الأحد، 27 أكتوبر 2019

الإلهام لحظة يسبقها عمرٌ


نتحدث دائما عن "لحظة الإلهام" وكأنها حدث مفاجئ أو هبة غير منتظرة.. ولكنها في نظري (لحظة إعلان النتائج) التي يسبقها كثير من الجهد والتحضير والاستعداد الطويل.. فهي لحظة الحقيقة التي تأتي فقط للعقول المستعدة، وتخرج للوجود بعد مخاض فكري طويل يبذله الفائز بالجائزة.

تحدث نزار قباني في أحد لقاءاته عن قصيدة بعنوان (حبلى) تخمرت في رأسه لسنوات طويلة حتى كان ذات يوم ينزل درج إحدى البنايات فقرر فجأة الجلوس على آخر درجة لكتابتها في دقائق.

وكان الموسيقار الألماني بيتهوفن قد اعتزل الناس في آخر حياته حتى ظنوا أنه مات.. أما جيرانه فكانوا على قناعة بأنه أصيب بالجنون كونه كان دائما يردد نغمة واحدة لم تفارق شفتيه طوال سبع سنوات، وفجأة قرر كتابة هذه النغمة كقطعة موسيقية فغدت اليوم أعظم معزوفة عالمية (تدعى السيمفونية التاسعة).

وكان آينشتاين يفكر طوال سنوات في كيفية التوفيق بين طبيعة الزمن وعلاقته بالكتلة والفضاء (وهي معضلة حيرت علماء كثيرين قبله).. وذات يوم، وبينما كان يمشي تحت برج الساعة (في مدينة بيرن السويسرية) أدرك في لحظة إلهام أن الزمن مجرد شعور نسبي يتغير بتغير الكتلة والسرعة وموقع من يرصد الوقت!!

وكانت رواية مئة عام من العزلة (التي ترجمت لأكثر من ثلاثين لغة عالمية) تلح في ذهن الأديب الكولمبي غابرييل ماركيز طوال خمسة عشر عاما حتى قرر فجأة ترك عمله ومدينته وعائلته للتفرغ لكتابها عام 1965 في وقت قياسي!!

… إذاً؛ صحيح أن الإلهام يأتي فجأة، ولكنه محصلة نهائية لانشغال مستمر وقديم بالفكرة.. فعقلنا الباطن لايتوقف أبداً عن التفكير حتى أثناء النوم والاسترخاء.. وهو عنيد لا ينسى أصل المشكلة حتى إن اعتقدنا نحن نسيانها، وحين ينتهي من إنجازها يبرز الحل في رؤوسنا بلا مقدمات.. أثناء النوم أو الجلوس في الحمام أو التوقف عند إشارة المرور!!

ولو أتيحت لك اليوم فرصة سؤال أحد الأدباء أو المفكرين سيخبرك أن لحظات الإلهام هبطت عليه (صحيح في لحظة)، ولكن بعد وقت طويل من الاهتمام والتفكير وإلحاح الفكرة..

والآن أيها السادة..

ماذا نتعلم من كل هذه القصص والنماذج؟

… أن الإلهام "لحظة" يسبقها إلحاح قديم واهتمام طويل.. نتعلم أن مجرد اهتمامنا بالأفكار الرائدة سيتمخض ذات يوم عن "لحظة إلهام" نكتشف فيها الحل فجأة، وكأنه فتح رباني لم يأت لسوانا، وحين يحدث معك ذلك لا تتردد في تنفيذها على أرض الواقع -ليس فقط لأنك تأخرت بما فيه الكفاية- بل لأن عقلك الباطن يكون قد أنهى المهمة التي كلفته بها منذ وقت طويل -دون أن تدري- ولن يمنحك لحظة إلهام أخرى مشابهة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...