الخميس، 25 يوليو 2019

القرد ليس إثباتا


قبل عشرين عاما تقريبا حين كنت في ولاية منسوتا كنت أذهب لزيارة صديق سوري خارج سانت بول العاصمة. وكانت زياراتي له تتم دائما في «معبد الجامعة» حيث يشرف على المكتب الخاص بالتعريف بالإسلام.. وكان هذا «المعبد» عبارة عن مبنى اسمنتي مضلع (يشبه في شكله الخارجي خلية النحل أو مبنى البنتاغون) بنته الجامعة لتحقيق أكبر قدر من التواصل والتفاهم بين طلاب الديانات المختلفة. وكان كل قسم منه يضم مكتبا خاصا لإحدى الديانات الكبرى تطل جميعها على حديقة داخلية صغيرة مغلقة.. وبالإضافة للمكتب الخاص بالإسلام كان يوجد مكتبا خاصا بالمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية... بالإضافة لمكتب خاص بالملحدين واللادينيين من كافة الجنسيات..

وبحكم الجيرة والعشرة وبحكم التلاقي وكثرة الاحتكاك نشأت علاقات صداقة متوازنة ومظاهر احترام متبادلة بين كافة الأطراف (لدرجة كان أعضاء المكاتب الأخرى يفطرون معنا على مائدة رمضان).. لم يكن أحد يجرؤ على تسفيه أو انتقاد معتقدات الآخر، في حين كان يمكنه الاستفسار والنقاش معه بحرية كبيرة.. بل على العكس، لاحظت وجود (شبه اتفاق) ضد مكتب اللادينيين كونهم يرفضون أصلا فكرة وجود أي دين بصرف النظر عن اسمه وهويته!!

وذات يوم دخلت «المعبد» فوجدت صديقنا المسلم بمساعدة جاره المسيحي يتجادلان مع المشرف على مكتب اللادينيين حيث قال الأول:

«لا تحاول إقناعي بأن جدي الأكبر قرد من فصيلة الشمبانزي» !!

فرد عليه اللاديني: «ولم لا ، فقد أثبت العلم أننا نشترك مع القرد في98% من الجينات الوراثية»!

وهنا تدخل المسيحي متهكما: «والماء أيضا يشكل 98% من حجم البطيخ والسحاب فهل يعني هذا أنهما شيء واحد» !؟

... وأذكر حينها أنني كنت أحمل تمرا من المدينة بمناسبة رمضان فوضعته على الأرض من أجل التصفيق للرد الأخير..

ومن يومها وأنا أتذكر هذا الرد كلما قرأت عن اكتشاف علمي جديد يحاول تأكيد قرابتنا للقردة العليا..

فخلال العشرين عاما الماضية قرأت وصادفت الكثير من الادعاءات (وأيضا الأدلة) التي تحاول الربط بين الطرفين.. فمن اكتشاف جماجم وهياكل متشابهة، إلى وجود جينات وصفات ذهنية مشتركة تحاول إقناعنا بوجود علاقة قربى بين الانسان والشمبانزي..

غير أنني من يومها أصبحت أنظر لهذه الادعاءات كعلاقة غير ملزمة أو ذات معنى بين الطرفين.. فمهما بلغت القرائن والأدلة ناهيك عن الادعاءات غير المثبتة لم يعد أي تشابه مع القرد يتجاوز في نظري تشابه البطيخ مع السحاب!!

... المخجل أن إصرار البعض على هذا الادعاء يتجاهل حقيقة أن داروين نفسه (الذي وضع منهج التطور الأحيائي) لم يقل في كتابه أصل الأنواع بأن الإنسان أصله قرد بل ولن تجد حتى اليوم عالم أحياء محترم يتبنى مغالطة كبرى وواضحة بهذا الحجم..

كل ما فعله داروين وتفعله كتب الأحياء المجردة من الأهواء هو وضع الإنسان في أعلى السلم التصنيفي للكائنات الحية (ضمن عائلة تدعى Hominidae) مع مجموعة متماثلة عضويا تتضمن الغوريلا والشمبانزي والقردة الآسيوية (تجمع كلها تحت إسم القردة العليا أو Great apes)..

وهذا التصنيف، تصنيف عضوي مجرد ليس له علاقة بمستوى الذكاء أو التميز المعنوي للانسان (وبالتالي من الخطأ محاولة الربط بين الطرفين لمجرد أنهما يقعان في أعلى السلم الأحيائي) !!

وبيني وبينك.. إذا نظرنا للأمر من هذا الجانب لا أجد حرجا في إشراك الانسان (ليس فقط مع القرد بل ومع النعجة والحصان والثعلب) في امتلاك عينين ورئتين وأذنين ومنخرين وأعضاء كثيرة متماثلة.. وإن كنت أصدق باشتراكنا مع الشمبانزي في 98% من الجينات الوراثية؛ أتساءل عن موقع ال2% المتبقية التي تشكل الفرق الحقيقي بين الانسان وبقية الكائنات الحية!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ما لا يمكن قياسه لا يمكن الحكم عليه

ما لا يمكن قياسه؛ لا يمكن مراقبته، أو محاسبته، أو تطويـره أو الحكم عليه..  وبناء عليه؛ (ما لايمكن قياسه) يُـصبح عرضه للإهمال والفساد والتراج...