الأحد، 8 ديسمبر 2019

مخدرات كانت مباحة


كان الأفيون يباع لدى العطارين في المدينة المنورة كمادة مسكنة للألم.. لم يفكر فيه أحد كمادة مخدرة بل كان يباع كعلاج لآلام المفاصل وكسور العظام وتسوس الأسنان.. وإقرارنا بهذه المعلومة لا يعني المطالبة بعودته بل لإظهار المفارقة بين موقفنا تجاهه في الماضي والحاضر.

وأتصور أن نفس المفارقة كانت موجودة مع مخدرات أخرى حول العالم.. ففي مصر مثلا أخبرني أحد العطارين أن والده وجده كانا يبيعان الهيروين والحشيش لنفس الغرض.. وبعد منع المادتين استمراا في بيع بذرة الحشيش كمادة مسكنة للألم قبل أن يصدر قرار بعدم بيعها إلا بتصريح خاص من الشرطة.. حتى منعت تماما في أواخر السبعينيات.

وحتى خارج عالمنا العربي توجد أمثلة على نفس المفارقة ؛ فأوروبا مثلا كانت تستورد الهيروين والأعشاب المخدرة كنوع من البهارات الآسيوية.. وفي عام 1897 أنتجت شركة باير الألمانية (وهي بالمناسبة الشركة التي أنتجت الاسبيرين لأول مرة) مسكنا للألم يدعى بايرهيروين Bayer Heroin. وهو كما يشير اسمه يتضمن مخدر الهيروين الذي كانت مادته الخام تستورد من أفغانستان (التي ماتزال حتى يومنا هذا تعد أكبر مصدر للهيروين والكوكايين في العالم).

وبحلول عام 1944 أصبح العقار يستخدم لعلاج أمراض كثيرة بدءا من تسكين إصابات الجنود في الحرب العالمية الثانية الى علاج المدمنين على المخدرات في نيويورك وشيكاغو (حيث تصرف لهم جرعات تنخفض بالتدريج لمساعدتهم في التخلص من الأعراض الانسحابية لمشتقات الهيروين)..

أما العجيب فعلا فهو ما كان يحدث في شركة كوكاكولا (والمشروبات الغازية عموما) التي كانت تضيف لمشروباتها نبتة مخدرة تدعى كوكا..

فكلمتا "كوكا" و "كولا" تشيران الى أهم عنصرين مكونين لهذا المشروب... الكولا نبتة أفريقية كانت تستعمل منذ آلاف السنين لصنع مشروب منعش أخضر اللون.. والكوكا نبتة مخدرة تنبت في أمريكا الجنوبية وتستخرج منها مادة الكوكايين التي تستعمل حتى اليوم كمخدر خفيف لدى سكان الأنديز (الذين يمضغون أوراقها المجففة بطريقة تذكرنا بنبتة القات في اليمن)..

وحين قام الصيدلي جون بمبرتون بتحضير مشروب "الكوكاكولا" لأول مرة عام 1885 كان يهدف فقط الى صنع دواء منعش ومخفف لآلام المرضى.. وهكذا وضع نبتة الكوكا في مشروبه الذي لقي استحسان زبائن الصيدلية - وانتشر حتى بين الأصحاء من الناس.. وحين تأسست الشركة ظلت نبتة الكوكا مكونا أساسيا في المشروب لمدة خمسة وأربعين عاما حتى تم تصنيفها كمخدر ومنعت نهائيا عام 1929 (رغم بقاء اسم المشروب كما هو حتى اليوم)!

والكوكا - مثل الحشيش والأفيون - نماذج لمواد مخدرة كانت مباحة في الماضي قبل أن تمنع في الحاضر بسبب غلبة أضرارها على حسناتها.. وهذه المفارقة مستمرة حتى اليوم حيث توجد مواد مخدرة أو مسكرة لم تدخل حتى الآن تحت مظلة المنع القانوني أو التحريم الشرعي (ولكنني أتوقع لها ذلك مستقبلا)..

والحقيقة هي أن الأمثلة كثيرة ولكن يصعب ذكرها خشية التنبيه لوجودها في ظل عدم وجود مساءلة قانونية تجاهها.. غير أن هناك نبتة القات التي لا تخفى على أحد وتنتشر في اليمن والصومال وأثيوبيا، ولا تعد ممنوعة قانونا هناك (وإن كنا نأمل ذلك مستقبلا خصوصا بعد أن صنفتها منظمة الصحة العالمية عام 1973 كمادة مخدرة).

على أي حال؛ هذه كلها نماذج تؤكد أن النظرة تجاه المواد المخدرة قد تتطور وتتغير وتتفاوت بحسب ظروف الزمان والمكان.. ولكن؛ سواء شملها أو تجاهلها القانون يظل الثابت الوحيد هو تحريم كل خبيث ومسكر ومفتر بصرف النظر عن الاسم والموقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...