الأحد، 27 أكتوبر 2019

لو لم يكن متشدداً ما أصبح متطرفاً


تشرفت يوم الخميس الماضي بالمشاركة في اللقاء التحضيري الرابع الذي أقامه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في المدينة المنورة (تمهيداً للقاء الوطني العاشر حول التطرف وآثاره على الوحدة الوطنية)..

وكان المحور الأول يتضمن تعريف التطرف وواقع التشدد في المجتمع.. وبهذا الخصوص أشرت إلى ضرورة التفريق بين التطرف من جهة و"التدين" و"التعصب" و"التشدد" من جهة أخرى..

فالتدين حالة عامة ومسالمة حيث يؤمن معظم الناس في معظم البلدان بديانة محلية يفترض أن تجمعهم ولا تفرقهم..

أما التعصب فطبيعة إنسانية لا ترتبط بالدين بالضرورة كوننا قد نتعصب لفكرة أو منهج أو شخص أو حتى نادٍ رياضي دون الإضرار بأحد..

أما التشدد فخيار شخصي قد يصل بصاحبه درجة ابتكار المحرمات وتحريم المباحات تحت حجج كثيرة كالزهد والتحوط وسد الذرائع!!

.. ويظل "التشدد" خياراً فردياً حتى يقرر صاحبه ترويجه علناً أو فرضه بالقوة فيصبح "متطرفا" يجمع بين تشدد الفكرة والسعي للتطبيق.. ومن هنا ندرك أن التشدد هو بداية التطرف وابتعاد صاحبه عن الوسطية ورفض ما يخالف قناعاته الفردية.. والمتطرف يصعب إقناعه بالأدلة الشرعية أو الشواهد العقلية كونه أصبح يملك تفسيرات مغايرة لكل نص ومنطق قد تحاجه به.. وحين يصل إلى مرحلة الدعوة للتخريب أو حمل السلاح يتحول إلى "إرهابي" تجاوز نقطة "اللاعودة"، وبالتالي توقع منه قتلاً أو تفجيراً أو عملاً انتحارياً لا يشك في قدسيته..

أما المحور الثاني في اللقاء فكان يتعلق بالأسباب المؤدية إلى التطرف والتشدد..

والحقيقة أنني وقفت كثيراً أمام هذا المحور كون المعروف لا يُعرّف، وأسباب التطرف في نظري على الأقل واضحة بوضوح اختلافنا حتى عن أقرب المجتمعات إلينا!!

... ومن أهم الأسباب المسؤولة برأيي عن تفريخ التطرف:

التمسك بمدرسة فقهية واحدة وعدم الانفتاح على المدارس والآراء الفقهية الأخرى..

منح عصمة رسمية ومنزلة أكاديمية لبعض المناهج والأفكار المتشددة..
عدم التسامح، والتحريض على من يملكون آراء واجتهادات مخالفة..

تكفير الآخرين اعتماداً على فروع فقهية أو مسائل خلافية مضى عليها قرون..

الجهل وغياب ثقافة الفصل بين المحرمات الاجتماعية، والمحرمات الدينية..

التركيز على الاستثناء والنادر والمحتمل وتحويله لقاعدة أو ظاهرة تستدعي التحريم (لدرجة يظن الغريب أننا نتحدث عن ظاهرة خطيرة تنتشر فعلاً في مجتمعنا)..

تقديم فتاوى الفرق المتشددة على أقوال الرسول الكريم (في حين يقول أنس أبن مالك: كلٌ يُؤخذ منه ويُرد إلا صاحب هذا القبر)..

سكوت العلماء المعتدلين أو تحرجهم من مخالفة التيار الفقهي السائد حولهم (فبعضهم يعلم بوجود تنطع أو تشدد في بعض المسائل ولكنهم لا يتجرأون على تصحيحها أو الجهر بها)!!

وفي حين كان الرسول الأمين يلتمس العذر (حتى لمن يثبت عليه الذنب) بدليل قوله لماعز: لعلك لامست أو فاخذت أو قبلت.. ورغم تحذيره من التلصص والتدخل في حياة الناس (بدليل قوله من اطلع في بيت قوم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه)، أصبح لدينا اليوم محتسبون رسميون مهمتهم التدخل في حياة الناس وأخذهم بمجرد الظن وسوء النية.

وأخيراً مبالغة الناس أنفسهم في طرح الأسئلة الفقهية وابتكار النادر والغريب منها الأمر الذي تسبب بمراكمة المحرمات ورفع نسبة التزمت والتشدد بمرور الوقت.. يفعلون ذلك رغم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِين آمنُوا لَا تسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لكُمْ تسُؤْكُم. وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...