الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

قد يكون جائزاً شرعاً ولكن ليس أخلاقاً


حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا ينوي الزواج على ابنته فاطمة اعتلى المنبر وقال: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم إلى علي بن أبي طالب فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها".. وفي رواية أخرى: "وإني لست أحرم حلالا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله، وبنت عدو الله في مكان واحد".

ونحن نعرف أن تعدد الزوجات جائز شرعا، ولكنه في حالة كهذه لم يكن جائزا أخلاقا - ولا يتمنى أي أب لابنته التعدد ذاته.

ومن هذه القصة نستنتج أن هناك أمورا قد تكون مباحة (وجائزة شرعا) ولكنها غير جائزة أخلاقا أو في أوقات وظروف خاصة.

فالتشريع بمثابة قوانين شمولية (لا تتتبع الظروف الخاصة ولا الاستثناءات العامة) وبالتالي قد يكون هناك فعلا نص وتشريع، ولكن تطبيقه أو تعليقه يترك لتقدير القاضي أو ولي الأمر..

وليس أدل على هذا من تعطيل الخلفاء الراشدين لبعض الحدود بسبب استثنائية الظرف أو الخوف من حدوث تداعيات أعظم من التشريع نفسه.. فعمر بن الخطاب مثلا منع حد السرقة في عام الرمادة حين جاع الناس وكثرت السرقات.. وعلي بن أبي طالب لم يطبق حد القتل فيمن اغتالوا عثمان بن عفان - ليس لأنه لا يعرفهم - بل لأن تطبيقه عليهم كان سيتسبب في انقسام مجتمع المدينة ونشوب حرب أهلية تنتهي بمقتل المزيد من التابعين وأبناء الصحابة.

وعلى نفس السياق يوجد في السعودية اليوم أكثر من 8 ملايين وافد أجنبي - كثير منهم غير مسلمين.. تخيل كيف ستصبح علاقتنا مع دولهم لو طبقنا عليهم دائما حدود السرقة والزنا وشرب الخمور.. في حالات كهذه قد يكون من الأسلم - والأكثر منفعة - اكتفاء القاضي بالتعزير أو طلب الترحيل أو التعهد بعدم التكرار.

وكما لا يمكننا تطبيق كل ما يؤمر به، لا يمكننا ادعاء أن كل ماهو مباح شرعاً جائز أخلاقا.

خذ كمثال "الطلاق" الذي لم يُحرم في عمومه، ولكنه يصبح غير أخلاقي حين يتضمن ظلما أو قهرا أو تهربا من مسؤولية الأبناء والصرف عليهم.. يصبح غير أخلاقي حين يحدث لامرأة عجوز تركها زوجها بعد إنجاب درزن أطفال بلا مستقبل أو منزل أو دخل ثابت (بحيث يقول الناس: لو كانت في أمريكا لنالت نصف ثروته)!

أعرف شيخا متقاعدا تزوج للمرة الثالثة من فتاة أصغر من بناته وترك خلفه زوجتين كبيرتين لم يعد يزورهما على الإطلاق.. وحين ألح عليه أبناؤه بضرورة العدل بين زوجاته لم يجد مخرجا غير تطليقهما نهائيا بحجة أن الطلاق (جائز شرعا) في حين أن من لا يعدل، يأتي وشقه الأيمن مائل يوم القيامة!!

.. وقس على هذا الكثير من المسائل والقضايا التي قد لا تخالف شرعا (بل وقد يحللها البعض كزواج المسيار وقروض المبيع) ولكنها من الناحية الأخلاقية تفوق في ظلمها وتداعياتها ماتم تحريمه أصلا لنفس السبب (كزواج المتعة والفوائد الربوية التي قد لا تتجاوز 2% مقابل 40% للقروض المحللة شرعا)!!

وهكذا يتضح أن تركيزنا فقط على ما هو شرعي (وليس على ما هو أخلاقي) هو ما يجعلنا ننزلق نحو التحايل والتحليل وشرعنة ما حرمه الدين منذ البداية.. وحين نعتقد أن الفتاوى هي المرجع الوحيد للصح والخطأ ينصب همنا على ما هو شرعي (ومن أين نحصل على الفتوى المناسبة) وليس على ما هو أخلاقي أو انساني - ويصبح همنا الوحيد "اجعل بينك وبين النار مطوعاً"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...