الاثنين، 9 ديسمبر 2019

صديقكم الأول


سبق أن كتبت مقالاً بعنوان (مشبعة وغير مشبعة) أكدت فيه على ضرورة التفريق بين الدهون المشبعة المسؤولة عن انسداد الشرايين ورفع مستوى الكوليسترول الضار، والدهون غير المشبعة التي لا تتحول لكوليسترول ضار وتساهم في "تسليك" الشرايين وتتضمن فوائد كثيرة إذا استهلكت باعتدال!!

الدهون المشبعة تتواجد في المنتجات الحيوانية وبعض الزيوت النباتية كزيت النخيل وجوز الهند (وهي بمثابة أحماض دهنية مشبعة بالهيدروجين) في حين تتواجد الدهون غير المشبعة في زيت الزيتون وزيت السمك وزيت الذرة وعباد الشمس والفول السوداني والأطعمة البحرية ومعظم أنواع المكسرات.. وفي حين ترتفع مخاطر الأولى في حال الإكثار منها، ترتفع مخاطر الثانية في حال الإقلال منها - وهي عوامل فصلتها في مقال سابق، بعنوان "مشبعة وغير مشبعة".

أما المدهش أكثر فهو أن يتسبب انخفاض الدهون غير المشبعة في الكآبة والتوتر وضيق الخلق - وهي أمور سبق ولاحظتها شخصياً في وجوه من يعملون "ريجيم" ولكنني كنت أظنها ناجمة فقط عن الحرمان وطول الممانعة.

وكان الدكتور جوزيف هابلين (من الجمعية الأميركية لطب النفس) أبرز من تحدث عن مسؤولية انخفاض الدهون في ظهور بعض الحالات النفسية والعصبية.. ويقول إنه تنبه لهذه الحقيقة حين حمل بين يديه ذات يوم دماغاً بشرياً وأدرك فجأة أنه يتكون في معظمه من "دهون".. ومن هنا بدأ يتساءل إن كان الإقلال من استهلاك الدهون يؤثر على مزاجنا ونفسيتنا ومهاراتنا العقلية؟

وتتضح هذه المشكلة على وجه الخصوص حين نخضع للريجيم (ونمتنع عن استهلاك الدهون) فيتعكر مزاجنا ونصاب بالكآبة وضيق النفس.. وحسب الدكتور هابلين ترتفع نسبة الاكتئاب لدى الشعوب التي تفرط في تناول الدهون الحيوانية، وتنخفض لدى الشعوب التي تعتمد أكثر على الدهون غير المشبعة (وأهمها زيت الزيتون) والمنتجات البحرية (وأهما الأسماك والروبيان)؛ واستشهد بالفرق بين الشعب الياباني والبريطاني حيث تصيب الكآبة أربعة مواطنين بريطانيين من بين كل عشرة يتناولون اللحوم الحمراء - وتصرف في كل عام 22 مليون وصفة لمضادات الاكتئاب (مثل البروزاك) تتجاوز فاتورتها 296 مليون جنية إسترليني.

وفي دراسة أشرف عليها الدكتور جوزيف شخصياً تم علاج الكآبة بإعطاء المرضى كميات كبيرة من زيت السمك لمدة أسبوعين.. وفي تجربة مشابهة قام الدكتور مالكوم بييت من جامعة شيفيلد بإعطاء 70 مريضاً كميات كبيرة من زيت السمك فتحسن 69% منهم.. ليس هذا فحسب، بل أصبح مؤكداً أن الدهون البحرية وغير المشبعة تشجعان خلايا المخ على النمو وتحميهما من التآكل؛ كما يعتقد أن تناول كمية كبيرة منهما في سن صغيرة يحمي الدماغ من مظاهر الاكتئاب في المستقبل!

ورغم اعتقادي أن للكآبة أسباباً متعددة ومتشابكة؛ إلا أن هناك شواهد تؤكد رأي الدكتور جوزيف بخصوص دور الدهون في عمل الدماغ (عموماً)؛ خذ كمثال خرف الشيخوخة والزهايمر الذي يعود إلى انخفاض ناقل عصبي دهني في الدماغ يدعى دوبلاين.. أضف لهذا حقيقية أن ما يسمى "اكتئاب ما بعد الولادة" وكره بعض الأمهات لمواليدهن خلال تلك الفترة سببه انخفاض ناقل دهني فى الدماغ يدعى نورايبي نفرين.

وكما ختمت مقال "مشبعة وغير مشبعة" سابقاً بجملة "المفاطيح عدوكم الأول" أختم مقال اليوم بجملة: "واجعلوا من زيت الزيتون صديقكم الأول"!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...