الاثنين، 9 ديسمبر 2019

لسان الأمة المشترك


لا يوجد حسب علمي تعريف دقيق لمفهوم الأمة أو Nation في أي ثقافة عالمية. فوصف "الأمة" قد يطلق على مجموعات بشرية تملك تاريخاً مشتركاً (كالأمة الصينية) أو تعيش ضمن نطاق جغرافي معين (كجزر الملايو) أو تشترك بعرق وثقافة واحدة (كالأمة العربية) أو تنتسب لديانة رئيسية كبيرة (كالأمة الاسلامية) أو تنضوي تحت تشريعات ودساتير حديثة نسبياً (كالأمم اللاتينية في أمريكا الجنوبية مثلاً)..

وفي حين يمكن للجغرافيا والتاريخ والديانات منحنا أشكالاً مختلفة للأمة الواحدة، لا أجد شخصيا أقوى من (اللغة) لخلق هذا المفهوم فور سماعنا له..

فالأمم قد تتشكل من ديانات وأعراق وجنسيات مختلفة ولكنها تحتاج في النهاية الى لغة مشتركة تربط بين كل هذه التنوعات.. تأمل كمثال "الأمة الأمريكية" ستكتشف أنها تتشكل من مهاجرين قدموا من دول وأعراق وديانات ولغات مختلفة، ولكنهم في النهاية اشتركوا بلغة واحدة (أصبحت هي لغة التعليم والترفية والأخبار والتعاملات اليومية).. وخذ كمثال آخر اسرائيل التي تضم يهوداً من روسيا وبولندا وألمانيا وفرنسا -بل وحتى من أثيوبيا واليمن والمغرب- ولم يجمعهم في النهاية سوى اللغة العبرية (التي أعيد إحياؤها من العدم تقريباً كي تصهر كل هذا الشتات معاً)!!

... ومن الملاحظ عموماً أن الانصهار ضمن لغة مشتركة لا يحدث إلا في الدول التي تعتمد على استقطاب المهاجرين من بقية الأمم (كأمريكا وإسرائيل).. وفي المقابل يصعب فرض لغة مشتركة واحدة في حال كانت الدولة تملك داخلها شعوباً قديمة وأصيلة تعتز كل منها بلغتها المحلية.. لهذا السبب (ومنعاً للقلاقل والاضطرابات) تعترف حكومة جنوب أفريقيا رسميا بإحدً عشرة لغة قبلية كلغات رسمية (بعد أن كانت الإنجليزية والهولندية هي اللغات الرسمية فقط زمن الحكم العنصري الأبيض).. وتعترف الهند كذلك (بجانب اللغتين الهندية والإنجليزية) بأكبر 14 لغة محلية كلغات وطنية. كما يشكل الاعتراف بأربع لغات رسمية أساس "الاتحاد السويسري" الذي يتكون من أربعة شعوب مختلفة (ألمانية وفرنسية وإيطالية ورومانشية)...

والحقيقة أن الاعتراف باللغات القومية كان احد الروابط الأساسية في الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا السابقتين. والدول المتحضرة تعترف اليوم بلغة الاقليات فيها مهما كان صغيرة ومحدودة.. ففي فنلندا مثلا يتكلم 92% من السكان اللغة الفنلندية ومع ذلك تعترف الحكومة بلغة الأقلية السويدية كلغة رسمية.. وفي ايرلندا يتحدث 98% من السكان اللغة الانجليزية، ومع ذلك تعترف الحكومة باللغة الغيلية التي لايتحدثها غير 2% ..

والعجيب أكثر أن هناك دولاً تجنبت إغضاب أقلياتها من خلال تجاهل كافة اللغات المحلية واختيار لغة أجنبية كلغة رسمية.. فغينيا الجديدة مثلا تملك 800 لغة محلية وبالتالي لم تجد خياراً غير اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة رسمية.. ولأسباب أقل تعقيداً اختارت زامبيا وسيراليون اللغة الانجليزية، وتشاد والسنغال اللغة الفرنسية (وبالإجمال) هناك 57 بلداً حول العالم تعتمد اللغة الانجليزية كلغة رسمية و33 بلداً اللغة الفرنسية و21 الأسبانية!! وكل هذا يثبت أن الاشتراك بلغة واحدة (أو الاعتراف بلغة الأقلية في المجتمعات ذات الثقافة المتعددة) هو أبرز ما يوحد الدول، ويصنع الأمم، ويبلور هوية الأمة والوطن..

ورغم ضعف حديث "من تحدث العربية فهو عربي" إلا أن معناه صحيح بدليل أن اللغة العربية ذاتها لم تكن لغة إبراهيم عليه السلام، في حين تعلمها ابنه إسماعيل (وهو جد العرب) بفضل نشأته في قبيلة جرهم اليمنية.. وبالتالي أصبحنا جميعنا عرباً لهذا السبب!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...