الأحد، 28 يوليو 2019

هالي في تراثنا الإسلامي


لدي موسوعة فلكية تتضمن جدولا يتنبأ بموعد ظهور المذنبات المشهورة وتاريخ اقترابها من الأرض..

والمذنبات كما يعرف معظمنا صخور جليدية هائلة يملك بعضها حركة مدارية حول الشمس قد تستغرق آلاف السنين. وحين تمر بقرب الشمس تتبخر جزئيا فتظهر لها ذيول طويلة (وقد تتقاطع مداراتها أو تقترب من الأرض وبقية كواكب المجموعة الشمسية في تواريخ معينة)..

ومن أشهر هذه المذنبات المذنب أنكي صاحب أقصر دورة تتعلق بمروره بالأرض (3,3 أعوام فقط) والمذنب هالي الذي يمر بالأرض كل 76 عاما والمذنب كوهوتيك الذي يمر بالأرض كل 80 عاما - وصولا إلى المذنب هيلبوب الذي لا يمر بالأرض إلا مرة واحدة كل 4210 أعوام (ولولا مروره بها في يوليو 1995 لما علم بوجوده أحد)!!

.. وما يهمني اليوم هو الإشارة إلى وجود مذنبات كثيرة ورد ذكرها في كتب التراث العربية تتوافق مع معارفنا الفلكية الحديثة.. خذ كمثال الفلكي الانجليزي ادموند هالي الذي رصد المذنب الذي اقترب من الأرض عام 1682 (وعرف لاحقا باسمه).. وبعد رجوعه إلى السجلات الفلكية أصبح على قناعة بأن المذنب الذي شاهده هو نفسه المذنب الذي ظهر قبل ذلك في عامي 1530 و1606.. ولأن الفرق بين التواريخ الثلاثة يبلغ 76عاما توقع هالي ظهوره مجددا في الأعوام 1758 و1834 و1910 و1986 ( والتاريخ الأخير هو آخر مرة شوهد فيها قبل عودته مستقبلا عام 2062).. ورغم أن هالي توفي قبل رؤيته شخصيا إلا أن توقعاته كانت في محلها وظهر المذنب بعد 76 عاما بالضبط فأطلق عليه اسم "مذنب هالي" تكريما له!!

ورغم أن الفضل يعود الى أدموند هالي في اكتشاف دورية المذنبات إلا انه - بالطبع - ليس أول من رصدها؛ فالتراث الإسلامي مثلا يزخر برصد مذنبات كثيرة من بينها مذنب "هالي" نفسه.. ويتضح هذا من تطابق تواريخ الرصد مع مواعيد ودورية ظهور المذنبات نفسها..

فقد تحدث ابن إياس مثلا عن ظهور مذنب "هالي" في كتاب بدائع الزهور عام 862ه (الموافق 1454ميلادي)، كما سجل ظهوره ابن الأثير عام 619ه (الموافق 1222ميلادي). وقبل ذلك سجله المقريزي في رسالة اتحاف الحنفاء عام 379ه (الموافق 989 ميلادي)، كما سجله ابن الجوزي في كتاب المنتظم عام 299ه (الموافق 913 ميلادي).. أما أقدم تاريخ رصد فيه مذنب هالي فجاء في رسالة خاصة للفيلسوف الكندي وكتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير عام 222ه (الموافق 837 ميلادي) - ولاحظ أن الفرق يظل دائما 76 عاما أو مضاعفاتها!

.. ويعد التسجيل الأخير أدق وأوضح رصد لمذنب هالي في التراث الاسلامي؛ فقد ألف عنه الفيلسوف أبو اسحاق الكندي رسالة بعنوان "رسالة خاصة فيما رصد من الأثر العظيم الذي ظهر في سنة إثنين وعشرين ومائتين للهجرة".. كما وصفه ابن الأثير في قوله "في سنة إثنين وعشرين ومائتين للهجرة ظهر عن يسار القبلة كوكب ذو ذنب وكان أول ما طلع من المغرب وكان أبيضا طويلا فهال الناس وعظم أمره عليهم".. وتتحدث الأخبار عن رعب جماعي أصاب الناس في ذلك الوقت اعتقادا منهم أن كوكبا غريبا سيسقط على الأرض.. وحين اختفى عن الأنظار بقي في ذاكرة الناس لسنوات طويلة..

لدرجة ذكره أبو تمام في قصيدته المشهورة "السيف أصدق أنباء من الكتب" حين قال:

(( وخوفوا الناس من دهياء مظلمة *** إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب )).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...