الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

يجوز للسائح ما لا يجوز للمقيم


السياحة بالنسبة لي ليست فقط فرصة للاستجمام والاطلاع؛ بل وأيضاً إجازة ذهنية أنسى خلالها واقعنا المرير.. فخلال رحلاتي أنقطع عمداً - وبسبق الإصرار والترصد - عن أي أخبار تعيسة وتقارير مخيفة وأتجنب فتح أي تلفزيون أو صحيفة.. وهكذا؛ حين عدت مؤخراً من رحلتي في أوروبا فوجئت باحتلال الحوثيين لصنعاء، وقيامنا بقصف داعش، ونشوب حرب أهلية في ليبيا؛ في حين لم يتغير شيء في سورية والعراق وغزة إكراماً لفترة انقطاعي المؤقتة!!

وبالإضافة لحسنة الانقطاع عن الأخبار التعيسة هناك محاسن أخرى للسفر (لاتقل أهمية عن الفوائد الخمس التي ذكرها الإمام الشافعي) مثل:

عدم حمل هم ماذا تلبس وتكوي وتضع فوق رأسك.. إذ يمكنك ببساطة لبس شبشب وشورت وفانيلة رياضية كونك تتجول في بلدان لا تشغل بالها بمظهر الإنسان.. كما تنسى أيام الأسبوع وتشعر أن كل أيامك أصبحت (جمعة وسبت) وتأسف بالفعل على من يذهب لعمله في ذلك الوقت.. تنسى الريجيم لفترة قصيرة وتأكل ما كنت تتمناه منذ فترة طويلة.. ودون أن يزداد وزنك بفضل المسافات الكبيرة التي تقطعها أثناء المشي. والمشي ذاته من محاسن السفر في الخارج كونك لا تمارس الرياضة في الداخل وتنسى أنك تملك رجلين بفضل السيارة والحرارة وضيق الوقت.

كما تتاح لك فرصة قضاء وقت أطول مع عائلتك وممارسة أنشطة لا تتوفر في بلدك وسواء كنت موظفاً أو رجل أعمال ستفكر لدقيقتين في كيفية تنفيذها في السعودية! ولأنك قادم من بلاد مختلفة (وأحياناً متخلفة) يعذرك الناس على أخطائك وتجاوزاتك وجهلك ويتعاملون معك غالباً حسب قاعدة يجوز للسائح مالا يجوز للمقيم.. وركز على كلمة غالباً. ولأنك قادم من بيئة مختلفة تتخذ موقفاً إيجابياً من أشياء يتضايق منها أهل البلد.. فأهل البلد مثلاً يتضايقون من المطر، والثلوج، وفنانو الشوارع.. في حين تستمتع أنت وتندهش من كل هذا.

وحتى حين تتعطل في الزحام، أو تتعرض لمشكلة، أو تتوه في إحدى المدن تنتهي بخبرة جديدة وقصة تستحق السرد.. وهي في جميع الأحوال أفضل مما يحدث لجاركم في الحي.

وفي حال أحسنت الاختيار؛ يصبح الفندق ذاته جزءاً من المتعة.. فالحمام أكبر، والغرفة أجمل، والفطور أفضل، والطعام أفخم، والجميع يبتسم في وجهك ويعاملك كملك..

وخلال رحلتك تتخلص من هاجس وجود من يراقب أفعالك ويملي عليك تصرفاتك - بل وتشعر أنك غير مرئي بسبب انشغال كل إنسان بنفسه..

كما تدرك عند لحظة معينة أنك كنت مخطئاً أو مبالغاً في نظرتك السلبية للعالم الخارجي، وتدرك لأول مرة أن من لم يغادر بلده يملك أفكاراً خاطئة عن الآخرين..

فمهما كنت عالماً بالجغرافيا ومطلعاً على أحوال الشعوب؛ ليس مثل انتقالك داخل الجغرافيا وعيشك مع الشعوب ذاتها (وابحث في النت عن مقال: السياحة مع أهل البلد).

وبعد عودتك تشعر أنك تعلمت بطريقة مختلفة لم تكن لتحدث لو بقيت في مدينتك أو سحت في بيئة مشابهة لها (فنحن نتعلم من خلال المقارنة والاختلاف وليس من خلال التشابه وثبات الحال)!!

.. والآن.. بعد استثناء الظنون السيئة.. ماذا نتعلم من كل هذا؟

بعد إضافة فوائد الشافعي الخمس نختتم مقالنا بالفائدة (رقم20):

تشجيع السياحة الداخلية لا يقتصر فقط على تأهيل الفنادق ومراقبة الأسعار ومتابعة جودة الفعاليات.. فمجرد شعور السائح بالاحترام والخصوصية وراحة البال يجعل من أي كافيه في أوربا متعة جميلة وذكرى لا تنسى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...