السبت، 31 أغسطس 2019

في أسوأ الظروف تصرّف كجنتلمان


كان لدينا سائق أعرف متى يكذب ومتى يقول الحقيقة.. حين يقول الحقيقة يتصرف بعفوية وثبات؛ وحين يكذب "يَحُك" خلف أذنيه ويطأطئ رأسه للأرض ويحاول المغادرة سريعاً.. كانت حركة عفوية لا يعلم بها، ولم ألفت أنا انتباهه إليها!!

فالكذب وضع شاذ يحفز الجسد ويربك الجوارح ويقلل الثقة بالنفس. فنحن حين نكذب نتصنع غير الحقيقة ونحاول أقلمة جوارحنا مع مانقول. وفي وضع كهذا يحصل تعارض بين المخ (الذي يعرف الحقيقة) والجوارح (التي تحاول تصنع مايوائم الحقيقة) واللسان (الذي يحتهد في فبركة غير الحقيقة).. وعدم التناسق هذا يولد مظاهر استثنائية وغير اعتيادية يمكن ملاحظتها فيمن يكذب عليك؛ فالكاذب مثلاً يتهدج صوته، ويرتفع ضغطه، وتتعرق يده، وتزداد نبضات قلبه، ويجف فمه، وتطرف عيناه بسرعة.. أما من يقول الحقيقة فتعمل أعضاؤه بتناسق ووئام طبيعي فيظهر هادئاً واثقاً حتى حين يقول الحقيقة على نفسه!!

وجهاز كشف الكذب الذي نراه كثيراً في الأفلام الأمريكية ليس أكثر من مجسات تقيس نبضات القلب وضغط الدم ونسبة التعرق وجميع المظاهر التي ترافق حالة الكذب. وبمقارنة مستوى هذه المظاهر مع الوضع الطبيعي (حين يقول الحقيقة) يمكن للخبير تمييز الكاذب من الصادق..

ولكن "الخبير" يدرك أيضاً أن هناك حالات استثنائية لا يتحمل فيها البعض رهبة الموقف فينهارون ويظهرون كاذبين رغم براءتهم. وفي المقابل هناك من يملك أعصاباً فولاذية وسيطرة كاملة فينجو رغم كذبه.. وهذه الاستثنائية جعلت المحاكم الأمريكية لا تأخذ نتائج الجهاز كدليل إدانة وإن كان الجميع يعترف بفائدته في توجيه جهود الشرطة والحد من المشتبه بهم!!

وما يظهر لي أن بدو سينا سبقوا الأمريكان في اختراع جهاز كهذا (وهو ما أشرت إليه في إحدى رسائل الجوال)؛ فقد لاحظوا أن الكاذب "ينشف ريقه" ولا يعود قادراً على إفراز اللعاب. واعتماداً على هذه الحقيقة يعمدون لتسخين محمسة القهوة حتى الاحمرار ثم "تُلسع" بها ألسنة المشتبه بهم.. والفكرة هنا أن الصادق لا يتعرض للحرق إذا "كوم" اللعاب في فمه؛ أما الكاذب فيجف ريقه فتظهر على لسانه (كوية) وقد يتأثر كلامه لعدة أيام.. وأرى شخصياً أن محمسة القهوة تتفوق على جهاز كشف الكذب لأنه في90% من الحالات يرفض الكاذب إخراج لسانه أو يعترف بفعلته قبل إدخال المحمسة وحرق لسانه!!

على أي حال؛ بالإضافة للمظاهر التي ذكرناها في بداية المقال يتحاشى الكاذب النظر في عينيك، ويكثر من الحلفان، ويكرر مايوحي ببراءته (حتى كاد المريب ان يقول خذوني)، ويحاول تغيير الموضوع، ويعتمد على العشم وحق العلاقة بينكما(كأن يقول: ألم تعد تثق بي؟)، كما يقوم بحركات عصبية لا واعية (كأن يلعب بالقلم حتى يسقط منه)، ويفعل أي شيء لتخفيف حدة الموقف (كأن يقوم فجأة لفتح المكيف أو إحضار الشاي)، أو يمثل دور المظلوم حتى قبل اتهامه كما قال إخوة يوسف لأبيهم قبل اتهامهم (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، وقد يفعل مثلما كان يفعل "نيازي" يحك خلف أذنه ويطأطئ رأسه للأرض حيث يملك كل إنسان "حركة" عفوية تظهر عليه حين يكذب فقط.. والأهم من كل هذا يتملكك أنت حدس بوجود شيء مفقود أو غير طبيعي في كلامه!!

... بقي أن أنصحك أنت بتجنب الكذب قدر الإمكان ولا أقول هذا من باب الوعظ أو التمشيخ ولكن لأن الكذب يأكل من سمعتك (وهذا أولاً) وثانياً لأن كل كذبة تطلقها تحتاج لاحقاً إلى عشرين كذبة تساندها (وتذكر كم مرة اضطررت لفعل ذلك مع زوجتك)..

... في أسوأ الظروف تصرف كجنتلمان إنجليزي..

لا يكذب؛ ولكنه لا يقول الحقيقة!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...