الأحد، 27 أكتوبر 2019

الشاطر من يستعد لموت أبي سعد


كان ياما كان؛ في إحدى القرى أيام زمان، رجل معسول اللسان، يدعى أبو سعد .. كان بمعايير قريته تاجرا ثريا يبيع الرز والطحين ويتصرف كوزير للتموين.. ورغم أنه ابن إمام سابق كان يقرض الناس بفوائد ويبيع ذات الكيس القديم على جميع المقترضين.. وبمرور الأيام اشترى خزنة من الشام فأصبح الناس يضعون لديه المال خوفا من أولاد الحرام.. غير أن أبا سعد بدأ يتضايق من ثقة الناس في خزنته فقرر أخذ أجر على ما يوضع في حوزته.. والغريب أن الناس وافقوا على ذلك لأن أخذ أجر ضئيل أفضل من ذهاب المال العظيم.. وشيئا فشيئا أدرك أنه أكتشف "منجم ذهب" وتجارة أعجب من العجب.. فأموال القرية لا تتراكم في خزنته فقط بل وأصبح يأخذ عليها أجرا - ثم يعيد إقراض المال على أصحابه بفوائد لا تشمل أتعابه!!

وكي يخرس الأصوات المشككة بأمانته أصبح يمنح المودعين في خزنته سندات بضمانته.. فمنذ اشترى الخزنة تعلم أن ثقة الناس بأمانته هي رأس ماله الحقيقي (فلولا ثقتهم ما أودعوا أموالهم، ولا اقترضوا لأبنائهم، ولا أخذوا سندات ورقية مقابل مجوهرات حقيقية).. وكي يرفع مستوى الثقة في أمانته (وأرصدته) أطال لحيته وأسدل غترته واشترى خزنة أقوى وأعظم من بلاد أرقى وأبعد تدعى "إيطاليا"..

وبالفعل تحقق له المراد وأصبح الناس لا يطالبون بأموالهم ويكتفون بالسندات التي يمنحها لهم.. وبمرور الأيام نسي الناس (الذهب والأموال الحقيقية) وتحولت سندات أبي سعد الى نقود ورقية يتداولونها بضمانته الشخصية!!

وحين كبر الجيل التالي في القرية لم يكن يعرف أصل الحكاية ونشأ معتقدا أن النقود هي المال، وسندات أبي سعد أحد مشتقات الذهب.. ولكن أبا سعد كبر بدوره بالسن وذات يوم زاره تاجر صغير يريد استبدال سنداته الورقية بقطع ذهبية فوجده ميتا على كرسيه .. أصيب بالهلع (ليس لأن أبا سعد مات مبتسما) بل لوفاة من يحول أوراقه ذهبا.. لم يتمالك أعصابه فخرج يصرخ في شوارع القرية "أبو سعد مات" "أبو سعد مات" فتجمع الناس حول الخزنة يريدون أموالهم فحصل تدافع وشغب ومات أضعف الناس في الطلب. لم يكن هناك حتى من يتطوع لدفن أبي سعد خشية فتح الخزنة أثناء ذهابهم للمقبرة..

أما الخزنة فكانت عند حسن ظن الناس بها حيث تطلب الأمر تسعة أيام لكسرها.. وحين فتحوها اكتشفوا أنها شبه فارغة ولم يجدوا سوى "عُشر" ما يغطي سنداتهم البائسة.. ولأن المودعين يريدون أموالهم كاملة نشبت معارك وشغب ومات مرة أخرى أضعف الناس في الطلب!!

والآن أيها السادة؛ أمدكم الله بالمال والسعادة، ماذا نستفيد من هذه القصة غير المعتادة!؟

نستفيد التالي:

أن المال غير النقود ؛ فالمال هو الممتلكات الحقيقية، أما النقود فهي الأوراق البنكية. وفي الأحوال العادية يثق الناس (بالنقود) ويتعاملون معها (كأموال) وينشأ أبناؤهم على ذلك. لا يكتشفون أنها مجرد أوراق إلا عند انهيار البنوك أو حدوث أزمات عالمية (وتتذكرون كيف تحولت الدينارات العراقية لمجرد أوراق غبية)!

أما أبو سعد فهو أنموذج للبنوك التي تُقرض الناس من أموالهم، ولا تحتفظ سوى بنسبة ضئيلة من أموال المودعين الحقيقية (فهي تعرف أنهم لن يطالبوا بها كلها.. وإن فعلوا.. ليس في نفس الوقت)!

كما يمكن اعتبار أبي سعد أنموذجا لأمريكا التي تختزن ذهب العالم وتمنحه في المقابل سندات مختومة ودولارات مطبوعة تكتسب قوتها (ليس من كونها أموالا حقيقية) بل من ثقة العالم بها وحرصهم على تجميعها.

ولكن البنوك ستفلس ذات يوم، والاقتصاد الأمريكي سيموت كرجل كبر بالسن، فلا يجد الناس بين أيديهم سوى سندات ودولارات لا تكفي لشراء الفتات!.

والشاطر من يستعد لموت أبي سعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...