الأحد، 29 مارس 2020

كيف انتهت هذه الزاوية؟


طوال الــ28 عاما التي قضيتها في تحرير هذه الزاوية «من عام 1991 حتى 2019»، لم أعتقد يوما أنني على حـق.. كنت وما زلت على قناعة بأن الكاتب ليس معلما ولا حكيما، ولا يفترض به الحديث من برج عاجي، هـو فقط شخص يفكر بصوت مكتوب، ويعـبر عن رأيه علنا «مكره أخاك لا بطل».. تعبيره عن رأيه علنيا لـيس شجاعة، بـل طبيعة مهنة تجعله يعيش على كف عفريت، ويجذب إليه عداوات واتهامات يتقبلها كضريبة عمل.. الصحافيون والكتاب بالذات يدركون قبل غيرهم، أن الجماهير لا تتفق على رأي، وتميل إلى اتهام وتخوين من يختلف معهم في الرأي - ولا يتلقون آراء غيرهم بالنظرة والمستوى ذاتيهما.

أنا من جهتي؛ لا أستطيع الجزم بعدد العقول التي أثرت فيها، ولكن هناك إحصائية للدكتور أحمد الزمامي (نشرت بتاريخ 4 أكتوبر 2017 في صحيفة الرياض)، تشير إلى أن ما نشر في زاوية حول العالم يعادل 50 رسالة دكتوراه.. وحين انتقده البعض «كيف تقارن مقالات صحافية برسائل أكاديمية؟»، أشار إلى أن المقالات نشرت جميعها بنسبة 100 في المئة، وتأثر بمحتواها الناس، وتم تداولها في المواقع والمنتديات.. وفي المقابل، ظلت الثانية - في معظمها - حبيسة الأدراج، وغير مقروءة، ولا يتداولها الناس.. أنـا شخصيا؛ ابتعدت نهائيا عن هذا النقاش، ليس فقط لأن شهادتي فيه مجروحة، بل لأن ما يهمني أكثر هو شهادات القراء الذين يملؤون بريدي الإلكتروني أو يتعرفون علي في الشارع، ويتحدثون معي كصديق يعرفونه من سنين (بدليل تكرارهم جملة أصبحت تشعرني بالشيخوخة: كنت أقرأ لك من أيام الابتدائي)!!

غير أنني أخيرا قررت التوقف عن الكتابة اليومية، والتفرغ للتأليف، لأسباب يصعب قـولها حاليا..

وفي المقابل، أصبحت ثقتي كبيرة بمجال التأليف كوني نشرت حتى الآن تسعة كتب ناجحة (خلال ست سنوات فقط) رغم التزامي بكـتابة مقالين في اليوم.

وهذا يعني أنني لن أهجر الكتابة ذاتها، (فالكتابة عشق يرفض التقاعد)، ولكنني سأطل عليكم من خلال كتابين في الـعـام، وربما مقال أسبوعي أو شهري للتنفيس عن أفكار يصعب كبتها.. نعـم؛ ستغيب الزاوية بعد هذا المقال؛ ولكن الأفكار ذاتها ستستمر بصرف النظر عن وسيلة النشر. لدي قناعة بأن ما يستحق النشـر سيتولى الناس نشره بعفوية في الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، لن أغيب (حتى لو أردت الغياب)؛ لأن الإنترنت تحولت إلى أرشيف أزلي، والشيخ جوجل يسترجع خلال ثوان مقالات كـتبتها قبل ربع قرن.

وبما أن هذا المقال هو آخر مقال لي في صحيفة الرياض، أجدها فرصة لتقديم اعتذاري من كل قــارئ أغضبته، أو اختلفت معه، أو أسأت إليه من دون قصد.

أتقدم بالشكر والعرفان للقراء الذين تابعـوا الـزاوية، وكبروا معها، وبقوا أوفياء لها.

للأساتذة والمسؤولين الذين منحوني ثقتهم في صحيفة المدينة، ثم جريدة الرياض، وساعدوني على نشر 9520 مقالا، وممارسة (أجـمل مهنة في العالم).

كيف بدأت هذه الزاوية؟


بعـد عامين من مراسلة الصحف ظهر أول مقال (من هذه الزاوية) في صحيفة المدينة بتاريخ 7 أغسطس 1991.. كان بعـنوان (انفجار سيبيريا) وكان عمري حينها 24 عاماً فقط. لم أستلم أي راتب طوال الستة أشهر التالية، رغم أنني كنت حينها عاطلاً عن العمل، ولكنني كنت سعيداً بظهور صورتي في صحيفة كبيرة. وبسرعة حققت الزاوية شعـبية كبيرة بفضل بعدها عن السياسة والهموم المحلية وتركيزها على الغرائب والشؤون العالمية (خصوصاً أنها ظهرت قبل ظهور الإنترنت في السعودية بتسع سنوات).. وفي الرابع من يونيو 1999 أثبت استطلاع رأي نظمته الصحيفة أنها تعـد ثاني أبـرز عنصر جاذب للقراء (بعد الصفحات الرياضية) فقرر رئيس التحرير نقلها إلى الصفحة الأخيرة ومنحني راتباً قدره ألفا ريـال.. في الشهر.

وفي أغسطس 2000 تلقيت عرضاً من المرحوم الأستاذ تركي السديري للعمل في صحيفة الرياض.. وافقت فوراً، ولكن بشرطين، الأول؛ أن أكون حراً ولا أداوم في مقر الصحيفة، والثاني أن تظهر الزاوية في الصفحة الأخيرة كما في صحيفة المدينة.. قال بكل ثـقة: مقالاتك أرسلها لنا بالإيميل، وزاويتك تناسب الطبيعة الخفيفة للصفحة الأخيرة.. لم يسألني كم راتبي ولكنه قال في نفس المكالمة: سنمنحك ثلاثة أضعاف راتبك في المدينة، ولكن الزاوية يجب أن تظهر بنفس العنوان في الرياض.. فرحت بالراتب، ولكنني كرهت الشرط الثاني لأن (حول العالم) كان عنواناً قديماً ومستهلكاً حتى في ذلك الوقت، ولم أختره بنفسي حين بدأت مغلوباً على أمري في صحيفة المدينة.

ودون شك، كان انتقالي لصحيفة الرياض علامة فارقة في حياتي المهنية.. أول مقال فيها ظهر يوم الخميس 21 سبتمبر 2000 وكان بعنوان "فيروس يلتهم قارة".. وفي عـام 2006 تم تفريغي لأصبح موظفاً رسمياً بكامل الامتيازات (وحدث ذلك متأخراً لأنني كنت أعمل حتى ذلك التاريخ مديراً للشؤون الإعلامية في إمارة المدينة المنورة).

كان الأستاذ تركي يؤمن بمبدأ تفريغ المواهب لقناعته بأنهم عـماد أي صحيفة ناجحة.. منح الصحفيين والكتّاب ليس فقط وظائف ورواتب رسمية، بل وأيضاً أسهماً في مؤسسة اليمامة ضماناً لـبقائهم فيها.. لم أطلب منه يوماً علاوة في الراتب، ولكنه كان يمنحني علاوات متقطعة كلما حضر مجلساً يشيد فيه الناس بزاوية حول العالم (حتى أصبحت قيمة مقالي اليومي في صحيفة الرياض، تساوي جميع مقالاتي خلال شهر في صحيفة المدينة).

قبل أن يتراجع إقبال الناس على الصحف الورقية؛ عـاشت زاوية حول العالم فترة تألق تؤكدها أعداد الزيارات والمشاهدات في موقع الرياض الإلكتروني.. خذ كمثال مقال (أين تستعيد محفظتك) الذي نشر بتاريخ (17 مايو 2010) وحقق 688,234 زيارة و764 رداً من القراء.. وفي عام 2008 نظم الموقع، بالتعاون مع وكالة الرياض للسياحة، جائزة للكتّاب الذين يتلقون أكثر عدد من الردود الشهرية، فنلت جميع التذاكر.. وحتى وقت قريب كان الموقع ينشر قائمة بالمواد "الأكثر مشاهدة" وكانت زاوية حول العالم تحتل المركز الأول في كافة أيام الأسبوع (ما عدا الأيام التي يفوز فيها الهلال على النصر).

غـير أنني بعـد 28 عاماً لم أتوقف فيها عن الكتابة اليومية (حتى أثناء إجرائي لعمليتين جراحيتين ووفاة ابنتي الصغيرة) قررت اليوم إحالة الزاوية للتقاعد.. وتفريغ الكاتب للتأليف.

تراجع الصحف الورقية ليس السبب الوحيد، ولكن لضيق المساحة سأخبركم في المقال المقبل بـالمزيد.. وسيكون آخر مقال من زاوية حول العالم.

ما تبقى من العالم


سئل عباس العقاد: لماذا تقرأ؟ قال: لأنني أريد أن أعيش أكثر من حياة..

ونفس الجواب تقريباً أقــوله لمن يطرح علي هذا السؤال: (لماذا تسافر؟)..

فأنا أسافر، ليس فقط بحكم المهنة، بـل لأنني أبحث عن تجارب ومواقف وخبرات مختلفة.. لن أنتظر سن التقاعد لأرى العالم، بل أريد أن أتقاعد وقد شاهدت كل العالم.. أعتبر نفسي محظوظاً أكثر من العقاد لأنني (بالإضافة لقراءة ألف كتاب) زرت 90 دولة، وتعاملت مع شعوب كثيرة، وشاهدت أغلب المعالم التي يراها الناس على التلفزيون.. وصلت لمرحلة أصبح فـيها (ما تبقى من العالم) أقــل مما شاهدته وسافرت إليه فعلاً..

ومن الرحلات والوجهات التي لم أزرها.. وأتـمنى زيارتها قبل وفاتي:

زيارة القدس الشريف (علماً أن معظم الناس يخلطون بين المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة الأكثر شهرة)!

ومن هناك أصعد لروسيا لأخذ (قطار سيبيريا) الذي يستغرق أسبوعاً في رحلته من موسكو إلى الصين!

وقبل القطار ربما أركب كاسحة الجليد التي تتولى فتح الممرات البحرية في القطب الشمالي (وللأسف لم أركبها حين زرت فنـلندا قبل أعوام)!

وكذلك ركوب زورق في النيل يبحر من القاهرة حتى منابع النهر في كينيا وأثيوبيا.

وكذلك الإبحار على خطى التايتانك في أضخم سفينة ركاب (كوين ماري2) من ليفربول حتى نيويورك!

وبعد أن حلقت فوق شلالات إجوازو في البرازيل أرغب بالتحليق بالهليكوبتر فوق شلالات آنجل أعلى شلالات بالعالم في فنزويلا..

وكنت في كتاب حول العالم في 80 مقالاً قـد تمنيت عبور قناة بـنما (وهي الأمنية التي حققتها في سبتمبر 2018) وبالتالي بقي قناة السويس وحلم العبور من البحر الأحمر للبحر الأبيض المتوسط!

وفي العام 2015 حققت حلمي بزيارة مضائق النرويج الغـربية، ولكنني للأسف لم أدخل الدائرة القطبية، وتراجعت عن رؤية أضواء الليل الملونة التي تشكلها الرياح المغناطيسية في تلك المنطقة!

ولأنني تراجعت أيضاً عن زيارة الأندلس مرتين (أثناء زيارتي المغرب العام 2009 وإسبانيا العام 2011) أرغب بتكرار المحاولة وزيارة آثار أجدادنا في قرطبة وإشبيلية وغرناطة!!

ورغم أنني زرت كوريا الجنوبية مرتين (2009 و2012) لم أزر كوريا الشمالية ولم أنجح في زيارة الحدود العسكرية الفاصلة بين البلدين (أكبر منطقة ملغمة في العالم)..

وأخيراً؛ أتمنى (بعد عودة الاستقرار لليمن) رؤية صنعاء القديمة وزيارة ناطحات السحاب الطينية بشبام حضرموت (التي تأتي ضمن قائمة التراث العالمي التابع لمنظمة اليونيسكو)!!.

الرياضة الوحيدة التي ستستمر في ممارستها


حين نمشي لأكثر من ثلاثين دقيقة يتملكنا شعور جميل بالهدوء والسكينة وحدة الذهن.. ليست تعبيرات مجازية بل أوصافاً حقيقية تساندها تجارب شخصية ودراسات علمية.. فالمشي السريع (مثل أي تمارين رياضية) يرفع نبضات القلب ويضخ المزيد من الأكسجين والسكريات للدماغ. تخيله كمحرك سيارة ترتفع قوته وسرعته، بارتفاع كمية البنزين والهواء التي تضخها داخله. هذا هو السر في حالة التألق الذهني (والكم الهائل من الأفكار الجميلة) التي نشعر بها خلال مشينا لفترة أطول وأسرع من المعتاد.

هناك دراسة دنماركية تفيد أن الإصابة بالزهايمر تقل بنسبة 30 % لدى الأشخاص الذين يمشون خمس مرات في الأسبوع لفترة طويلة.. فـالإصابة بالزهايمر لا تعود فقط لأسباب وراثية؛ كون الكسل وقلة الحركة مسؤولين عنه أيضاً بنسبة كبيرة.. دراسات كثيرة قارنت بين التوائم؛ حيث يفترض أن إصابة أحدهم بالزهايمر يعني تلقائياً إصابة الآخر به (بسبب تماثل العامل الوراثي) ولكن لوحظ في 21 % من العينات أن الأخ الآخر لا يصاب به كونه أكثر نشاطاً وممارسة للمشي - وأعتقد شخصياً أن النسبة أكبر من ذلك كون التوائم يتشاركون غالباً حتى في عاداتهم الصحية السيئة ونسبة 21 % تتعلق فقط بأخ شقيق خالف شقيقه ومارس رياضة المشي لفترة طويلة.

نأتي الآن لمشاعر الهدوء والسعادة التي تصيبنا بعد المشي لفترة طويلة.. ويعود السر إلى وجود مواد طبيعية مهدئة تفرز في الدماغ أثناء الحركة تجعل الإنسان في حالة مزاجية وذهنية ممتازة.. من هذه المواد هرمون الإندورفين الطبيعي الشبيه بالمورفين الذي يساعد على تخفيف الآلام ويعطي شعوراً بالراحة والسعادة. ويُعـتقد حـالياً أنه المسؤول عن حالة الشعور بالسعادة والغبطة التي يشعر بها العداؤون المنتظمون، ويجعلهم في حالة إدمان حقيقي على رياضة الجري والمشي الطويل.

لا يمكننا فعلاً حصر فوائد المشي على صحة الإنسان ودوره في الحفاظ على سلامة العقل والروح والجسد.. مقالنا اليوم اقتصر على دوره في تألق الذهن وهدوء النفس، ولم يتطرق لفوائده للقـلب والرئتين والعضلات والصحة عموماً.

لنكن صريحين؛

لن تمارس الرياضة.. ولن تستمر في النادي.. ولن تستخدم السير لأكثر من أسبوعين.. الشيء الوحيد الذي تستطيع الانتظام فيه هـو إيقاف السيارة والمشي لنصف ساعة في اليوم.

نظرتك الشخصية.. هل تستحق أن تكون محوراً للكون؟


نظرتنا للعالم (مثل بصماتنا) لا تـتشابه مع غيرنا مهما ادعينا.. لا يمكننا حتى نحن رؤيتها والتعبير عنها بمعزل عن الثقافة والبيئة والقوقعة التي نشأنا داخلها.. تعلمت أنا ذلك بفضل ثلاثة عقود من الكتابة اليومية ومتابعة ردود القراء المستمرة، فالناس لا يتقبلون الكاتب (ولا حتى يتقبلونك أنت) اعتماداً على المنطق أو الأدلة التي يقدمها (مهما كانت صحيحة وواضحة) بـل من خلال مبدأ "هل هو معنا أم ضدنا؟".. يتقبلونه أو يرفضونه بحسب مسافة اقترابه أو ابتعاده عـما ألفوه ونشؤوا عليه وظنوه حقيقة مطلقة!

آراؤنا ونتائج تفكيرنا هـي في النهاية (محصلة) لمؤثرات عميقة ولا واعية لا يدركها معظمنا.. محصلة لـثقافة وبيئة ودوافع توجهنا لـتبني آراء وأفكاراً نعتقد أنها فرض عين على الجميع. نادراً ما يخطر ببالنا احتمال تـشوه قراراتنا ونظرتنا للعالم من خلال الموروث والسائد والأفكار المقولبة وتجاربنا المشوهة (وليس العكس).

المشكلة ليست في تنوع شخصيات البشر واختلافاتهم الفكرية؛ بـل في محاولة كل فرد احتكار الحقيقة والصواب، ناهيك عن فشل كل طرف في اكتشاف نقاط تفرده وأسباب اختلافه عن الآخرين.. كل فرد (إلا من رحم ربي) يعتقد أنه فريد عصره ووحيد زمانه والمرجع الوحيد فيما يختلف عليه الناس ويخفى عليهم أمـره.. مشكلة البعض (التي يراها الجميع إلا هـو) قناعته بأن ما توصل إليه بعد ما يظنه تفكيراً واعياً وعميقاً هو الصحيح والسليم وما لم يسبقه إليه أحد من العالمين.

يجب أن ننطلق من اتفاقنا على وجود فرق بين (الحقيقة المطلقة) وما يعتقد كل إنسان أنه حقيقة مطلقة.. فنظرتنا للعالم شخصية وذاتية أفرزتها مؤثرات عميقة ومتقاطعة لا نعيها غالباً.. مؤثرات لم نخترها معظمها بإرادتنا، ولكنه انتهت بنا إلى تبني رأي موروث ومكرر - يفترض بالجميع الالتزام به.. نادراً ما يخطر ببالنا أن قراراتنا ونظرتنا للعالم هي التي تـشوهت بسبب ظروف ومفاهيم وأفكار ضيقة تحيط بـنا (وليس العالم هو الذي تشوه).

ولأن البشر نادراً ما ينجحون في مغادرة أنفسهم (ليروا العالم من الخارج بشكل غير متحيز) أعتقد أن أول متطلبات الخروج بالرأي النزيه والقرار الصائب هو الاعتراف بتعرضنا المسبق لكافة أنواع المؤثرات الضيقة.. الخروج أولاً من قوقعة الماضي والمعتاد والمسلم به، والاعتراف بأننا (محصلة نهائية) لظروف اجتماعية وثـقافية ونفسية أعقد مما نتصور.

فـقـط حين نعترف بهذه الحقيقة، يصبح همنا الأول ليس الدفاع عن آرائنا الخاصة، بـل التأكد من أننا لم نخدع أنفسنا ونتبنى آراء تم تشكيلها مسبقاً.. نصبح مهيئين للانتقال من مرحـلة (لماذا) لا يفعلون ذلك إلى (كيف) نتفهم بعضنا ونصبح أفضل من ذلك؟

كتب تطوير الذات.. هل هي مفيدة فعلاً؟


الكتاب علاقة نسبية بين القارئ والمؤلف، المؤلف (فـرد) يطرح قناعاته الخاصة، والـقـراء (مجموعة) تـتقبل كلامه بمستويات مختلفة.

لا يمكننا إصدار حكم مطلق على أي كتاب بسبب تفاوت تأثيره في القراء، فبعضهم يحبه لأن أفكاره تتطابق مع المؤلف، أو يملك استعدادا للاستفادة منه، والبعض الآخر لا يحـبـه؛ لأنه يختلف مع المؤلف، أو يدرك بسرعة عجزه عن الاستفادة منه.

حين يخبرك أحـدهم أنه لم يستفد من أي كتاب.. فصَـِّدقه؛ لأنه مثـل شخص لم يستفد من كتب الريجيم بسبب تمسكه بنظامه الغذائي القديم.. صدقه؛ لأن كتب الاستثمار (وبناء الثروة) لا تمنح الثروة لمن يخشى التخلي عن الـراتب والأمان الوظيفي.. صدقه؛ لأن كتب الرياضة وكمال الأجسام ليست هرمونات تـضمن للقراء نمـو الأنسجة والعضلات.

أنا شخصيا لدي رف كامل من كتب بناء الثروة، (أحتفظ بها من أيام المراهقة)، ولكنني لم أصبح ثريا؛ لأن اهتماماتي الفكرية ظلت دائما مقدمة على اهتماماتي المالية، أملك كتبا كثيرة عن "الكاراتيه" و"الكونج فو" و"كمال الأجسام"، ولكنني لـم أَنَل أي ميدالية رياضية؛ بسبب افتقادي الإرادة والإصرار على التمرين.

وأنت أيضا مثل الجميع، يمكنك أن تقرأ عشرات الكتب الرائعة عن الرياضة والريجيم، ولكنك لن تستفيد منها إن لم تكن مستعدا لممارسة الرياضة والريجيم، يمكنك أن تقرأ عشرات الكتب المتخصصة في الاستثمار وبناء الثروة، ولكنك لن تستفيد منها ما لم تملك إصرارا على بـناء مشروعك الخاص والتضحية براتب ينتهي قبل خروجه من الصراف.

والقاعدة نفسها تنطبق على كتب (تطوير الذات)، فإن لم تكن تملك الإرادة على التغيير، والاستعداد للتطبيق، فلـن تغيرك كل الكـتب والنصائح الرائعة، وفي المقابل، يمكن لنصيحة عابرة أو كتاب مهمل (اشتريته منذ سنين) أن يغيرك إلى الأفضل بمجرد امتلاكك الرغبة والاستعداد للتغـيير.

لا أخفيكم سـرا، قررت الكتابة عن هذا الموضوع بعد تسلمي إيميلا من شخص أشاد بكتاب "نظرية الفستق"، ولكنه قال في نهاية رسالته: "ورغم أهمية الأفكار في الكتاب، سيكون آخر كتاب أشتريه في تطوير الذات؛ لأنني اكتشفت أن هذه الكتب تنظيرية لا تفيد ولا تغير حياة الناس".

فهمت قصده فورا؛ لأنني شخصيا قرأت كثيرا من هذه الكتب (وبلغتها الأم)، ثم بدأت في مرحلة معينة أتساءل: وماذا بعـد؟ ما الذي غيرته في حياتي؟ ماذا استفدت من نظريات ونصائح جميلة في تطوير الذات؟

غير أنني في النهاية أكتشف حقيقتين مهمتين لم أستطع إنكارهما:

الأولى: أنني لـم أكن أملك الإرادة أو الاستعداد لـتنفيذ معظم ما جاء فيها (وحين لا تملك الإرادة لخفض وزنك، فلا ينفعك أي كتاب في الريجيم).

الثانية: أن عقلي الباطن، ومن دون أن أدرك، تشبع بأفكار ومبادئ جميلة وردت فيها، (ولكنني لم أدرك أنها غيرتني فعلا إلا في سن متقدمة).

وبناء على هاتين الحقيقتين، أصبحت على قناعة بأننا حين نـقرأ كتب تطوير الذات؛ لن نستفيد أو نطبق ما جاء فيها 100في المئة، ولكن مجرد إطلاعنا عليها يجعلنا أفضل بكثير ممن لم يقرأها أصلا.

أصبحت على قناعة بأننا (حتى حين نـنسى معظم محتوياتها) تترك في عقلنا الباطن آثارا عـميقة، ومبادئ حميدة تمتزج في شخصيتنا، وتظهر في كلامنا، ويلاحظها الناس في تصرفاتنا.

إذن؛ السؤال الحقيقي ليس هـل تفيدنا كتب تطوير الذات أم لا؟ بل؛ هــل نملك الاستعداد لتطبيق ما جاء فيها أم لا؟

وهـذه النقطة بالذات أشرت إليها في مقدمة كتابي السابق حين قـلت: "وتذكر دائما أن الكلمات تظل كلمات، حتى تتبناها أنت فتتحول إلى أفعال وتصرفات".

مدينة السوفييت العظيمة


في أبريل 2015 تمكنت من تحقيق حلمي بزيارة روسيا ضمن رحلة طويلة شملت أيضاً الدول الإسكندنافية في شمال أوروبا.. وأقول "تمكنت" لأنني واجهت حينها عقبات إجرائية كثيرة (ورثتها روسيا من الاتحاد السوفييتي السابق) تقف عقبة أمام معظم السياح.. فـتأشيرة الدخول مثلاً كانت تتضمن اشتراطات شبه مستحيلة أهمها وجود دعوة مسبقة لزيارة البلد.. كما كانت هناك شروط تتعلق بالحجوزات وطريقة الدخول والخروج وكمية الأموال التي يحملها السائح، وهذا غير قلة عدد الفنادق التي تسببت بها عقود من الانغلاق السياحي زمن الحكم الماركسي.. لم تنفتح روسيا إلا بعـد كأس العالم الأخيرة (2018) حين رافق منتخبنا الوطني أعداد هائلة من المشجعين لم يعانوا ما عانيته قبل ثلاث سنوات فقط.

ورغـم أن جولتي شملت حينها سانت بطرسبرغ وأربع بلدات صغيرة (بالإضافة إلى رحلة طويلة في نهر الفولغا) سأكتفي اليوم بالحديث عن موسكو التي أستعد لزيارتها للمرة الثانية.. فـزيارة روسيا لا تكتمل دون زيارة هذه المدينة التي كانت تشكل محور الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية زمن الحرب الباردة.. ماتزال مركز الثقل السياسي والثقافي والتعليمي والاقتصادي في روسيا، وسابع أكبر مدينة في العالم بعشرة ملايين نسمة.

بنتها القبائل السلافية في القرن العاشر ميلادية على ضفتي نهر موسكوفا (الذي اشتقت منه اسمها).. وفي بداية القرن الثالث عشر أحرقها التتار وظلت تحت سيطرتهم فترة طويلة قبل أن تعود للروس العام 1480 (حين انتصر إيفان الثالث على التتار الذين تحولوا للإسلام). ورغم أنها تعرضت بعد ذلك لغزوات التتار والبولنديين والسويديين والفرنسيين (وحاصرتها جيوش هتلر في أربعينات القرن الماضي) ظلت رمزاً وطنياً للأمة الروسية وأعلنت في العام 1918 عاصمة للاتحاد السوفييتي العظيم.

والحقيقة أنك حين تصل إلى موسكو لا تستطيع تجاهل وجود ستالين في كل مكان من خلال تماثيله ومبانيه وساحاته وقبره.. استلم زمام الأمور بعد وفاة قائد الثورة البلشفية لينين العام 1924 وأصبح زعيماً مطلق الصلاحية حتى وفاته العام 1953.. قبل تسلمه السلطة كانت روسيا بلداً زراعياً فقيراً، وعند وفاته كانت بلداً صناعياً عظيماً هـزم هـتلر واحتل شرق أوروبا وصعد إلى الفضاء وامتلك صواريخ عابرة للقارات.

وبالإضافة إلى الطابع الستاليني للمدينة، لا يمكنك زيارة موسكو دون المرور بالميدان الأحمر الذي يضم معظم المعالم النمطية للدولة الروسية.. ففي هذا الميدان الذي تغلب على مبانيه الصلصال الأحمر توجد قلعة الكريملن (مقر الدولة) وساحة النصر (حيث يستعرض الروس صواريخهم النووية) وقبر ستالين (الذي تحول لقبلة شيوعية) وسوق كيتاي جورود (الذي يعد في نظري الأجمل في العالم قاطبة).

بقي أن أشير إلى نقطة مهمة وهي؛ أن موسكو تمثل بامتياز الحقبة السياسية للاتحاد السوفييتي، ولكن سانت بطرسبرغ هي المدينة التي تمثـل تراث وفنون الأمة الروسية - ونالت إعجابي أكثر من مدينة السوفييت العظيمة.

حول العالم مع ذي الخلصة


جميع الديانات الكبيرة تملك مواقع مقدسة تزورها بشكل دوري وتحج إليهـا بشكل سنوي.. تعزز من خلال ذلك هويتها وأحقية وجودها وفكرة الالتفاف حولها.. كان من أهم دوافع الحروب الصليبية ادعاء منع النصارى من زيارة المواقع المقدسة في القدس وبيت لحم.. وخلال المئة عام التالية من صلب المسيح لم تعد فلسطين موقع الحج الوحيد كون المسيحيين أصبحوا يحجون أيضاً إلى القسطنطينية والفاتيكان وأضرحة القديسين المشهورين في أنحاء أوروبا.

أما العرب فكانوا يحجون (في الجاهلية) لأكثر من 22 كعبة في أرجاء الجزيرة العربية.. كان لكل قبيلة أو تجمع قبلي كعـبة خاصة بها تضع داخلها الأصنام التي تعبدها.. كانت قبائل خثعم وبجيلة ودوس مثلا تحج إلى صنم مصنوع من المرمر الأبيض يدعى "ذو الخلصة" ورد ذكره في حديث نبوي صحيح: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة".. (صحيح البخاري/ كتاب الفتن).

غير أن كعبة الخليل إبراهيم في مكة المكرمة كانت أكثرهن شهرة وتقديساً الأمر الذي أثـار حسد أبرهة الأشرم فـبنى شبيهاً لها في صنعاء أسماها "القليس" ودعا العرب لزيارتها، غير أن محاولته هذه لم تغـريهم بالحج إلى اليمن فجهز جيشاً عظيماً لغزو مكة وهدم الكعبة (وتعرفون قصة الفيل).

وغني عن القول؛ إنه كلما ازداد تفرع الطوائف والفرق الدينية، ارتفع عدد المواقع والمزارات المقدسة التي يحج الناس إليها.. وهذه العلاقة تفسر ظهور آلاف المواقع الجديدة في القرن العشرين وحده (أشهرها كهوف باتـو في ماليزيا وكنيسة لييزيه بفرنسا وقرية فاتيما في أسبانيا وجبل لودوز في البيرو وخليج نودريك في إيرلندا وضريح زافيير في الهند).

وحتى يومنا هذا تملك الهند أربع مدن هندوسية مقدسة تستقطب ملايين الحجاج الهندوس كل ثلاثة أعوام. وبحسب كتاب غينيس للأرقام القياسية وصل عدد الحجيج لبلدة ليهباد المقدسة إلى 25 مليون إنسان كأكبر تجمع بشري في التاريخ!

أما في إيران فـما يزال أتباع زارادشت يحجون (في يونيو من كل عام) إلى عين ماء مقدسة تدعى تشكشك.. والمفارقة أن فتح المسلمين لفارس كان السبب في ظهور هذا الموقع واكتسابه صفة القداسة. فالرواية الزاردشتية تقول إن جيش المسلمين أسر ابنة الإمبراطور يزدجر الثالث وسجنها في كهف خارج بلدة يـزد. وأثناء وجودها في الأسر كانت تصلي لزارادشت كي ينقذها فـاستجاب لها وشق الجبل ليبتـلعها ويفجر مكانها عين ماء مقدسة!

وحين تنفجر الفكرة في الدماغ يصعب منعها على أرض الواقع.

شبكة تحضير الموهوبين


سبق أن كتبت مقالا بعنوان "جلسات تحضير المبدعين"، قلت فيه إن المبدعين لا يختفون، ولكننا نعجز فقط عن اكتشافهم.. بمجرد أن تمنحهم فرصة الظهور، ستفاجأ بحضور أعداد هائلة منهم لدرجة تتساءل عندها: من أين أتـوا؟ وأين كانوا؟

وفي ختام ذلك المقال، طالبت بإنشاء مسابقات وطنية ومدرسية موسمية لاكتشاف المواهب في كل مجال، وبطريقة لا تختلف عن برامج المنافسات التلفزيونية؛ لاكتشاف أجمل الأصوات الغنائية.

واليوم (وبما أنه لم تظهر أي مسابقة من هذا النوع)، أود لفت انتباهكم إلى دور شبكة الإنترنت نفسها في اكتشاف الموهوبين، وخلق المبدعين، وتعريف العالم بأعمالهم.. فظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أتاح لملايين الناس فرصة نشر أفكارهم ومواهبهم الخلاقة من خلالها.. ومجرد إتاحتها فرصة الظهور لملايين الـناس خـلق (وسيخلق بمرور الأيام) صفوة من العباقرة ونخبة من المبدعين لم نكن لنسمع عنهم لولا وجود الإنترنت.

دعنا نضرب مثالا بمجال الأدب والكتابة والنشر.. فحتى وقت قريب كان "واحدا" من بين "عشرة آلاف" تتاح له فرصة نشر إنتاجه الشعري أو الأدبي في الصحف ووسائل الإعلام الرسمية.. أما اليوم فيمكن لجميع (العشرة آلاف) التعبير عن مواهبهم في فضاء الإنترنت.. حتى وقت قريب كنت أقابل شبابا موهوبين يشتكون من عدم منحهم فرصة الظهور في الصحف والمحطات التقليدية؛ فـأبتسـم وأقـول: ولماذا تريـدون الكتابة في الصحف ولديكم شبكة الإنترنت التي تفوقها انتشارا وسرعة تأثير؟ لماذا تتزاحمون على الصحف والقنوات، في حين أتاحت الإنترنت لكل إنسان إنشاء برنامجه الخاص على "يوتيوب" و"السناب شات".. أخبرهم بصراحة أن (وسيلة النشر) لـم تعـد مشكلة كون الجماهير ستتابعك (في حال كنت موهوبا ومميزا) في أي مكان تنشر فيه أفكارك ومقاطعك وإبداعاتك!

ويمكن قول الشيء نفسه عن كل التخصصات العلمية والفنية والأدبية والمواهب الفريدة، فكثرة قاعدة المستخدمين تعـني تفوق وكثرة النُخـب الموجودين في أعلى الهرم.. فـفي حال علمنا بأن الإنترنت وصلت اليوم إلى نصف سكان العالم (وهو ما يعني 3,75 مليارات إنسان).. وفي حال افترضنا أن واحدا (من كل ألـف فقط) كان مبدعا أو موهوبا في جانب معين، فهذا يعني وجود أكثر من 37 مليون مبدع حول العالم يعيشون بيننا اليوم.

أما في حال كنا أكثر تشددا، وافترضنا أن عباقرة بمستوى أديسون وسقراط وابن سينا لا يظهرون إلا بمعدل واحد فقط (من كل مليون مستخدم)، فهذا يعني أن الإنترنت حبلى (الآن) بــ3750 عبقريا بمستوى أديسون وسقراط وابن سينا!

والسؤال مرة أخرى: لماذا لا نراهم؟ ولماذا لم نسمع عنهم؟ ولماذا يدخلون التاريخ؟ وهل كثرتهم هذه الأيام السبب في عدم بروزهم وتفردهم؟

المؤكد أن الإنترنت مليئة اليوم بعباقرة وموهوبين (قد تصعب رؤيتهم)، ولكن يسهل العثور عليهم بــ"جلسة تحضير" بسيطة ينظمها الشيـخ "جـوجـل".

حيث تتحدث الأحافير


متحف التاريخ الطبيعي في نيويورك من أعظم المتاحف المتخصصة في الأحافير، وأكثرها نشاطا في توثيق سجل الحياة على الأرض.. زرته مع أسرتي أخيرا (وتحديدا في أغسطس 2018)، وتوليت بنفسي شرح أقسامه المختلفة لهم.. أعرفه جيدا؛ ليس فقط لأنني قرأت كثيرا عن الاكتشافات والدراسات التي قام بها (للبحث عن سر الحياة وتاريخ الخلق)؛ بل لأنني سبق أن زرته مرتين عامي 1996 و1999.

لم يخب ظني أبدا فيما رأيت، لا من حيث ضخامة المتحف، ولا من حيث الكم الهائل من القاعات والمعروضات التي يضمها. أذكر في أول زيارة لي، وأثناء تجولي في القاعة الخاصة بالديناصورات، لاحظت أن الهياكل المعروضة غير مكتملة (وإن كانت مكملة بقوالب بلاستيكية وجبائر خاصة)، فسألت المشرفة على القاعة: كيف أمكنت معرفة شكل الديناصور كاملا، في حين أن العظام المكتشفة لا تتجاوز 5 أو 10 في المئة من كامل الهيكل؟!

ويبدو أن أحدا لم يسألها منذ فترة طويلة؛ حيث "انفلتت" في محاضرة حقيقية عن الديناصورات وأنواعها وطرق تركيبها؛ لدرجة أن أم حسام تركتنا وجلست على كرسي مجاور، ولا أخفي عليكم لم أعد أتذكر كثيرا مما قالت، إلا أن هناك جملة ما زالت عالقة في رأسي أوضحت لي كل شيء، فقد قالت: من خلال كاربوريتر السيارة يمكن للميكانيكي تخمين حجمها وموديلها وقوة محركها.

وهذا التمثيل لا يبدو فقط منطقيا ومعقولا، بل يناسب العقول الرجالية التي تفهم في السيارات أكثر من الديناصورات، فـمن المعروف أنه من خلال كاربوريتر السيارة يمكن للميكانيكي الخبير معرفة قوة المكينة ونوع السيارة وتاريخ صنعها.. وعالم الأحافير بدوره يمكنه القيام بعمل مشابه مع الديناصورات والأحياء المنقرضة، وذلك بتخمين حجمها وشكلها ونوعها، من خلال عظمة الساق أو الذراع أو حتى الأنياب.

وإذا تركنا الميكانيكا وانتقلنا إلى علم التشريح، نكتشف أن عظمة الكتف تؤدي دورا نسبيا في عمل الهيكل العظمي، وتتحمل وزنا وجهدا معلوما عند القيام بحركات معينة، وعلى هذا الأساس يمكن للعالم الخبير استنتاج نسـب بقية الهيكل، من خلال مقارنتها بعظمة الكتف، وطريقة اتصال الأوتار والمفاصل الأخرى بها، كما يمكن بمقارنة التركيب الداخلي للحيوانات الموجودة حاليا بتلك المنقرضة معرفة نسبة اللحم والجلد الذي يغطي الهيكل، وبالتالي بناء نموذج كامل للحيوان المندثر.

وكل هذا يعني أن هياكل المخلوقات المنقرضة (الموجودة في متاحف العالم) إما مختلطة وإما مصطنعة. الشكل الذي تراه (كاملا) يعتمد على استنتاجات تأسست على جزء صغير من المخلوق الحقيقي.. قد يكون الفك أو الحوض أو عظمة الكتف.

يجوز للسائح ما لا يجوز للمواطن


كما أملك "حجراً" من نهر دارت في نيوزلندا "ورمـلاً" من كثبان الربع الخالي "وفانوساً" من مراكش، أملك أيضاً قطعة إسمنتية "بحجم حبة البطاطس" مـن حائط برلين الذي كان يفصل شرقها عن غربها قبل توحد الألمانيتين اشتريته أثناء زيارتي للمدينة قبل 15 عاماً!

وما لم يخطر ببالي أنني رغم زيارتي للأهرامات ثلاث مرات في حياتي لا أملك قطعة من هذا الصرح العظيم.. وما ذكرني بهذه النقيصة مقال ظهر في صحيفة الأهرام يقترح بيع الحجارة الساقطة من الأهرامات على السياح بعد تكسيرها إلى قطع صغيرة.. وفي حين غضب البعض واعتبر ذلك مقدمة لبيع كامل آثار مصر رأى البعض الآخر أن الحجارة بعد سقوطها لا يعود لها قيمة وبدل أن تختفي بفعل عوامل التعرية من الأفضل الاستفادة منها وبيعها للسياح.

وكلا النموذجين "المصري والألماني" يعبران عن تنامي ظاهرة التسويق السياحي وموضة بـيع "أي شيء" للسياح بصرف النظر عن قيمته المادية أو المعنوية.. أصبح بيع كل ما يمكن بيعه جزءاً من البرامج السياحية لأي بلد ووسيلة سهلة للحصول على العملات الصعبة من الجيوب المتخمة.. فإسرائيل مثلاً تبيع هذه الأيام "هواء القدس" داخل زجاجات مغلقة بسعر عشرة دولارات للزجاجة، والجنود الأميركان يبيعون أكياساً صغيرة من رمل أفغانستان والعراق عبر الإنترنت، وبريطانيا فتحت القصور الملكية وعرضت مجوهرات التاج على السياح، وإيطاليا تبيع صخوراً بركانية استخرجت من حمم بركان فيزوف الذي غطى مدينة بومبي الشهيرة، أما نيبال فـتبيع شهادات معتمدة لصعود جبل إيفرست، في حين باعت روسيا شرائح من دماغ لينين لآخر معاقل الشيوعية المتبقية في العالم.. حتى شخصي المتواضع كاد يبيع الحصاة التي التقطها من نهـر دارت في نيوزلندا على سيدة إنجليزية تعشق جمع الحصى من بلدان العالم المختلفة "ولكنني مازلت محتفظاً بها ضمن خزانات زجاجية تتضمن آثاراً من المواقع المميزة التي زرتها وتذكارات يصعـب امتلاكها من مواقع كثيرة حول العالم".

كل هذا يدعونا للمقارنة بين عقلية الاستثمار السياحي "الذي يصنع من الحبة قـبة يبيعها للسياح" وبين تعـقيد الاستثمار السياحي الذي يمنع الاستفادة من كنوز حقيقية تزخر بها بلادنا العريقة.

من دون شك؛ الوضع في المملكة في طريقه للتحسن بدليل تسهيل قدوم السياح وتفعيل إجراءات التأشيرة الإلكترونية.. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى توطين الفعاليات السياحية والترفيهية في الداخل بعد أن كان المواطن يضطر للسفر إليها وصرف ملايين الريالات في الخارج.

كيف تجاوزوا أديسون؟


معظمكم سمع بتوماس أديسون المخترع الأميركي، الذي اشتهر بكثرة اختراعاته.. قـدم 1093 اختراعا من بينها الفونوغراف والمصباح الكهربائي وماكينة السينما وبطارية السيارات التي قدمها لصديقه فـورد.

ورغم وفاته عام 1931 ظل صاحب الرقم القياسي في عدد الاختراعات حتى عام 2003 حين تجاوزه الياباني "شونبي يامازاكي".. واليوم وصلت اختراعات يامازاكي إلى 4743 اختراعا، أشهرها القرص المرن والشريحة الشفافة، (ويمكنك رؤية صورته بإدخال اسمه في جوجل (Shunpei Yamazaki).

والمدهش أن هذا المخترع الياباني تـم تجاوزه هو نفسه عام 2008 من قبل مخترع أسترالي يدعى كيا سيلفربروك قدم 4744 اختراعا (قبل أن يعود يامازاكي لتجاوزه مجددا عام 2017) ويتجاوز كلاهما أديسون.

وكنت سأكتفي بالحديث عن هذين المخترعين لو أن أديسون تراجع للمركز الثالث فقط، غير أنه (وخلال آخر 15 عاما فقط) تراجع بسرعة إلى المركز العاشر.

فبعد الياباني يامازاكي، والأسترالي سيلفربروك، احتل المركز الثالث الأميركي لويل وود (1653 اختراعا)، يليه مواطنه رودريك هايد (1499 اختراعا)، ثم الياباني جن كاياما (1289 اختراعا)، ثم الهندي جورتيج ساندهو (1284 اختراعا).. وتستمر القائمة حتى نعثر على أديسون في المركز العاشر بــ1093 اختراعا.

ويعود السبب في ظهور هذا العدد الكبير من المخترعين إلى اهتمام المجتمعات المتقدمة بتسجيل براءات الاختراع نفسها.. اكتشفت فجأة أن حقوق الابتكارات ذاتها سلعة ذهبية تـدر ملايين الدولارات (سبق ونبهت لأهميتها في مقال بعنوان: الملكية الفكرية أهم من الثروات الطبيعية).

أثناء تحضيري لهذا المقال، لاحظت أن أكثر المخترعين إنتاجا يحمل معظمهم (من بين كل جنسيات العالم) الجنسيتين الأميركية أو اليابانية، وهذا في حد ذاته دليل على غفلة الشعوب الأخرى، وحقيقة أن "براءات الاختراع" تحولت إلى صناعة تحتكرها الشعوب المتقدمة.

ما لا يدركه معظمنا أن مجرد الحصول على براءة اختراع (وهي مجرد مثال لحق الأسبقية والاكتشاف)، يعني احتكار السلعة المنتجة لعشرين عاما مقبلة.. لهذا السبب ظهرت في الدول المتقدمة شركات متخصصة في جـمع واحتكار "براءات الابتكار"؛ إمـا لإعادة بيعها وإما لمقاضاة الشركات التي تنتهك حقوقها (ومثال ذلك شركة بوما التي كسبت 327 مليون دولار بفضل دعوى قضائية رفعتها على شركة أبـل تتعلق بانتهاك سبع براءات تتعلق بذاكرة الهاتف وتقنيات عرض الفيديو)!!

أعتقد شخصيا أن سبب كسر رقـم أديسون قبل 15 عاما فقط (وظهور ثلاثين مخترعا يكادون يتجاوزونه اليوم) يعـود إلى انتقال المجتمعات المتقدمة من "اقتصاد التصنيع" إلى "اقتصاد المعرفة".. إلى اكتشافها أن "حقوق التصنيع" أصبحت أكثر ربحية من عملية التصنيع ذاتها بدليل حصول شركة أبل على 80 في المئة من قـيمة الآيفون الذي تشتريه، مقابل 20 في المئة فقط تحصل عليها شركة فوكسكون الصينية.. التي تصنعه فعليا!!

بصمات على الصخور


ليست فقط عظام الديناصورات بل وحتى خطوات البشر تمثل سجلاً تاريخياً يـثير فضول علماء الجيلوجيا والأحياء.. أكثر النماذج شهرة -بين المسلمين خصوصاً- هي آثار قدمي "إبراهيم الخليل" الذي طبع على الحجر الذي وقف عليه حين بنى الكعبة.. وقد جاء عن ابن كثير في البداية والنهاية أن آثار القدمين كانت واضحة في الصخر حتى أذهبه مسح الناس بأيديهم. وقال عنه أنس ابن مالك: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه حتى أذهبه مسح الناس. وحين سئل عنه ابن عثيمين قال "لا شك أن مقام إبراهيم هو الذي بني عليه الزجاج ولكن الحفر الذي فيه لا يظهر أنها أثر قدميه لأن المعروف من الناحية التاريخية أن أثر القدمين زال منذ أزمنة متطاولة"..

وقبل فترة بسيطة قرأت كتاباً بعنوان بصمات على الصخور لباحثة في هذا المجال تدعى جانيت بورد. وكانت جانيت قد تعلقت بـتصوير آثار الأقدام القديمة التي تركها البشر على الصخور وتحجرت بفعل الزمن. ورغم أن معظم الصور التي يضمها الكتاب كانت لخطوات بشرية عادية، هناك صور تشكل معضلة من حيث تاريخها أو موقعها أو تعارضها مع حدث جيولوجي وقع في المنطقة.. أبرز معضلة في الكتاب أتت من ولاية نيفادا مثلاً توجد حمم بركانية متحجرة (خارج مدينة كارسون) تضم آثار أقدام أضخم من أن تنسب للبشر ناهيك عن قدرة أصحابها على السير على الحمم الملتهبة. وخارج ميونخ بألمانيا توجد خطوات لقدم يمنى وحيدة (دون أثر مجار لقدم يسرى) تدعى قدم الشيطان. أما في أردز بسويسرا فتوجد آثار أقدام "قزمة" متداخلة بشكل معقد تدعى ميدان الساحرات (حيث يعتقد الأهالي أنها آثار رقص الساحرات قبل عشرة آلاف عام أثناء اكتمال القمر)!!

أما في إيطاليا فتوجد على سفح بركان كامبانيا آثار أقـدام متحجرة على شكل Z تـشـير إلى ثلاثـة أشخاص هربوا من ثورة البركان وطبعت آثار أقدامهم على الرماد الساخن وبنزول الأمطار تصلب الرماد البركاني وأصبح بصلابة الصخر.

وحسب آخر تقدير تم مؤخراً في جامعة باديافي جنوب إيطاليا يعود عمر هذه الخطوات إلى أكثر من 325 ألف عـام. وهذا الرقم أكبر بكثير من العمر الذي يقدره العلماء لظهور الإنسان الحديث على وجـه الأرض (40 ألف عام فقط)!

أما الأكثر منها غموضاً فهي آثار الأقدام البشرية المكتشفة في تنزانيا ويعود عمرها إلى 3,7 ملايين عام.. ورغم افتراض عودتها لفصيلة دنيا من البشر سبقت ظهور الإنسان الحالي لا يوجد دليـل حقيقي يثبت هذا الإدعاء (وهذا ما يجعلها مشكلة أعظم كونها تتجاوز عمر الإنسان على الأرض بأشواط)!!

العالم يستنسخ بعضه


حين تسافر كثيرا تبدأ بملاحظة أشياء مشتركة بين بلدان العالم لا يلاحظها أهل البلد أنفسهم.. صحيح أن العالم يتضمن أعراقا وثقافات وشعوبا مختلفة.. وصحيح أنه يملك 195 دولة، و6000 لغة، و430 ديانة، إلا أنه أصبح (بفضل العولمة وسهولة التواصل) متشابها في جوانب كثيرة لا تخفى على السائح.. أصبح متشابها في مطاراته وفنادقه، ومولاته، ومواصلاته، وملابس الناس، والتقنيات التي يستخدمونها، والأطعمة التي يتناولونها، والمطاعم السريعة التي يقابلها السائح في كل زاوية.

فـبفضل العولمة، وسهولة التواصل، وتمازج الثقافات؛ بدأ العالم يجنح للتماثل والتشابة في جوانب غدت تثـير مـلـل سائح يبحث عن التميز والاختلاف ورؤية المواقع الاستثنائية.

أنا شخصيا أصبحت على قناعة بأن كل مدينة عالمية تملك (بجانب ستاربكس وماكدونالدز والمولات المكيفة) ثلاثة معالم رئيسية متماثلة:

الأول مبنى عال أو برج طويل يوفـر من أعلاه منظرا شاملا للمدينة.

والثاني حـي مهاجرين (غالبا؛ ليتل تشاينا) حين تدخله تشعر بانتقال مفاجئ إلى عالم جديد ومختلف تماما.

والثالث شارع مشهور (جدا جدا) يمتلئ دائما بالسياح.. ولا تكاد ترى فيه سكان المدينة أنفسهم.

هذه المعالم المشتركة يلاحظها كل من زار المدن الكبرى في آسيا وأميركا وأوروبا..

وإذا أخذنا باريس كمثال نجد فيها برجا عاليا يوفر من أعلاه منظرا لا ينسى (برج آيفل)، وشارعا جميلا يمشي فيه السياح بلا هدف (الشـانزليـزيه)، وحيا صينيا حين تدخله تشعر أنك في بكين أو شـنغـهاي!

أنا شخصيا صعدت فوق أعلى 24 برجا في العالم من بينها برج الدانوب في فيينا، ومبنى سيرز بشيكاغو، وبرج الاتصالات بتورنتو، وبرج المدينة الرياضية بميونخ، والامبايرستيت في نيويورك ومبنى التجارة الدولي -قبل تفجيره بثلاثة أعوام- وشجرة السماء ومبنى روبونقي هيل في طوكيو.. وجميعها متشابهة في فكرتها وتمنحك منظرا شاملا ورائعا للمدينة!

أما حي المهاجرين فـهو إما صيني (ليتيل تشاينا) أو يهودي (غيتو) أو حي استثنائي ومميز تعيش فيه جالية هندية أو عربية أو أفريقية.. الأحياء الصينية مثلا في سان فرانسسكو وتورنتو وكوالالامبور وسيدني تعد مدنا داخل مدن.. والأحياء اليهودية في نيويورك وبوينس أيرس وأنتوريب مميزة في نشاطها الاقتصادي.. والجميل هنا أن زيارة أي من هذه الأحياء يعد بمثابة رحلة إضافية ومجانية ومصغرة للبلد الذي تنحدر منه الجالية نفسها (لدرجة كنت أقول دائما: لن أحتاج يوما لزيارة الصين لوجود ليتل تشاينا في معظم الدول)!

أيضا في كل مدينة كبيرة يوجد شارع مشهور ومميز يجب السـؤال عنه حتى لو لم تعرفـه من قـبـل.. ومجرد المشي في هذا الشارع يعد متعه حقيقية تجبرك على العودة إليه أكثر من مرة. فهو بالإضافة إلى امتلائه بالمقاهي والمطاعم والمتاجر، يمتلئ بالزوار من مختلف الجنسيات بحيث ترى العالم مختصرا على رصيف واحـد.

كن صديقاً للأيام الباردة


في العام 1740 تزوج رجل من البلاط الروسي يدعى جالتيزين بامرأة إيطالية فغضبت القيصرة آنا نوفا لأنها منعت الزواج من الأجنبيات. وكي يكون عبرة لغيره أمرت ببناء قصر ثلجي ضم أسرة وأثاثاً من الثلج البراق كي يكون منزلاً للعروسين مدى الحياة.. العجيب أن العروسين عاشا في هذا القصر أطول من القيصرة وأنجبا طفلين تمتعا بمناعة طبيعية ضد شتاء روسيا القارس!

وقد يبدو هذا العقاب قاسياً ولكنه في الواقع ليس قاسياً على سكان سيبيريا.. فأجساد البشر في المناطق الجليدية الباردة تتأقلم بشكل جيد مع درجات حرارة متدنية من شأنها القضاء على من ولدوا في المناطق الاستوائية الحارة.

وهذه الظاهرة نلاحظها أيضاً لدى قبائل الأسكيمو في ألاسكا الذين تأقلموا بشكل مدهش مع الأجواء الباردة ويستطيعون تحمل درجات حرارة متدنية تسبب الوفاة لرجل يعيش في ليبيا أو عمان.. وهناك قبيلة تدعى ألونيت يسبح أطفالها في المياه المثلجة واللعب عراة "تحت الصفر" دون مشكلات تذكر.. وفي العام 1987 قطعت فتاة من هذه القبيلة - اسمها كوكيس لين - مضيق بيرمنج بين ألاسكا وروسيا في فصل الشتاء متفادية قطع الجليد الطافية!!

أما في التيبت فـيعيش الرهبان أشهر الشتاء "وعلى ارتفاع 15000 قدم" مكتفين برداء أحمر خفيف. وكانت الرحالة الاكسندرا انيل أول من لفتت الانتباه العام 1920 إلى قدرة الرهبان العجيبة على تحمل البرد القارس فوق هضبة التيبت "التي تسمى سقف العالم". وقالت: إن هذه الموهبة تعود إلى تمارين تأملية خاصة تتيح لهـم تـوليد حرارة داخلية تدعى التيمو Temo. وتتم تنمية هذه المقدرة لدى صغار الرهبان من خلال الغطس في برك مثلجة ثم الخروج منها والبقاء في العراء حتى يجف الرداء.. وفي العام 1981 أجريت أول دراسة موثقة لهذه الظاهرة من قبل كلية الطب في جامعة هارفارد اكتشفت قدرة الرهبان العجيبة على التحكم بـالأوردة السطحية، وزيادة ضربات القلب، بحيث يندفع أكبر قدر من الدم لسطح الجلد فتحصل التدفئة الذاتية أو التيمو حسب تسمية أهالي التيبت "والتي لا تختلف عما يسمى طبياً رد الفعل الانعكاسي الذي يمرن عليه بعض المرضى للتحكم بضغط الدم وضربات القلب"!!

على أي حال؛ طالما نعيش هذه الأيام أوقاتاً شتوية "تناسب أجسادنا" أنصحكم بتجربة هذه الطريقة..

فمن الواضح أن قدرتنا على تحمل البرد "والإصابة بأمراض البرد" تعتمد على طريقتنا في التفكير تجاه تحملنا لدرجات الحرارة.

رفقاً بالعاشقين


إن كان الحب في نظر الأدباء عشق وهيام وضوء قمر، فهو في نظر الباحثين مجرد توافقات شخصية وتراكيب كيميائية يفرزها المخ في حالات عاطفية معينة.. في جامعة كونيكت قامت كلية الاجتماع بدراسة (400) زوج وزوجة تسود بينهما علاقة الحب والوئام اتضح في نهايتها أن استمرارية الحب لا تكون إلا بين أشخاص يتصفون بالتقارب الاجتماعي والإيمان بنفس القيم والمبادئ؛ ويؤيد هذا الرأي دراسة مماثلة من جامعة منسوتا تم فيها تغذية الكمبيوتر بمعلومات شخصية عن المتحابين من الطلبة واكتشفت أن الحب يربط بين شخصين يتماثلان في الطباع والخلفية الاجتماعية والمبادئ المشتركة، ثم يترسخ ذلك من خلال تغيرات كيميائية حقيقية في المخ!.

وفي جامعة ستانفورد تصنف الدكتورة ماروك الحب كمرض حقيقي يؤثر على كيميائية المخ ويسبب أعراضا جسمانية ونفسية أهمها السرحان وانخفاض حاسة التذوق والشعور بالمرارة في الحلق وفقدان الشهية، ويشاركها ذلك الرأي الدكتور ليبوينتز من معهد الطب النفسي في نيويورك الذي لاحظ ارتفاع نسبة الفينيل ايثالمين في أمخاخ المحبين، وهذه المادة هي إحدى أنواع "الامفيتامين" المخدرة ذات الأثر الإدماني، والتي ثبت أنها السبب المباشر لحالات الخدر والسرحان التي تصيب المحبين!

وفي أغلب الحالات كان الإعجاب بملامح الشخص المقابل أو صفاته الشخصية مدخلا للعلاقة تقل أهميته مع تبني المخ للموضوع برمته. فلكل منا مقاييس مسبقة للجمال والصفات الشخصية متى ما (تجسدت) في الشخص المقابل ولد الحب والميل للارتباط به!

أما المرحلة التالية فهي ما أسميها غسيل المخ حيث تتأثر كيميائية المخ ببعض المواد المفرزة نتيجـة تلك العلاقة - وبالتالي يمكن ترتيب مراحل الوقوع في الحب بـابتسام فـكلام فـتوافـق فـغسيل مخ!

باختصار شديد؛ طالما ثبت أن عقول المحبين واقعة تحت تأثير مواد شبه مخدرة مثل الفينيل ايثالمين، فإن الحب عندها يصبح فعـلا إدمانا يصعب التخلص منه.. فـرفقا بالمحبين أيها السادة.

مريض بالحاضر


في علم الأمراض؛ كل بيئة جديدة تستدعي معها ظهور أمراض جديدة.. وهذا هو سر اختفاء بعض الأوبئة القديمة، وظهور أمراض جديدة لم تكن معروفة في العصور القديمة مثل الإيـدز وانفلونزا الطيور وفيروس الأيبولا (ناهيك عن الارتفاع الحاد في نسبة المصابين بالسكري والتوحد وانسداد الشرايين)..

ومبدأ توالد الأمراض هـذا تمت الإشارة إليه لأول مرة في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" (ابن ماجه/ كتاب الفتن).

ورغم أن الحديث يخص شيوع الفاحشة وتسببها بأمراض جديدة؛ يفيد أيضاً بإمكانية توالد الأمراض وظهورها بما يتناسب مع التغيرات في كل عصر.. والحقيقة هي أن الطابع الصناعي والاجتماعي الذي يميز مجتمعاتنا ومدننا الحديثة جلب معه أيضاً أمراضاً وعللاً مميزة؛ فـالسلالات الجديدة من البكتيريا والجراثيم المتحورة (ردة فعل) لاستعمالنا المفرط للمضادات الحيوية. والبكتيريا آكلة لحوم البشر ظلت طوال تاريخها "بكتيريا مسالمة" قبل أن تثيرها أساليب حفظ وتجميد الأطعمة الحديثة. وفي الصين ظهر نوع جديد من الأنفلونزا بسبب تربية الخنازير مع البط في مكان واحد.

ولعل أخطر ما يميز هذا العصر هو إمكانية الاتصال الكبيرة بين الأمم (وخلال ساعات قليلة فقط).. ففي الماضي كانت الأوبئة محصورة فى مناطق محدودة لانعدام المواصلات وصعوبة الانتقال، أما اليوم فالطائرات وسفن الشحن تقوم بدور خطير وغير محسوب يتمثل في نقل الجراثيم والميكروبات والمجهريات الدقيقة والعوالق البحرية إلى كل مكان في العالم (فمن المعتقد مثلاً أن توحد سلالات الجراثيم المسببة للسل يعود إلى انتشارها من المطارات الدولية)!

أما العجيب أكثر، فهو أن ظاهرة توالد الأمراض الجسدية، ترافقت مع توالد أمراض ومشاكل نفسية لم تكن معروفة لدى أجدادنا والأجيال القديمة من قبلنا.. سبق وكتبت مقالاً بعنوان (مريض بالسوشيال ميديا) أشرت فيه إلى ظهور حالات هلع نفسية جديدة تناسب الروح التقنية لعصرنا الحديث (كـفـوبيا الطيران والمصاعد وكاميرات المراقبة) كما اتضح أن نسبة الكآبة والقلق والعزلة ترتفع لدى مدمني مواقع التواصل الاجتماعي (خصوصاً الفيسبوك والانستغرام والسناب شات التي تفوق في قوة إدمانها السجائر والكحول)..

باختصار شديد؛ كثير من المتغيرات التي تعيش فيها يمكنها التسبب بمرضك أو الإساءة لصحتك..

وكثير مما يسيء لصحتنا (وقد يتسبب بمرضنا) يمكننا السلامة منه بالبحث عن المتغيرات التي سببت ظهوره.

الخيميائي


الخيمياء علم قديم (سبق الكيمياء) يهتم بأمرين رئيسيين هما تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، والتوصل إلى سر الشباب الدائم. وفي سعي الخيميائيين لهذين الحلمين أسسوا بدون قصد منهم الكيمياء الحديثة.

فمعظم علماء العصر القديم كانوا يؤمنون بوجود ما يسمى بحجر الفلاسفة الذي يهب لمن يملكه القدرة على تحويل كل ما يلمسه إلى ذهب. واقتضى الأمر قروناً طويلة حتى تشكلت قناعة باستحالة تحويل المعادن الرخيصة كالنحاس إلى أخرى نفيسة كالذهب.. أما الحلم الآخر (البقاء شاباً) فيمكن القول إننا نجحنا نسبياً في تحقيقه هذه الأيام من خلال الارتفاع المستمر في متوسط عمر الإنسان المعاصر!

ورغم أن علماء الذرة في هذا العصر نجحوا أخيراً في تحويل الرصاص إلى ذهب، تكلف الطريقة المتبعة أموالاً تفوق قيمة الذهب المنتج. وهذا النجاح المتواضع يعد تتويجاً لمحاولات تعود إلى أيام الإغريق حين ادعى أرسطو أن الاختلاف بين النحاس والحديد مجرد تفاوت في محتواهما من تلك العناصر وأنه يمكن بشيء من التوافيق والتباديل تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. وقد أثارت هذه الفكرة حماس الأباطرة والملوك فتبنوا تجارب من هذا النوع.. فالملكة اليزابيث الأولى مثلاً استأجرت عالماً خاصاً من أجل تلك المهمة. وفي القرن السابع عشر وظف إمبراطور النمسا فيردناند الثالث مجموعة كبيرة من الكيميائيين الذين انتجوا معدناً براقاً يشبه الذهب حصلوا عليه بعد صهر الكبريت مع الرصاص بنسب معينة.. أما الكيميائي السويسري براسيلوس فبعد أن قضى فترة طويلة في خدمة ملوك أوروبا اقتنع أخيرًا باستحالة تحويل المواد إلى ذهب فأحرق جميع كتب الخيمياء قبل وفاته عام 1541.

وبعد سكون طويل عادت الحياة لعلم الخيمياء في عام 1919 حين نجح عالم الذرة أرنست رذفورد في تحويل النتروجين إلى أكسجين بواسطة الإشعاع. وبهذه التجربة أثبت إمكانية تحويل المواد بعمومها إلى أخرى مختلفة. وأثناء وجود هتلر في السجن عام 1924 سمع عن كيميائي من ميونخ يدعى فرانز تاوسند نجح في إنتاج الذهب من الكوارتز وأكسيد الحديد. وفور خروجه من السجن استدعاه وضمه للحزب النازي وأمره بإجراء إحدى التجارب أمامه.. وفعلاً أجريت التجربة ونجح تاوسند في إنتاج 17 غراماً من خليط فلزي يشبه الذهب فأمر هتلر بإنشاء شركة خاصة لتحويل المعادن. ولكنها سرعان ما أفلست بعد سنتين وزج بتاوسند في السجن واختفت أوراقه نهائياً.

بقي أن أشير إلى أن نجاح أي جهة في تحويل المعادن إلى ذهـب، سيهبط بقيمة الذهب نفسه لمستوى المعدن الذي أنتج منه.. فما يجعل الذهب ثميناً هو ندرته في المقام الأول.

المهاتما في الهند


جنوب إفريقيا مسؤولة عن تقديم أعظم رجلين في تاريخ النضال الإنساني.. الأول المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا "الذي سبق وكتبت عنه مقالاً خاصاً" والثاني المناضل الهندي المهاتما غاندي ضد الاستعمار البريطاني في الهند..

كان غاندي يعمل في جنوب إفريقيا كمحامٍ ومدافع عن حقوق الجالية الهندية طوال 22 عاماً.. وفي العام 1915 قرر العودة إلى الهند محملاً بتجربة كفاح طويلة ضد السلطات المحتلة ومتبنياً سياسة اللاعنف والعصيان المدني.. لم يكن أول من نادى بهذه السياسة ولكنه أول من طبقها ضد المستعمر البريطاني. كان بطبيعته مسالماً "لا يأكل اللحوم ولا يقتل الحشرات" ويدرك أن العنف يمنح الطغاة شرعية الانتقام ويستدعي رد فعل أكثر عنفاً.. حـثّ أتباعه على عدم حمل السلاح، أو الـرد على العنف، أو التعاون مع المحتلين؛ الأمر الذي أحرج بريطانيا ليس فقط أمام المجتمع الدولي، بـل أمام شعبها الذي بدأ يكن احتراماً كبيراً لغاندي..

وبعد سجنه عدة مرات ومحاولة استمالته عدة مرات، اقتنعـت بريطانيا بصعوبة البقاء في الهند فقررت منحها الاستقلال ومنح المسلمين دولة خاصة بهم "وهو ما يعني فعلياً تقسيم البلاد".. وفور إعلانها ذلك أعلن هـو عـدم رغبته في زعامة الدولة وتخليه طواعية عن رئاسة حزب "المؤتمر الهندي".. ولكنه حاول الوقوف ضد فكرة التقسيم فعرض على محمد جناح "زعيم مسلمي الهند" تولي زعامة الهند مقابل تخليه عن فكرة انفصال المسلمين.. ورغم موافقة جناح على عرض غاندي، لم يوافق جواهر لال نهرو "زعيم الأغلبية الهندوسية" فانقسمت الهند فور استقلالها 16 أغسطس 1947 إلى دولتين؛ الهند وباكستان.. وفور إعلان الدولتين قامت حوادث شغب واعتداء جعلت غاندي يضرب عن الطعام حتى تتوقف أعمال العنف بين المسلمين والهندوس - وتوقفت فعلاً خوفاً على حياته..

غير أن دفاعه الدائم عن المسلمين والمنبوذين جعل المتطرفين الهندوس ينظرون إليه كشخص خـائـن.. وفي 30 يناير 1948 أطلق عليه أحد المتعصبين الهندوس ثلاث رصاصات سقط على إثرها ميتاً عن عمر يناهز 78 عاماً..

واليوم، تحمل العملة الهندية صورته، ويحمل العلم الهندي رمزاً لمـغزله، ويعتبر يوم ميلاده عـيداً وطنياً ويوماً عالمياً "للاعـنف"..

إن لم تتمكن من قراءة سيرته شاهـد فيلمه على اليوتيوب Gandhi..

الذين هبطوا من السماء


هل يمكن توقع شكل حياتنا أو التقنيات التي سنستعملها بعد 26 عاما من الآن؟

هل تخيلت نفسك تعيش فترة كافية تشاهد فيها بنفسك نبوءاتك تتحقق على أرض الواقع؟

شاهدت أخيرا لقاء تلفزيونيا مع كاتب الخيال العلمي آرثر كلارك (صور في أستراليا عام 1974)، يعبر فيه عن تصوره للمستقبل، وكيف ستكون حالة المجتمع عام 2001، ومن المدهش فعلا أن جميع ما قاله - لم يتحقق فقط - بــل تجاوزناه اليوم (وشاهده كلارك بنفسه قبل وفاته عام 2008).

وآرثر كلارك عالم ومخترع بريطاني، وهو أول من قدم فكرة الأقمار الاصطناعية في أربعينات القرن الماضي. تـنبأ - ليس فقط بظهور شبكة الإنترنت - بل توسعها لدرجة وصولها إلى مرحلة الوعي والذكاء المستقل.

ورغم ذلك لا تزال هناك نبوءات كثيرة لكلارك لم تتحقق، ويتعلق معظمها بسفر الإنسان إلى المجرات البعيدة، ودخوله في معارك مع مخلوقات أكثر منه تقدما، (وهي أفكار شكلت محور ملحماته الفضائية الأربع 2001 و2010 و2061 و3001 التي تحولت إلى سلسلة أفلام حرب النجوم).

وفي هذه الروايات بالذات نلاحظ أن كلارك تبنى فكرة خروج الإنسان عن نطاق كوكبه ومجرته، ولعبه دور المهاجم والمستكشف لجنبات الكون.. فـمعظم الروايات الخيالية قـبله كانت تتمحور حول حضور وهبوط وهجوم المخلوقات الفضائية على الأرض، واتخاذ الإنسان دور المدافع أو المهزوم أمامها، (ومثال ذلك رواية "حرب العوالم" للكاتب الإنجليزي هربريت ويلز)!!

وبين موقفي الدفاع والهجوم هناك فكرة ثالثة - أقل عنفا - تدعي أن الإنسان ذاته "كائن فضائي" نزل على كوكب الأرض في وقت متأخر بعد انقراض الديناصورات بستين مليون عام.. وهو موقف يختلف عن مقاومته للمخلوقات الفضائية (كالذي شاهدناه في حرب العوالم) أو غزوها في عقر دارها (كما في أفلام حرب النجوم).. وأشهر أنموذج لهذا الموقف رواية "عربات الآلهة" للسويسري فون دايكن عام 1967 وترجمت إلى 26 لغة.. ظهرت باللغة العربية من خلال كتاب الذين هبطوا من السماء (لأنيس منصور)، وتتحدث عن مخلوقات غريبة لجأت قبل عشرة آلاف سنة إلى كوكب الأرض، الذي يناسب تكوينهم البيولوجي؛ هرباً من حروب نشبت بين كواكب المجرة وشكلت أصل الإنسان الحديث.

ورغـم غرابة الفكرة؛ تـذكر دائما أن آدم وحواء هـبطا فعلا من السماء، وأن ذريتهما استعمرت الأرض بعد انقراض سلالات بشرية سابقة سفكت الدماء وعاثت فيها فسادا.

"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ".

كيف يتزوجون؟


إحدى قريباتي زارتها جارتها السورية للتعرف عليها، وبدأت تخبرها عن قصة الحب التي جمعتها بزوجها منذ الطفولة.. وحين انتهت سألتها: وأنتِ كيف تزوجتِ؟.. ضحكت وقالت بنبرة ساخرة: أبدا؛ ذهـب زوجي مع والده إلى جارنا ليخطبا من عنده، فأخبرهم أنه لا يملك بنات في سن الزواج، ونصحهم بالذهاب إلى جاره الذي يملك أربع بنات.. وحين خرجـا من بيته اتجها ناحية اليمين بدل اليسار، ودخلا بيتنا بالغلط وخطبوني من والدي، هكذا يا حبيبتي يتم الزواج في السعودية، وهذه الطريقة تدعى "الزواج المدبر"، الذي يتم من خلال الوالدين والأهل، ولا يكون فيه للزوجين قرار في اختيار زوج المستقبل. نعـم؛ يمكن للشاب والشابة الاعتراض، ولكنهما لا يملكان فرصة الاختيار بنفسيهما منذ البداية.

ورغم أن هذا النوع من الزواج شائع أيضا في الهـند وسيرلانكا وإيران ومعظم الدول العربية، تملك السعودية النسخة الأكثر صرامة وتشددا؛ حيث يصل الأمر حد القطيعة وعدم التواصل بين الزوجين حتى وقت كتابة العقد، وحينها قد تُفاجأ الزوجة بأن زوجها يدخن بشراهة، أو يتأتئ في الكلام، ويفاجأ الزوج بأن زوجته "نفسية"، أو أنها تختفي تحت طبقات المكياج.

غير أن "الزواج المدبر" ليس الطريقة الوحيدة للزواج بين شعوب العالم؛ ففي الثقافة الغربية، من المعتاد أن يتعارف الزوجان، ويختار أحدهما الآخر عن طريق التواصل المباشر، لا يتصوران كيف يتركان هذا القرار المصيري لشخص غيرهما، وقد يتفقان على العيش معا قبل اتخاذ قرار الارتباط من عدمه.

ويمكن القول إن هذين النوعين من الزواج (المدبر والمباشر) يشكلان 97 في المئة من طرق الزواج حول العالم، وبقية الطرق يمكن اعتبارها نادرة أو استثنائية أو حتى شاذة، كأن يحدث عن طريق السبي، أو الاستعباد، أو الشراء، أو تسديد قرض الأسرة، أو خطف زوجة المستقبل، الذي يدعى في بلاد الشام زواج الخطيفة.

والأنواع الأخيرة لا تحتاج إلى شرح، وأعتبرها حوادث اغتصاب لا تمت إلى الزواج بصلة، ولا تحقق المغزى الموجود في قوله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً".

الرجل الذي اخترع الروبوت


إسحاق عظيموف من الشخصيات التي أعشقها، وظهرت في كتابي الأخير: الله وحده قادر على صنعهم. ويعد واحداً من أبرز كتاب الخيال العلمي في القرن العشرين وأكثرهم إنتاجاً وظهوراً في الأفلام.. هاجر في سن الطفولة من روسيا إلى أميركا وامتلك والده سلسلة متاجر للحلويات في نيويورك وكان يحاول إقناع ابنه بالعمل معه لإدارتها.. غير أن عظيموف كان يكره التجارة ويعشق القراءة والاطلاع وكتابة القصص القصيرة.. كان ذكياً جداً لدرجة تعلم القراءة بنفسه في سن الخامسة وتعلم من والدته حنة أزيموف اللغة الإيديشية (المشتقة من الألمانية) وانتهى من الثانوية بعمر 15 ليدخل بهذا السن جامعة كولومبيا.. وفي سن التاسعة عشرة تخرج منها ليتابع دراسته لدرجتي الماجستير والدكتوراه..

ورغم وظيفته الجامعية وعمله الأكاديمي كانت كتابة المقالات العلمية والقصص الخيالية (بطريقة سهلة ومحببة) هي مهنته الحقيقية.. أول قصة خيالية نشرها عام 1938 وكانت بعنوان (تائهون أمام الثقب).. أحبها الناس لدرجة قررت مجلة (قصص عجيبة) إعادة نشرها على حلقات.. وفي عام 1950 كتب رواية خيالية حققت شهرة كبيرة بعنوان (حصاة من السماء) ساهمت في ترسيخ مكانته ككاتب علمي بارز.. وفي نفس العام أيضاً قدم رواية أكثر شهرة بعنوان (التملص) تحولت لاحقاً إلى فيلم بعنوان I, Robot من بطولة وليم سميث وتناول فيها عظيموف العلاقة المتوترة بين الآلات والروبوتات الذكية.. وبعدها بعام بدأ بنشر سلسلة روائية جديدة بعنوان (الأساس) فازت عام 1966 بجائزة هــوجـو لأفضل رواية علمية وتتحدث عن النتائج المأساوية التي تطال الأرض نتيجة انهيار إمبراطورية كانت تحكم الكواكب الحية في مجرة درب التبانة..

ومن خلال رواياته ابتكر فكرة الروبوت وكان أول من أطلق عليه هذا الاسم (في روايته الكاذب).. كما قـدم في روايته التملص ما يعرف بقوانين الروبوت الثلاثة (التي كتبت عنها بالتفصيل عام 2006 وتجدها في النت بنفس العنوان)..

وفي الإجمال قدم عظيموف أكثر من 500 رواية وكتاب تراوحت بين الخيال العلمي والبحث التاريخي والأفكار الفلسفية الجادة.. أضف لذلك نشر عدداً هائلاً من المقالات العلمية التي أعيد جمعها لاحقاً ضمن كتب متخصصة..

أنا شخصياً أتذكر له الكثير من المقولات الجميلة التي اقتطفتها في كتبه ومقالاته مثل: إن كانت المعرفة تخلق بعض المشكلات فـالجهل لا يعني حلها.. الذين يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء يعيقون عمل من يدركون استحالة معرفة كل شيء.. العنف آخر الشواهد على عدم الكفاءة وادعاء المعرفة أول الشواهد على الجهل.. وأخيراً؛ لا يمكن لآرائنا أن تكون كاملة أو صحيحة 100 % بـل نسبية ومتأرجحة بين المعقول، والممكن، والمستحيل..

لغـات خاصة بالنساء


شاهدت قبل أيام "فيديو" قصيراً عن قرية تركية تتعامل بلغة الصفير.. ليست المرة الأولى التي أراه فيها، ولكنها المرة الأولى التي يوحي لي بكتابة مقال (خصوصاً بعد أن علمت عن دور النساء في ظهورها)..

هذه القرية تدعى "كوش كوي" وتقع فوق الجبال المطلة على البحر الأسود.. وبسبب وعورة المنطقة، وعمق الأودية التي تقسمها، ابتكر أهلها لغة تعتمد على الصفير للتفاهم عن بعـد.. فبدل بعث مرسول يصعد الجبال وينزلها، وبدل الصراخ بكلام لا يصل للطرف المقابل من الوادي، طور أهلها لغة صفير خاصة لا يكـاد يفهمها غيرهم (جرى ضمها مؤخراً إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي).

وهي لغة مشفرة لا تعتمد على الكلمات بل على التصفير بنغمات مختلفة الطول والنوعية، تتضمن معاني كثيرة كـطلب المساعدة أو سرعة الحضور أو فعل أشياء متفق عليها.

الطريف في الموضوع أن لغة الصفير تبرع فيها النساء أكثر من الرجال - وغالباً ما يضطر الرجال إلى الاستعانة بالنساء لترجمة المقصود أو بعـث الصفير المطلوب.. ومهارة النساء في هذه اللغة تجعلني أفترض أنهن من اخترعها أصلاً - إما لاستثناء الرجال أو الطلب من الجارات والقريبات الانتباه للبيت والأطفال لتأخر الأم في الحقول!!

والحقيقة هي أن لغة الصفير التركية ليست اللغة النسائية (أو شبة النسائية) الوحيدة في العالم.. ففي الصين القديمة كانت النساء محرومات من حقوقهن لذا ابتكرن لغـة مشفّرة للتواصل بينهن تسمى لغة النوشو (وإن كان الرجال يدعونها لغة الحقيرات).. نادراً ما يفهمها الأزواج والأبناء وتتوارثها البنات عن أمهاتهن من خلال قـسم ووعد شرف بعدم تعليمها للأزواج أو الأبناء.. وبمرور الأجيال تطورت هذه اللغة بحيث أصبحت تملك أحرفاً ورموزاً تتداولها النساء فيما بينهن أو يطرزنها سراً فوق الأقمشة والملابس.. وكانت لغة النوشو في الصين تخيف الرجال وتوحي لهم بوجود مؤامرة نسائية (خصوصاً أن بعض الملابس النسائية كانت تحمل تعاويذ رجالية) ولهذا السبب تم تحريمها وإعدام ممارساتها أثناء الثورة الثقافية في الستينات..

أمــا في جزر الكاريبي فـما يزال السكان (الأصليون) يستعملون ثلاث لغات من غير المقبول اجتماعياً الإلمام بها كلها.. فهناك مثلاً لغة خاصة بالنساء من العيب أن يتحدث بها - أو حتى يفهمها - الرجال.. ولغة ثانية خاصة بالرجال يتحدثون بها بينهم أو في الاجتماعات الخاصة بالقبيلة، أما اللغة الثالثة فهي الأكثر انتشاراً ويتحدث بها الجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً - وتستخدم داخل البيوت وفي الأسوق!!

بقيت ملاحظة أخيرة لاحظتها شخصياً حين يلعب الأطفال مع بعضهم البعض.. فـبمجرد أن يجتمع الجنسان تبدأ "البنات" في التحزب لبعضهن والحديث بطريقة لا يكاد يفهمها "الأولاد"!!

بدأت أعتقد أنها غريزة فطرية لدى النساء!!

خصوم وأصول ووعد من الله


السيارة تخسر 11 % من قيمتها بمجرد خروجها من المعرض.. وخاتـم الألماس يخسر 70 % من قيمته بمجرد وضعه في أصبع اليد.. وفستان العروس يخسر 50 % من قيمته بمجرد لبسه للمرة الأولى.. والألعاب الإلكترونية تخسر 50 % من قيمتها بمجرد فتح غلافها الورقي.. والهواتف الذكية تخسر 80 % من قيمتها بمجرد ظهور موديـل أحدث منها..

وكل هذا لأن جميع السلع الاستهلاكية (خصوم) تخسر قيمتها بمجرد شرائها أو استعمالها أو ظهور ما هـو أحدث منها.. جميع النسب المئوية أعلاه تعني أنك فقدت نفس القدر من المال على سلع غيرت رأيك حيالها أو لم تستهلكها بالقدر الكافي..

مـا لا يعرفه معظمنا أن الـمال ثلاث حالات هي: خصوم، وأصول، وطـواعـية..

أعرف أنها مسميات غريبة ولكن الخصوم مشتقة من (الخصم من المبلغ أو الرصيد) بغرض شراء سلعة استهلاكية قصيره العمر أو محدودة الاستخدام.

أما (الأصول) فهي الأموال التي تولد أموالاً وتقدم أرباحاً فوق سعرها الأصلي، كالعقارات والأعمال التجارية والمشروعات الناجحة..

أما الأموال (المصروفة طواعية) فهي التي تنفقها في أعمال الخير والإحسان، أو تخصصها لوالديك أو المحتاجين من أقربائك ومعارفك - (ووضعتها في تصنيف مستقل لأننا لا نستطيع الادعاء أنها خصوم أو أصول رغم أن أجرها عند الله عظيم)..

وحياتنا تتقلب غالباً بين هذه الأنواع الثلاثة كوننا نشتري سلعاً استهلاكية لا تسترد قيمتها، ونحاول في الوقت نفسه ادخار شيء للمستقبل، ونسعى بين الحين والآخر لعمل الخير ومساعدة المحتاجين..

لا يتشابه حتى التوائم في نسبة وطريقة التعامل مع هذه الأنواع الثلاثة.. ولكن؛ حين تتغلب الخصوم على الأصول تكون إنساناً مسرفاً (يمكنك حتى تبديد الثروة التي تركها لك والدك).. وحين تتغلب الأصول على الخصوم تكون ميسور الحـال (حتى لـو ورثت من والدك عشرة أشقاء قُصر).. أما حين يتغلب جانب الخير على الاثنين فقد تعيش ثرياً أو مستوراً ولكنك - وعـداً من الله - لن تفتقر أبـداً..

وأنا شخصياً أضمن لمن يجيد التعامل معها في سن مبكرة البقاء -على الأقل- في خانة الميسورين وأصحاب الدخل المرتفع حتى سن متقدمة..

مت فارغاً


حين تريد شراء أرض استثمارية (خلال حياتك) فعليك بثلاثة شروط مهمة: الموقع، ثم الموقع، ثم الموقع..

غـير أن "الموقع" ليس مهماً حين نتحدث عن أكـثر الأراضي غلاء في العالم.

فـالمقابر تعد أغلى الأراضي في كافة الدول (ليس فقط لأن عائلات الموتى يرفضون بيعها بأي ثمن) بل لأنها تضم أشخاصاً توفوا قبل أن يحققوا طموحاتهم.. أشخاصاً ماتوا بأفكار لم يطبقوها، وأحلام تأخروا لم ينفذوها، وإبداعات احتفظوا بها لأنفسهم، وخبرات لم يكتبوها أو يفشوا أسرارها لغيرهم..

حـين توفيت ابنتي سما (وكنت حينها وحيداً في الرياض) رافقني شيخ صالح قـال حين دخلنا المقبرة: يا ولدي كل الموجودين هنا ماتوا قبل أن يُـنهـوا أعمالهم.. تأثرت وبكيت ولم أنسَ أبــداً الحكمة وقــائلها..

واليوم تذكرت الرجل حين وقعت عيني على كتاب في مكتبتي يحمل نفس العنوان Die Empty للمؤلف الأميركي تود هنري.. تفاصيل الكتاب لا تهمنا (كونه يركز على قطاع الأعمال وإدارة الشركات) ولكن فكرة الكتاب وكيفية ظهوره هي ما أثارت انتباهي وأردت مشاركتكم بها..

فحين كان تود شاباً اشترك في دورة للتثمين العقاري طرح فيها المحاضر هذا السؤال: ما برأيكم أغنى أرض في العالم؟ تراوحت الإجابات بين حقول النفط، ومناجم الألماس، وعروق الذهب، وقطع النيازك السوداء.. وفي كل مرة يرفض المحاضر الإجابة، حتى أخبرهم بوجود ما هو أغلى من كل ذلك في مقابر الموتى..

أما فكرة الكتاب فتتمحور حول ضرورة المبادرة بـتطبيق أفكارنا الرائعة قـبل وفــاتنا.. فنحن نعيش دائماً حالة تسويف وتأجيل وقناعة بأننا سنعيش إلى الأبد.. لا بأس أن نفـشل أو نتوقف جبراً (فهذا ليس بأيدينا) ولكن المشكلة أننا نتوقف قـبل التعرض لأي عقبات ومؤثرات خارجية.. فــ 99 % مما نفكر فيه نقرر تلقائياً بتأجيله إلى (يوم الغـد) الذي سرعان ما يتحول إلى أسابيع وشهور وسنوات حتى نحمله معنا للقبر.

من الفوارق المهمة بين الناجحين والفاشلين ليست القدرة على الخروج بالأفكار الجميلة، بل المبادرة في تطبيقها والسرعة في تنفـيذها.. الناجحون لا يترددون في اغتنام الفرص ويتعلمون المزيد من خلال تطبيق أفكارهم بأنفسهم.. وفي المقابل يجنح الفاشلون إلى تأجيل أفكارهم الجميلة (حتى تسمح الظروف) فيحرمون بذلك أنفسهم من فرصة التعلم وإصلاح الأخطاء وتجاوز العقبات؛ فـيأخذونها معهم إلى القـبر.

لا يوجد فرق كبير بين تود هنري والرجل الذي رافقني في المقبرة.. فالأول يطالبك بتطبيق أفكارك قبل وفاتك، والثاني تطبيق أفكارك بـما يخدم وفاتك.. والمشترك بينهما المبادرة وسرعة التنفيذ.

ما لا نعرفه عن أينشتاين


لم يشتهر عبقري مثل أينشتاين، ولم يصعب فهم أعمال عبقري مثل أينشتاين.. حقق خلال حياته شهرة تفوق نجوم السينما والغناء رغم أن 99 % من الناس لا يفهمون طبيعة عمله أو نظريته النسبية.. حتى المخترع الأميركي توماس أديسون (الذي سجل أكثر من ألف اختراع) سئل إن كان هناك شيء استحال عليه فهمه قال: فشلت في فهم نظرية أينشتاين.

وأينشتاين فيزيائي ألماني الأصل، سويسري الجنسية، نشر نظريته النسبية الخاصة عام 1905 ثـم النسبية العامة 1916.. وبسبب أصله اليهودي هرب إلى أميركا بعد وصول هتلر للسلطة ومات فيها عام 1955.. حين وصل استقبله الأميركان كنجم سينمائي فقال جملته الشهيرة: أما أنهم مجانين أو يعتقدون أن النسبية حفلة موسيقية.

وبما أن اسم أينشتاين معروف لدى معظمنا سأتجاوز إنجازاته العلمية وأتحدث عن جانبين شبه مجهولين لا يعرفهما معظمنا:

الجانب الأول: أن نظريته النسبية تحولت (بنظري على الأقل) إلى فلسفة ووجهة نظر تشمل كل شيء تقريباً..

والثاني: علاقته باليهودية (ديانة والديه) وموقـفه الشخصي من قيام دولة إسرائيل.

فـفي رأيي الشخصي؛ تجاوزت نظريته النسبية حدود الفيزياء وتحولت إلى "مفهوم" يشمل كافة جوانب الحياة.. أصبحت "النسبية" بفضله فكرة وموقفاً يشمل الأفكار والأخبار والاعتقادات والمشاعر بحيث لم يعـد ثابتاً ومؤكداً غير الموت وفكرة النسبية ذاتها.. فأخلاق الناس نسبية، ومشاعر البشر نسبية، وعدالة القوانين نسبية، ومصداقية الأحداث نسبية، وأفكارنا الخاصة نسبية، والحقائق التي نتبناها نسبية.. جميعها تعتمد على فهمنا وتقييمنا وتأثيرها علينا ووجودنا في موقف الفاعل أو المراقب لها (تماماً كما تتأثر سرعة، وكتلة، وحجم الأجسام، بحسب موقع وحركة المراقب في نظرية أينشتاين النسبية)..

أما الجانب الثاني.. فرغم أنه ولد لأبويين يهوديين كان ربوبياً لا يصدق بالأديان رغم قناعته بوجود الخالق.. كان ينتقد على وجــه الخصوص ديانته اليهودية كونها حسب قوله ديانة عنصرية لا تحتقر فقط بقية الأديان والأعراق بل وترفض إضفاء صفة اليهودية حتى على من يحاولون الانتساب إليها..

كان يعارض قيام دولة يهودية على حساب اضطهاد شعب موجود أو أرض مغتصبة.. في عام 1920 بعث رسالة إلى زعيم المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان (الذي أصبح لاحقاً أول رئيس لإسرائيل) محذراً فيها من تجاهل الحقوق العربية ونصح الصهاينة بألاّ يعتمدوا في بقائهم على الإنجليز.. كما نبه في رسالة أخرى إلى تفاقم خطر الهجرة الصهيونية وارتداده ضد اليهود مستقبلاً لأن الشعور بالظلم والقهر ستتوارثه الأجيال العربية إلى ما لا نهاية..

التفوق الكيفي للمواطن


هــل تذكر كم كان عدد سكان المملكة حين كنت طفلاً صغيراً؟

أقــل رقم أذكره كان يتراوح بين ستة وسـبعـة ملايين نسمة حين توفي الملك فيصل في العام 1975م (الموافق 1395هـ)، في ذلك الوقت كان عدد سكان العالم مجتمعاً يقدر بــ4 مليارات نسمة.

غير أن عدد السعوديين اقترب اليوم (في 2019) من 21 مليون نسمة، في حين تجاوز سكان العالم حاجز الــ7 مليارات نسمة..

وهذا يعني أن سكان العالم تضاعفوا منذ العام 1975 بنسبة 75 % في حين تضاعف سكان السعودية (منذ وفاة الملك فيصل) بنسبة 300 % تقريباً.. تضاعف عددنا ثلاث مرات خلال الأربعة والأربعين عاماً الماضية، مقابل ثباته في الدول المتقدمة والثرية أصلاً..

ولا يبدو أننا سنتوقف قريباً عن التناسل المفرط أو التعادل السكاني؛ فـبحسب التقرير الصادر عن الأمم المتحدة للعام 2017، تأتي المملكة في المركز الرابع والعشرين عالمياً من حيث سرعة النمو السكاني بمتوسط سنوي قدره 2,52 %. ورغم أن هذا المتوسط ليس كبيراً مقارنة بدول مثل أوغندا والنيجر وروندا (وجميعها في أفريقيا) ما تزال نسبة الولادات لدينا أكبر من قدرتنا على توفير الخدمات العامة للسكان (ناهيك عن الأجانب الذين تجاوز عددهم 12 مليون نسمة بحسب أرقام 2018).. في مجالسنا الخاصة كثيراً ما نتشكى من ضعف الخدمات وقلة المستشفيات وتكدس الفصول الدراسية، ولكننا نتجاهل في المقابل تضاعفنا المستمر ودورنا (كآباء وأمهات) في تضخيم هذه الأزمة.. فحين تسبق "عجلة الإنجاب" "عجلة التنمية" تكثر معدلات الفقر والبطالة، وأزمة السكن، وفرص التعلم، وتوفير رعاية صحية مناسبة..

كثرة السكان تعد ميزة إيجابية حين يشكل المواطن ذاته قيمة إضافية منتجة ومولدة للدخل وداعمة للاقتصاد الوطني.. ولكنها تصبح ميزة سلبية تسبب الفقر والبطالة وتراجع الاقتصاد (لأن كثرة السكان تتحول إلى استهلاك الموارد واستنزاف الاقتصاد خصوصاً في المجتمعات التي لم تتعود دفع الضرائب).

لا أحاول الدفاع عن الحكومة أو الوزارات المعنية ولكنني أطالب فقط الآباء والأمهات بتحمل نصيبهم من المسؤولية.. أطالب الحكومة برفع مستوى إنتاجية المواطن ونسبة مشاركته في بناء اقتصاده الوطني، ناهيك عن ضرورة تحولنا من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد المعرفة والتصدير..

خيارنا الوحيد في المستقبل سيكون التفوق الكيفي للمواطن (كما في الدول الاسكندنافية) وليس التفوق العددي للمواطنين (كما في الدول الأفريقية) مستأنسين بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

ظاهرة الدرون


قبل سنوات اختفى صديقنا علي الحازمي (مؤسس سبق الإلكترونية) لعـدة أيام دون سابق إنذار.. لم يعرف أحد مكانه، فظهرت شائعات تراوحت بين اختطافه وسقوطه في بئـر ارتوازية، إلى غيرها من الاشاعات!

وبعد ظهوره، تواصلت أنا معه واتضح لي أنه كان مخيماً في الثمامة يجرب أنواعاً من طائرات الدرون لأغراض التصوير الصحفي. أعجبتني الفكرة واعتبرتها خطوة استباقية ذكية، خصوصاً في ذلك الوقت، لالتقاط الصور من الأعلى..

والدرون اسم يطلق على كل طائرة لا تحمل طياراً ويتم تسييرها عن بعد.. ولكنه في الغالب يطلق على طائرات مروحية صغيرة تحمل باليد وتسير بجهاز لاسلكي خاص.. تعمل بنفس طريقة الهليكوبتر ولكنها تتضمن أربع مراوح أفقية تمنحها ثباتاً وتوازناً وعدم التفاف عكسي..

ورغــم أن طائرات الهليكوبتر صنعت مـنـذ 1942 (بفضل المهندس إيجورسيكورسكي) ورغـم أن الجيوش المتقدمة تستخدمها منذ عقود؛ لم تدخل الدرون حيز الاستخدام المدني المكـثف إلا في السنوات الأخيرة فقط..

واليوم يتم استعمالها في كافة المهام التي تتطلب رؤية الأشياء (من الأعلى).. فبالإضافة لالتقاط الصور ومقاطع الفيديو؛ يمكن استخدامها أيضاً للمراقبة، والتجسس، والبحث عن المفقودين، وتحديد المواقع، ومتابعة الحوادث، وتصوير الأفلام، وإيصال المساعدات والاحتياجات الطبية الصغيرة.. تعمل كـعين في السماء ويستخدمها كل إنسان بالطريقة التي تخدمه..

ومثل أي تقنية جديدة ما تزال حكومات العالم حائرة بخصوص التعامل معها.. ففي حين أصدرت بريطانيا قراراً يمنع الدرون من الاقتراب من المطارات (بعد حادثة مطار جاتويك) تملك كندا منذ تسع سنوات قانوناً يحظر اقترابها لأقل من 6 كيلومترات.. وفي حين تمنع تركيا طائرات الدرون الإعلامية (وتملك فرقة متخصصة لإسقاطها بالرصاص) استخدمتها قناة الــ CNN لـبـث 52 لقطة حية في 2018.. ورغم أن الدستور الأميركي يضمن حرية الإعلام، لا يسمح لطائرات الدرون بالاقتراب من المطارات والقواعد العسكرية دون موافقة رسمية مسبقة..

وبسبب انتشار ظاهرة الدرون، ظهرت تقنيات كثيرة لمكافحتها ومحاولة إسقاطها؛ فبالإضافة لبنادق الشرطة، هناك بنادق ليـزرية، وقذائف مطاطية، ومدافع تطلق شبكات قوية، في حين بدأت الشرطة الهولندية بتدريب الصقور على إسقطاها.. أنا شخصياً؛ لا أؤمن بفكرة إسقاط أي شيء مرتفع..

أعتقد أن الخوف من طائرات الدرون مبالغ فيه، وتكرار لمخاوف غير منطقية رافقت معظم المستجدات التقنيـة (وتذكرون خوفنا من كاميرات الجوال والأطباق الفضائية)..

على العكس تماماً؛ أتوقع أن يملك كل بيت في المستقبل طائرة درون خاصة به تُـحضر المقاضي للمنزل، وترافق الأطفال للمدرسة، وتتابع سيارة العائلة على الطرقات، ويتم إرسالها عند الطوارئ لأي فرد من العائلة..

التيار العقلاني


في ديسمبر2010 كتبت مقالين أثـارا جدلاً كبيراً..

المقال الأول (من يدعي ذلك بعد سليمان) أنكرت فيه قدرة أحد على تسخير الجن والشياطين..

والثاني (من يعرف جنياً يتلبسني) أنكرت فيه قدرة الجن على التلبس في الإنسان وعدم وجود نصوص شرعية صحيحة تؤكد هذا الادعاء..

وحينها كنت أدرك أنني اخترت الطريق الصعب والشائك، كون الطريق السهل والذي يضمن تأييد القراء، هـو فعل العكس وتأكيد هذين الادعاءين من خلال قصص مفبركة (سمعناها كلنا) عن تلبس الجان بفلان وفلان..

قبل ثماني سنوات فقط؛ كانت مسألة التلبس محسومة ومفروغ منها وكان خلافنا الوحيد هل يدخل الجني من الدبر أم القبل أم إصبع القدم.. غير أن واجبي حينها حتم عليّ تحكيم العقل واللجوء للمنطق رغـم كل الآراء التي هاجمتني لاحقاً وكان أقساها ادعاء إنكاري لوجود الجن ذاته..

لن أكرر رأيي في الموضوع (ومن يرِدْ الاطلاع على المقالين يبحثْ عنهما في غوغل) لأنني اليوم أود التعبير عن سعادتي بتبلور تيار عقلاني يسري في مجتمعنا (بـدأ بانتهاء عصر الغفوة).. لم تعد الأجيال الجديدة تسلّم بالخرافات أو تؤجر عقولها بسهولة كما كان في زمن "الكاسيت" ومرتزقة الدعوة. دخلنا مرحلة نضج جديدة يتم فيها ترجيح العقل على الخرافة، والمنطق على الأسطورة.. ارتقى نقاشنا من مستوى (هل يدخل من القبل أو الدبر) إلى مستوى (هل يصح عقلاً افتراض دخوله في جسم الإنسان).. أصبح للعقل صوت مسموع، والاحتكام إليه يمنحنا مناعة ضد خرافات وخزعبلات تلبس ثياب الدين وما هي من الدين.. لا أدعي أن الخرافات انتهت من حياتنا ولكنها على الأقل أصبحت تخضع (خصوصاً لدى الأجيال الشابة) لميزان العقل والمنطق والسؤال عن المصدر.

دخلنا مرحلة العقلانية التي تعني (كمصطلح) الاحتكام إلى العقل والمنطق، والنزاهة والحيادية في استخلاص النتائج.. العقلانية تعزل نفسها (ولو مؤقتاً) عن التفكير الأسطوري كي تبحث بحرية وتجرد عن الحقيقة والمسبب.. حين يهجر المجتمع التفكير العقلاني ويلجأ للتفكير الفلكلوري تفوته أسباب التقدم والمسببات الحقيقية للمشكلات السائدة فيه..

وقبل أن يقتص أحد من كلامي ما لا أعنيه؛ أشير إلى أن العقلانية طبيعة بشرية وطريقة في التفكير لا تخص تياراً أو فئة أو أيديولوجيا معينة.. تتسـق مع الدين ولا تتعارض معه بدليل وجود 49 آيـة تحتكم لميزان العقـل وتعاتب من لا يعتمد عليه بدليل قوله تعالى: "أفلا تعقلون"، "لعلكم تعقلون"، "أفلم تكونوا تعقلون".. ولكن للأسف "أكثرهم لا يعقلون"..

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...