الخميس، 29 أغسطس 2019

يجعل البر قمحاً في حديثه


واصل بن عطاء من أئمة البلغاء وخيرة الفقهاء ولد بالمدينة عام 80ه وتوفي بالبصرة عام 131ه وله مؤلفات عديدة من أهمها "معاني القرآن" و "طبقات أهل العلم".. والعجيب أنه كان خطيباً بارعاً رغم أنه كان مصاباً بلثغة في لسانه جعلته يتجنب حرف الراء في جميع خطبه.. وأرى شخصياً أن محاولاته تجنب حرف الراء ساهمت في ابتكاره لمعانٍ ثورية وتراكيب لغوية جديدة في لغتنا العربية.. فإذا أراد ان يقول مثلاً "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" يقول "أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي" وإذا أراد ان يقول "بسم الله الرحمن الرحيم" يقول "بسم الله الفتاح المنان عظيم الجود والسلطان" .. ومن خطبه التي تحاشى فيها حرف الراء تلك التي ألقاها أمام عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز حين تولى العراق وجاء فيها:

الحمد لله (ولم يقل الرحمن الرحيم) القديم بلا غاية والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولايحيط به مكان. ولا يؤوده حفظ ماخلق (متحاشياً قوله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما) ولم يخلق على مثال سابق، بل أنشأه ابتداعاً وعدله اصطناعاً فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه ولا دافع لقضائه تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لسلطانه ولا يعزب عنه مثقال ذرة ،متجاوزا قوله تعالى: (في الأرض ولا في السماء) وهو السميع العليم....

واسترسل في هذه الخطبة الجميلة بما يملأ صفحات حتى ختمها بقوله:

نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم والوحي المبين (ولم يقل الذكر المبين)، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم (ولم يتعرض للشيطان الرجيم) وأدخلنا وإياكم جنات النعيم، أقول ما أعظكم به وأستعتب الله (ولم يقل أستغفر الله) لي ولكم ولجميع (ولم يقل لسائر) المسلمين من كل ذنب عظيم !!!!

أنا شخصياً أتذكر واصل بن عطاء بين الحين والآخر بفضل خطيب في حّينا القديم لم أر مثل بلاغته وقدرته على أسر المشاعر والقلوب. أذكر قبل سنوات طويلة أنني استفتيته في قضية أشكلت عليّ فاكتشفت سراً عجيباً. كان الرجل ألثغ يقلب حرف "الزاي" إلى "ذال"..

اكتشف ذلك حين سألني: أما ذلت (ويقصد: أما زلت) تفعل ذلك؟

ورغم انني لم أعد أفعل ذلك؛ إلا انني بدأت أتنبه لخُطبه التالية واكتشفت كم كان ماهراً في تجنب الكلمات التي تضم حرف الزاء والاستعاضة عنها بمترادفات مشابهة.. فقد لاحظت مثلاً انه يستخدم كلمة "حليلة" بدل "زوجة" و "بعل المرأة" بدل "زوج المرأة" و"الفاحشة" بدل "الزنا" و"التقشف" بدل "الزهد"... الجميل في الموضوع انه كان يفعل ذلك بتلقائية وثقة وبدون أن يلفت انتباه أحد!!!

وكما كشفت سره بالصدفة يبدو أن هناك (ملقوف مثلي) كشف سر واصل بن عطاء فقال فيه بيتين طريفين:

يجعل البر قمحاً في حديثه ويجانب الراء حتى يحتال للشعر

ولا يقول مطراً والقول يعجله ويلوذ بالغيث إشفاقا من المطر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...