فالحديث مثلا يتضمن حكما عاما بفسق النساء، وإقرار بدخولهن النار لأسباب بسيطة لم تثبت شرعا ويفعلها الرجال أيضا (كعدم الشكر وقلة الصبر) ناهيك عن مخالفته لواقع الحال حيث يدرك الجميع أن الرجال وليس النساء هم الأكثر فسقا وعنفا وإجراما وجراءة على الموبقات بدليل نسبتهم العالية في السجون مقارنة بالنساء في جميع المجتمعات (وللتوسع أكثر ابحث في النت عن مقال "المرأة بين قداسة السند وشذوذ المتن" للشيخ د.إبراهيم المطرودي)!!

.. الحقيقة هي أنك حين تراجع تراثنا الفقهي بحيادية تكتشف أن أمة محمد لم تختلف يوما على نص صحيح وواضح ومباشر (مثل حرمة الخمر أولحم الخنزير) ولكنها تختلف بحسب فهمها للأحاديث الضعيفة والنصوص العامة التي تتأثر بثقافة المجتمع ونشأة الفقية وسياق العصر الذي فسرت فيه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...