انتهيتُ مؤخراً من قراءة كتاب خاص عن تاريخ المخابرات العالمية - بما فيها الاسرائيلية والأمريكية والروسية - .. ورغم كثرة الأحداث المشوقة والفضائح المروعة لفت انتباهي قصة مؤثرة حدثت فيما كان يعرف سابقا ب"المانيا الشرقية".. فقبل اتحاد الألمانيتين في دولة واحدة كانت هناك سيدة تدعى "فيرا فولنبرغر" مناهضة للحكومة الشرقية. ورغم الصعوبات التي واجهتها كان زوجها "كنود" يشجعها ويقف بقربها ويشد من أزرها. ولأنها تدرك أن عملاء الستاسي (الاسم الرسمي للمخابرات السرية في ألمانيا الشرقية) يحيطون بها من كل جانب كانت حذرة في تصرفاتها وتحيط عملها بسرية تامة.. ومع ذلك تسربت صور وتسجيلات لقاءاتها السرية فتمكنت الستاسي من كشفها وسجنها لفترة طويلة . وكما هو متوقع واظب زوجها المخلص على زيارتها والرفع من معنوياتها، وأصبح شيئاً فشيئاً الوسيلة الوحيدة لاتصالها مع مجموعتها في الخارج. وحين انتهى الحكم الشيوعي - واتحدت الدولتان - أطلق سراحها وأصبحت شخصية سياسية مرموقة وانتخبت عضواً في البرلمان الألماني.. وحين قررت الاطلاع على ملفها الشخصي في أرشيف المخابرات المنحلة - تشجيعاً لبقية الناس لفعل ذلك - أصيبت بصدمة شلت حركتها تماما .. فقد اكتشفت أن زوجها "كنود" كان عميلاً للنظام، وطوال عشرين عاما كان يزود الستاسي بتحركاتها ومحادثاتها وصورها - بل وأخبرهم بأسماء المعارضين الذين تتصل بهم من السجن!
... هذه الحالة (الخاصة) تقودنا للحديث عن الأرشيف (العام) لبقية الناس في الحكومة الماركسية السابقة؛ فبعد اتحاد الدولتين أصبح بالإمكان الكشف عن أرشيف الستاسي (STASI) .. وحين تم الكشف عنه لأول مرة صعق العالم من حجم الشك وجنون الارتياب الذي وصل اليه النظام السابق؛ حيث اكتشف مثلا:
وجود ملفات أمنية ل16 مليون مواطن تم التجسس عليهم لمجرد الشك في ولائهم وتصرفاتهم.
ورفوف وضعت عليها الملفات يزيد طولها على 80 كلم حصيلة 45 عاماً من المراقبة والتجسس وتلفيق التهم!
وأكوام لا تحصى من النصوص المقروءة للمحادثات الهاتفية والجلسات العائلية وحوارات العمل والأصدقاء، ويوجد تحت المريب منها خطوط حمراء!!
كما يوجد في أرشيف الستاسي أكوام هائلة من قصاصات الجرائد والمجلات التي كتبها الأدباء والمثقفون وشكّ فيها الجهلة والمتخلفون من عملاء النظام!.
وملايين الأفلام والصور التي التقطت خفية وبطريقة عشوائية لأي تجمع يزيد على (ثلاثة اشخاص)!!
ويضم الأرشيف أيضا أعقاب السجائر وآلاف الأكواب التي شرب بها الموطنون بغرض فهرسة (لعابهم) واستخراج بصمتهم الوراثية !!
كما يضم قطع قماش تحتفظ بروائح المشتبه بهم (محفوظة في أوان زجاجية محكمة) لحين الحاجة اليها، أو إطلاق الكلاب للبحث عن أصحابها!
أضف لكل هذا آلاف الأقلام والمفاتيح والمحافظ والتذاكر ووو... أي مادة أمسكها المواطنون ذات يوم وتركوا بصمتهم عليها!!
.. باختصار وصل جنون الارتياب مستوى لايمكن تصديقه وأصبح التجسس يستقطع من ميزانية الدولة مايزيد على الصحة والتعليم.
وفي حين كانت شقيقتها ألمانيا الغربية (تشتري) منها حرية السجناء السياسيين بملايين الفرنكات، كانت ألمانيا الشرقية تحول هذه الملايين لجهاز الستاسي لشراء أحدث التقنيات الغربية لتطوير عمله في المراقبة والتجسس !
.. العجيب أن أغلب المواطنين "الشرقيين" رفضوا استلام ملفاتهم الخاصة بعد انهيار النظام السابق خشية أن يصدموا كما صدمت السيدة "فيرا فولنبرغر".. أما الدرس الذي يدعو للتأمل فعلا فهو أن حكومة ألمانيا الموحدة دمرت لاحقا هذا الأرشيف (وأعادت لكل مواطن ملفه الخاص) ومع ذلك لم ينهر فيها النظام أو يسقط فيها الحكم - بل ارتفعت فيها نسبة الرخاء إلى حدود لا تحلم بها الدول البوليسية -!
المخيف فعلًا أن ملفات الستاسي كُشفت في دولة كان مستوى الارتياب فيها أقل من دول عربية كثيرة.. وحسب رأيي فلن يمر وقت طويل حتى نسمع بمآس تفوق ما حدث للسيدة "فولنبرغر" في الأنظمة العربية المتداعية هذه الأيام.. وإن غداً لناظره قريب!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق